السعودية وسياسة (التدمير الذاتي)
ناصر عنقاوي
لم تخسر السعودية معاركها السياسية الإقليمية في العراق
ولبنان وفلسطين وأفغانستان والسودان وإيران وغيرها، بقرار
أميركي أو أوروبي.
أميركا لا تريد إضعاف حلفائها إلا أن تكون مضطّرة لاتخاذ
مواقف لا ترضيهم وفقاً لمصالحها، وليست كل مصالح أميركا
نقيض لمصالح أولئك الحلفاء، كما يرى ذلك الحلفاء أنفسهم!
وأوروبا كما أميركا تريد تنشيط الدور السياسي السعودي
ـ المصري ـ الأردني في المنطقة، ولا تريد لحلفائها الإرباك
والإضعاف والإذلال.
السعودية هي من هزمت نفسها.
هي من قرّر تغيير قواعد اللعبة والأدوار، فخسرت واحتُقرت
وهُمّشت سياسياً، وصارت في وضع ـ يرثى له ـ لم تصل إليه
في تاريخها الحديث.
لا أحد يلوم الأطراف الإقليمية المنتصرة والمنتشية،
بقدر ما يلوم السعودية على سوء اختياراتها وسوء خياراتها،
وعلى تغيير جلدتها ودورها وموقفها.
الشتيمة لسوريا أو إيران أو حماس أو حزب الله، أو حتى
الخرطوم والجزائر، لا يفيد السعوديين بشيء. كل ما في الأمر
هو أن السعودية تحوّلت الى مهزوم فقد بصيرته وراح يرشق
منافسيه أو المنتصرين عليه بسهام الطائفية أو بسهام التخوين
والعمالة، وهي تهمٌ لم تكن لصيقة بالسعودية كما هي اليوم!
أين أخطأت السعودية؟
بالطبع فإن آل سعود لا يعترفون بخطأ ارتكبوه، وهذا
جزءٌ من المشكلة، بحيث أنك تجد نظاماً يغرق في لجّة بحر
وهو يعتقد أنه لازال على ظهر اليابسة. إنها النرجسية السياسية
التي جعلت النظام السعودي يعيش ما يشبه أحلام اليقظة.
فالعالم كله مخطئ إلا هم. والعالم كله يتآمر عليهم، حيث
يتضخم حسّ المؤامرة بصورة كبيرة جداً هذه الأيام. والسبب
ليس أن عنصر (المحافظة) الذي طبع النظام السياسي السعودي
منذ تأسيسه يعيش هواجس التآمر عليه، بقدر ما هي أعراض
الفشل واليأس والحاجة الى تبرير الفشل في دائرة صنع القرار
السعودي وخارجه.
السعودية لا تخطئ، فهي ـ كما عقيدتها الوهابية ـ منزّهة
عن الأخطاء، وبالتالي منزّهة عن النقد، سواء جاء من الداخل
أو من الخارج. والملوك السعوديون ليسوا أنصاف آلهة، بل
آلهة بالتمام والكمال، لا يعتورها النقص، ولا يجري عليها
النسيان والخطأ، وهذا لعمري مرضٌ أعظم فتكاً من أي مرض
آخر لاتزال السعودية مبتلاة به. وفي حمّى هذه المشاعر
التنزيهية النرجسية يكون تضليل الذات أمراً حتمياً.
لا أحد ضلّل آل سعود ـ كالأميركيين مثلاً ـ بل هم أنفسهم
ضلّلوا أنفسهم ولازالوا!
ولا أحد جرّ السعوديين من أذنيهم الى مستنقع رمال متحركة
لم يكونوا يروه، بل ذهبوا ـ متحمسين ـ الى المستنقع ظنّاً
منهم أن الطريق سالكة لهم وحدهم وحلفاءهم، واثقين من النصر،
وقد جرّوا معهم كل حلفائهم إلى الوهم الكبير.
كان أمام السعودية خيارات، كما كان لغيرها من الدول
الحليفة لأميركا، ولكنها اختارت الأسوء بينها. لم يقسرها
أحدٌ على ذلك، وكان بإمكانها أن تتمتع بنفس الهامش الذي
تمتع به اليمن أو قطر أو الكويت أو حتى تونس والمغرب.
إذ لا يعقل أن السعودية بإمكاناتها المادية وموقعها الروحي
تضيق بها المساحة أكثر مما تضيق بالآخرين، وبالتالي لا
تستطيع أن تقاوم رغبة أميركية هنا أو هناك، في حين أن
الآخرين ـ الأضعف بمنطق السياسة ـ كانوا قادرين على المقاومة.
السعودية اختارت ما تريد عن وعي وإدراك، ولكن حساباتها
لم تكن علمية، وكانت واثقة من نصر ما، فخذلتها حساباتها
الضحلة، كما خذلها الإنسياق الأعمى وراء العاطفة المشبوبة
للطائفية التي تحرّكها.
السعودية هي التي وضعت السكين على رقبتها وليس أميركا
أو اوروبا.
كان بإمكانها عدم الإنحياز فاختارت الإنحياز الكامل.
وكان بإمكانها عدم الصدام فاختارت الصدام المباشر.
وكان بإمكانها أن تكون القاضي، فاختارت دور الغريم
وأصرّت على أن تكون طرفاً (اعتقدت أنه سينتصر) أصبح مهزوماً
فيما بعد.
وكان بإمكانها أن تكون شريكاً لأميركا في السياسة،
فاختارت أن تكون شريكاً في الحرب.
وكان بإمكانها أن تقف في الصف الثالث في مواجهة قوى
الممانعة، ولكنها أصرّت على أن تكون رأس الحربة في الصف
الأول.
السعودية هي من اختارت مصادمة حماس وإطلاق النار عليها.
وهي التي اختارت أن تقف ضد لبنان وحزب الله الى جانب
اسرائيل في حرب تموز، ووصفت الحزب بأنه مغامر.
وهي التي اختارت أن تساهم بصورة مباشرة في الحرب الطائفية
في العراق.
وهي التي اختارت أن تتآمر مع إسرائيل لإعداد انقلاب
يطيح بالأسد العام الفائت.
وهي التي اختارت أن تنسق مع اسرائيل وتلتقي به مرات
مرات كما هو معلوم ومنشور.
لم يجبر أحد آل سعود أن يتطوعوا فيصفوا نصر الله بأنه
شارون كما قال سعود الفيصل. هذا لم يقله أحد من حلفاء
أميركا.
ولم يطلب أحد من آل سعود أن يروجوا بأن إيران أخطر
على العرب من اسرائيل. وهو قول لم يقل به أحد من حلفاء
أميركا الكثر في المنطقة، ولم تكن تتمناه دولة إلا إسرائيل.
ولم يجر الإسرائيليون أذن السعودية ليشاركوا مع الأردن
في اغتيال عماد مغنية في دمشق.
كما لم يطلب منهم الأميركيون أن يفتحوا معركة نهر البارد
أو معركة طرابلس الموجهة في الأساس ضد حزب الله فانقلب
السحر على الساحر. في الحقيقة أن أميركا لم تكن راضية
على تلك الطريقة وإن تمنت مواجهة حزب الله.
إذا كانت السعودية تستطيع أن تقول لأميركا لا بصورة
من الصور في موضوع العملية السياسية في العراق وأن تعمل
على تخريبها وترفض فتح سفارتها، فإنها بلا شك كانت قادرة
على رفض كثير من القضايا والمواقف الأخرى لو أرادت مثلما
فعلت دول أصغر منها.
آل سعود ـ الملائكة المنزّهون ـ طعنوا أنفسهم، بخياراتهم
وسياساتهم ومواقفهم. هم من قام بالتدمير الذاتي لقوتهم
ومكانتهم وسمعتهم، وبالتالي استحقّوا ما استحقوه وما سيستحقونه
أيضاً في المستقبل.
|