دولة (لا أدري)
يجنح للمناكفة أو السلامة من يتصوّر أن سياسات الدولة
عموماً وسياستها الخارجية خصوصاً وفق رؤية واضحة، فلا
شيء يرشد إلى هذه الدعوى. سلوك الطبقة الحاكمة يرد إلى
الإنفعال اللحظوي مع الوقائع اليومية والمتغيرات المتسارعة،
ويخيّل إلى ما يرقب الضجيج المتصاعد من حركة الأمراء في
الخارج بأن ثمة ثماراً متراكمة بات من الصعوبة بمكان حصادها.
فكيف نستدل على الرؤية لدى الطبقة الحاكمة، إلا من
خلال التوازن الموضوعي بين الثوابت والمتغيّرات والرئيسي
والثانوي، أي العمل وفق أولويات واضحة ومعدّة بإتقان وتستهدف
تحقيق غايات محددة. أليس الأمر كذلك في السياسة وفي مجالات
الحياة عموماً؟
ندرك على وجه اليقين بأن قواعد اللعبة قد تبدّلت منذ
الحادي عشر من سبتمبر، وأملت على الدول الحليفة للولايات
المتحدة إجراء تعديلات جوهرية في نهجها السياسي العام،
ولكن لم تكن تلك التعديلات على سبيل إصلاح أشكال الخلل
المزمن في بنى الدولة، وإنما لجهة تخليق آليات جديدة في
التعامل مع التحوّلات الجديدة في السياسة الدولية.
حسناً، كل شيء تبدّل في العالم، ولكن هل ذلك يقتضي
السير في طريق يفضي إلى التيه، لمجرد كونه طريقاً والسلام،
أم يقتضي السير في طريق يفجّر كل التناقضات الكامنة في
الدولة؟
ثمة ما يغري باطمئنان وهمي لحامل مالي يجبر كسورات
السياسة، وهو رهان ضعيف، يصعب التعويل عليه دائماً، وخصوصاً
في مثل حالة الحكومة السعودية التي يصعب معها فحص المردود
السياسي للهبات المالية التي تقدّمها لحلفائها العابرين
المحليين والإقليميين وحتى الدوليين، ومن الغريب أن ليس
هناك من على استعداد للدفاع عن مواقفها الى حد التضحية
بمكاسب أخرى منظورة، يظهر ذلك بوضوح في لبنان والعراق
وفلسطين. ففي هذه المواقع تفقد السعودية أوراقها وتحترق
بسهولة، وذلك عائد ببساطة إلى انعدام الرؤية الإستراتيجية،
فكل المال المدفوع في هذه المناطق يتبدد ببلاهة غالباً،
حتى بات الحلفاء العابرون في هذه المواقع يستثمرون الرؤية
المعدومة لجهة الإثراء من المال السهل.
دبلوماسية المال لا تعكس بالضرورة رؤية واضحة، خصوصاً
حين تكون مصادر إنفاقه متعددة، فكيف إذا كان الماسكون
بها ذوي نزوعات متنوّعة إن لم تكن متضاربة، وتعكس صراع
الأجنحة داخل العائلة المالكة. مشكلة الطبقة الحاكمة أنها
تتوسّل بطريقة بائسة في التجديد، إذ تعمد إلى تجديد أشكالها،
دون المساس بالمنظومة الفكرية التي تستند إليها وهي المعنيّة
بدرجة أساسية بالتجديد. وماعلاقة ذلك بالرؤية؟
الجواب ببساطة أن معرفة الرؤية يقتضي معرفة التفكير،
إذ أن وضوح الرؤية يعتمد بدرجة أساسية على منظومة فكرية
تنبىء عن نوع التفكير المهيمن على السياسة، ولا نعني بالمنظومة
الفكرية تلك الأيديولوجية المشرعنة للدولة، وإن كانت تستبطنها،
ولكن ما نعنيه بصورة شاملة هو تلك المبادىء العامة، والمحددات
الأيديولوجية، والأهداف الكبرى التي تضبط المواقف والسياسات
الخاصة بالدولة.
منذ سنوات وسؤال كبير يحوم حول السياسة الخارجية السعودية:
إلى أين يقودها القائمون عليها؟ وماهي أغراضهم؟ وهل من
يراجع تلك السياسة؟
الجواب غير الشافي يأتي على نحو كهذا: لا ندري، فثمة
غيوم داكنة تحيط بالمركبة السياسية السعودية، لا يعرف
وجهتها ومن يقودها. أمور مجهولة أو بالأحرى غير محسوبة
بدقة تفرض نفسها على مواقف الطبقة الحاكمة، خصوصاً حين
تأتي نتائج المواقف عكس توقعات هذه الطبقة. في لبنان،
كما في العراق وفلسطين وحتى في خصوماتها مع سوريا وإيران،
أو حتى تحالفاتها مع فرنسا وبريطانيا وصولاً إلى الولايات
المتحدة، كل الرهانات السعودية باءت بفشل مثير للشفقة،
بالنظر إلى التعويل الكبير على نتائج مأمولة جاءت الوقائع
بأضدادها، بالرغم من الإستثمار المالي والدبلوماسي الهائل
فيها.
مهما يكن، لا يمكن الفصل بين النتائج والمقدمات، فالسياسة
الخارجية ليس كياناً معزولاً حتى يمكن تحميله وحده مسؤولية
الإخفاق العام الذي أصاب الدولة، فهذا المجال ملتحم بمجالات
أخرى، ولا يجب أن يذهلنا عن مجالات فشل أخرى في الداخل
أيضاً.
أليس من المفارقات العجيبة، أن يعيش مايربو عن 60 بالمئة
من السكان في بيوت مستأجرة، في بلد يمتلك أكبر أكبر إحتياطي
نفطي في العالم، ويزيد دخله القومي عن مداخيل ثلاثة أرباع
الدول العربية مجتمعة، وأليس من المفارقات المذهلة أن
تكون أكثر من 70 بالمئة من المدارس الرسمية هي بيوت مستأجرة،
وتزيد البطالة فيها عن 20 بالمئة مع وجود أكثر من ستة
ملايين عامل أجنبي. وما الخدمات الصحيّة والإجتماعية من
هذه الأوضاع البائسة عنها ببعيد، حيث المستشفيات البائسة
وانقطاع الماء والكهرباء عن مدن وأحياء بكاملها في المدن
الكبرى، فكيف بالمناطق الأخرى.
أليس ذلك كله يعكس رؤية منعدمة لدى الطبقة الحاكمة،
وهل نحن بحاجة إلى تأمل كبير في أوضاع الدولة حتى نتبيّن
عمق الخلل. وإذا ما قدّر لك مساءلة من يمسك بزمام الأمر
عن سبب ذلك كله جاءك الجواب: لا ندري، إذن من يدري عن
أحوال الدولة، إذا كان من يديرها لا أدرياً!
|