التائهون المنهزمون يبحثون عن حل
الفيصل في باريس، وبندر في موسكو!
محمد شمس
رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه. والسعوديون يضخمون قدر
أنفسهم ومكانتهم، ويرون أن الدنيا كلها مدينة لهم، حتى
ضحايا النظام السعودي في لبنان والعراق واليمن وغيرها
يفترض فيهم تقدير (الموقف السعودي)!.
هذا من ناحية المعنويات، أما من ناحية الإمكانيات،
فإن السعوديين يختزلونها في (المال) ولا شيء غير المال.
هم يعتقدون بأن لا أحد في العالم يستطيع أن يجاريهم أو
يتحدّى سياستهم ماداموا قادرين على الدفع. وكأنهم وحدهم
من يمتلك المال في هذا الكون، وكأن القوّة تتلخّص في المال
وحده. ولو كان هذا صحيحاً لأضحت السعودية إمبراطورية عظمى،
لا دولة غير قادرة حتى على مواجهة اليمن، أو كتيبتين من
القوات العراقية احتلت الخفجي أثناء غزو العراق للكويت!
حتى أن قطر هي من تبرّع وتصدّى وليس السعوديين من الحرس
والجيش، فهناك مجرد أسماء وهمية تستلم رواتب آخر الشهر!
تفترض السعودية أن المال وحده قادر على تغيير سياسات
الدول، كل الدول، وفي كل الأوقات. وانها تستطيع أن تحارب
أعداءها ـ ليس بقواتها وقوتها الخاصة ـ وإنما بقوّة غيرها.
ولو أن الغير كان صغيراً لكان أمراً مقبولاً، فهناك دائماً
سلاح يبحث عمّن يشتريه، ولكن المغالاة في قوة المال تقتل
همّة الدولة السعودية نفسها، ويجعلها تعتمد على غيرها
في كل عمل سياسي تريد فعله.
يعتقد السعوديون ـ مثلاً ـ أن مجرد عقد صفقة مع دولة
ما لشراء سلاح أو غيره، كاف لأن يفهم الطرف الآخر ما تريده
السعودية ـ وبدون أن تقول شيئاً. كاف لأن تغير تلك الدولة
سياستها وتنسجم مع السياسة السعودية ومتطلباتها، حتى وإن
كانت تلك الدولة عظمى أو نصف عظمى مثل فرنسا وبريطانيا
وحتى روسيا! فضلاً عن القوى الإقليمية مثل تركيا والباكستان
لا حروب بالنيابة عن السعودية
|
وأندونيسيا.
السعودية لم تحارب تاريخياً بجنودها، حتى مع اسرائيل،
مع أنها أرسلت مئات من المقاتلين غير المدربين وغير المسلحين
في بعض الحروب. والسعودية تعلم قبل غيرها أنها ضعيفة عسكرياً
رغم صفقات السلاح الضخمة التي لم يشهد القرن العشرين ولا
الواحد والعشرين لها مثيلاً. وسبب الضعف: قرار حكومي لا
يريد أن يكون الجيش قوياً حتى لا يفكر في إعداد إنقلاب
عسكري، وحتى القوة الجوية التي هي أفضل ما لدى آل سعود،
فإنها تحت سيطرة طيارين من الأمراء (3 من كل 5 طيارين
حربيين هم من الأمراء)!
لننقل الصورة الى السياسة هذه المرّة، وعلى كامل مساحة
الوضع الإقليمي. ماذا نجد؟.
السعودية حاربت في العراق بأميركا، ولما وجدت الأخيرة
غير قادرة للتصدي للنفوذ الإيراني، كانت هناك القاعدة
وفلول المقاومة الطائفية ودفعت بالاموال والرجال والأفكار.
والسعودية حاربت في لبنان عبر قواها المحلية هناك،
ابتداءً من جعجع وجنبلاط والحريري، وحين وجدت أن هؤلاء
غير قادرين على تغيير المعادلة، استعانت بوهابييها في
نهر البارد وطرابلس. وقبل هذا كانت السعودية فرحة بضرب
اسرائيل للبنان في حرب تموز 2006. ألم يقل الإسرائيليون
بأن دولاً عربية مثل مصر والسعودية والأردن طالبوا القيادة
الإسرائيلية باستمرار الحرب الى أن يتم التخلّص من حزب
الله والى الأبد؟!
والسعودية حاربت حماس بمحمد دحلان وعباس، وبدفع مصر
لتنشيط الحصار، وساهمت هي فيه، لإسقاط حكومة هنيّة، ولاتزال
السعودية تلعب الدور الأساس الى جانب مصر في تغطية حصار
غزّة سياسياً، وهي التي لها قصب السبق في شن الحملات الإعلامية
على حماس كما هو واضح.
والسعودية التي لا قبل لها بالنظامين السوري والإيراني
أرادت محاصرتهما عبر قوى متعددة للغاية. لنأخذ سوريا مثلاً.
أرادت السعودية محاصرة دمشق عربياً أولاً، وكان ذاك
واضحاً في محاولة إفشال القمة العربية التي عقدت في دمشق.
وتحرّكت على المحكمة الدولية، كما تحركت على مصر لتنعزل
عن سوريا ومعها الأردن وحتى اليمن! ثم كان هناك التنسيق
مع أميركا وباريس للإطاحة بالنظام السوري، أو إضعافه،
ولكنها في النهاية وجدت حلقات الحصار تتفكك بعد هزيمة
اسرائيل في لبنان وبعد هزيمة حلفاء السعودية في بيروت
والذي توج في أيار الماضي.
الآن السعودية تريد ديمومة الحصار. تحركت على أميركا
لكبح جماح باريس، ولكن أميركا تعلم أن خيارات العنف والقوة
لا مكان لها. والإتحاد الأوروبي مهمته أن يقوم بالعمل
السياسي بعد أن يعجز العمل أو التهديد العسكري الأميركي.
لكن السعودية التي وقعت صفقات مع باريس هالها التغيّر
في السياسة، وكان ساركوزي للتوّ قد زار السعودية ووعد
بصفقات مالية من البقرة الحلوب! ولكن ساركوزي لا يمثل
نفسه، بل يمثل أوروبا الموحدة، والى حد ما الرأي الأميركي.
غضب السعوديون من توجيه ساركوزي دعوة الى الرئيس الأسد
لزيارة باريس، وطالبوه بأن يلغي الدعوة، وطار سعود الفيصل
الى باريس من أجل ذلك، لكن الفرنسيين اعتذروا له، وأوضحوا
له بأن فرنسا وأوروبا الموحدة لن (تبيع لبنان لدمشق) بل
(ستروضها)!
لم يقتنع السعوديون، وشعر ساركوزي بأن مصالح بلاده
قد تتضرر، فما كان منه إلا أن بعث مندوبا عنه الى المغرب
ليطلع الملك السعودي عبدالله، الذي كان يقضي عطلته هناك،
بنتائج زيارة الأسد.
السعودية التي كان همّها الإطاحة بالأسد حتى وإن كان
عبر الإنقلاب العسكري والترويج الطائفي المذهبي ضد العلويين،
ودعم المعارضة الإخوانية ورفعت الأسد وغيرهما، لم يتبق
من حلمها وهي ترى تكسر حلقات الحصار إلا أن تبقي النظام
السوري تحت الحصار. كأن السعودية عمياء لا ترى التغيرات
على الأرض اللبنانية والعراقية والأميركية والفلسطينية
وحتى الإيرانية والأوروبية، بل هي لا ترى التحولات في
|
موقف روسيا من ايران لا تغيره صفقة أسلحة
|
النظام الدولي نفسه.
لا مكان لحصار دمشق. البراغماتية الأوروبية تقبل بالامر
الواقع، بل حتى الإسرائيليون أنفسهم رضخوا ولو جزئياً
وبدأوا بالحوار، ومثلهم فعل الأميركيون من الخلف، لأن
مهمة الأميركي (التلويح بالعصا) ليجني رجال السياسة الأوروبيون
حصادهم على الأرض. السعودية لا تفهم كل هذا، فهي مقهورة
من نظام الأسد وتريد مواصلة المعارك، في حين أن المعركة
انتهت بخسارة السعودية منذ سنتين على الأقل! وبالتالي
لا مجال لحصار سوريا، إن لم يكن الواقع هو حصار للسعودية
ولحلف الإعتدال المتأمرك!
أصاب السعوديين التوتّر أكثر حين زار ساركوزي دمشق،
وكذلك فعل أمير قطر ورئيس تركيا ليجتمعوا في لقاء رباعي.
الحصار ليس تكسّر، بل تكسّر كثيراً، وكان اللقاء الدمشقي
إيذاناً بفتح الجسور على مصراعيها. ظهرت دمشق منتصرة،
فاغتاظت السعودية، رغم محاولات ساركوزي تخفيف وقع الألم
على السعوديين والمصريين في مؤتمريه الصحفيين اللذين عقدهما.
لكن السعودية (الغبيّة) عادت وأصرّت على مواصلة سياسة
محاصرة دمشق!
ترى كيف يراد إفهام هؤلاء السعوديين أبجديات السياسة؟!
طار سعود الفيصل في 9/9/08 الى باريس بعد أن عاد ساركوزي
اليها، ليجتمع مع أمين عام الرئاسة الفرنسية كلود غيان،
ليسمع بشكل مباشر عن نتائج الزيارة الفرنسية ومتعلقاتها
اللبنانية والإيرانية والإسرائيلية، وما إذا كان بالإمكان
تعضيد الموقف السعودي في المواجهات القادمة مع سوريا سواء
على الأرض اللبنانية أو غيرها.
السعودية ـ بمالها ـ تشعر وكأنها دولة عظمى، في حين
أن الدول الكبرى لا ترى فيها أكثر من صبي يعبث بأكوام
من النقد، يتم التحايل عليه بين الفينة والأخرى لسلبه
أكبر كميّة منها. هذا هو دور السعودية: الممول، والتابع
سياسياً، أما أن يملي سياسته على الآخرين (الكبار) فهذا
من الأوهام. السعودية لا يمكنها ان تجر الآخرين الكبار
لحروب سياسية أو عسكرية بالنيابة عنها. لهذا افتتحنا المقالة
بالأثر: رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه. وآل سعود لا يعرفون
قدر أنفسهم على حقيقتها!
لننتقل الى الملف الإيراني.
السعودية ممتعضة من إيران، لأنها نافستها في تبني القضايا
العربية والإسلامية، ولأنها قوة تنهض في مجالات متعددة،
ولأن خيار إيران السياسي يتعارض مع خيار السعودية، ولأن
النجاحات الإيرانية كشفت عن عجز السعودية وعجز النظام
العربي على حقيقته. ما بيد السعودية أن تفعله ليس مواجهة
إيران عسكرياً، فهي تعلم أنها أضعف من أن تقوم بذلك، ولكن
بإمكانها العمل داخل إيران تخريبياً من الزاويتين المذهبية
والقومية. وبإمكانها صرف الأموال لتشكيل حاجز طائفي ينعش
الدور السعودي، أو هكذا يراد له.
ولأنها تريد تكسير إيران باعتبارها دمّلة كما قال احد
كتاب آل سعود، فإنها مع مشروع مهاجمتها. أما حصارها فهو
يتم من خلال محاصرة حلفائها في سوريا وفي لبنان وفلسطين.
ولكن لأن مشروع المواجهة العسكرية يتراجع مع الغرب، فإن
السعودية تريد تشكيل أحزمة سياسية وطائفية مقاومة لإيران
أو معادية لها.
السعودية تريد أن تلعب على الوتر الطائفي، ولأنها تستشعر
العجز والفشل، تريد إيكال المهمة الى تركيا (السنيّة)
التي لم يعترف الوهابيون بإسلامها يوماً (كما هو واضح
من التراث الوهابي) بل يفتخرون أنهم ساهموا في إسقاط دولة
الخلافة. تركيا هي المناظر الأيديولوجي لإيران، والسعودية
تريد العودة الى حروب ما قبل خمسة قرون: الصفويون الأتراك
الذين حكموا إيران، مقابل العثمانيين الأتراك الذين حكموا
المشرق العربي والمشرق الأوروبي. لكن تركيا أذكى من أن
تدخل لعبة الطائفيات، حتى ولو كان قادتها ينتمون الى التيار
الديني. ونحن نرى تعزيزاً للعلاقات بين تركيا وكل من سوريا
وإيران، والمصالح الإقتصادية بينهما في نمو دائم، وهما
جارتان، فهل هناك من عاقل في تركيا يفتح معركة ضد جارين
له بينه وبينهما مصالح اقتصادية وأمنية؟!
الخيار المفضل كان الباكستان، ولكن الأخيرة مريضة بإرهاب
الوهابية، وستبقى كذلك في المدى المنظور، ولا يمكنها حل
مشكلاتها فضلاً ان تحل عقدة آل سعود من ايران.
أفغانستان لا تستطيع أن تقدم شيئاً لآل سعود، بل أن
النفوذ الإيراني فيها اقوى من النفوذ السعودي بعشرات المرات.
نعم حاولت السعودية جمع اندونيسيا وماليزيا وتركيا
والباكستان في مؤتمر في اسلام أباد قبل عامين لتشكيل درع
سني يواجه إيران التي لم تدعى إليه. ولكن المشروع فشل
في مهده.
ماذا بقي أمام السعودية؟
هناك موسكو!
إذن لتشتر السعودية أسلحة روسية بمليارات الدولارات
لتليين موقفها والضغط على إيران!
هذا هو الحل الأسهل للسعودية: (كب) المال! مع أن منظومة
الأسلحة الروسية مختلفة عما تمتلكة السعودية من أسلحة
غربية أميركية وبريطانية وفرنسية وحتى ألمانية. ولكن لا
يهم الأمر، حتى لو ألقيت الأسلحة في مكب النفايات. المهم
تضييق الخناق على إيران!
ولكن هل روسيا غبيّة الى هذا الحدّ، لتغيّر من نهجها
السياسي ولتصبح وهي الدولة العظمى أداة بيد السعودية؟!
يا له من طموح سعودي مأزوم!
لم تنته الحفلة بشراء الأسلحة إلا والقوات الروسية
في جورجيا! وإذا بالعالم ينقلب مرة أخرى في غير صالح السعودية!
إيران تعلن دعمها لروسيا، والأسد يطير الى موسكو من
أجل أسلحة جديدة.
وروسيا من جانبها وهي المهددة من الغرب لن تجد أمامها
إلا المعادين لأميركا والغرب سواء كانوا في آسيا أو في
أمريكا اللاتينية، وليس حلفاء الغرب امثال السعودية ومصر!
خبا موضوع السلاح النووي الإيراني طيلة الأسابيع الماضية،
فطفق بندر بن سلطان مهرولاً الى موسكو ليلتقي بوتين، لا
لتسريع صفقة الأسلحة، بل لحث الروس على تشديد موقفها من
إيران وسوريا!
أليس هذا فعل يائس؟!
أهذا فعل سياسيين محترفين أم جهلة بالوضع الإقليمي
والدولي؟!
لهذا فإن السعودية تعيش عالمها الخاص، وعقدها الخاصة،
ولن تخرج إلا بمزيد من الجراح. فمن لا تعقله الأحداث الماضية،
سيعقل بعد أن ينكسر رأسه!
|