دولة القتل
قال مازحاً وهو يوصّف المنهج الوهابي في مجال الحدود:
أن هذا المنهج يقوم على إخلاص النيّة في تطبيق منهج التيسير،
فاختار العلماء أسهل الطرق في إراحة العباد من شرور بعضهم،
عبر اعتماد (القتل) خياراً ناجزاً، فلا تدرّج في الحدود
إنما هي ضربة واحدة بالسيف تضع حداً لكل من خالف شريعة
سيد المرسلين واعترض سبيل المؤمنين!. وبحسب ترتيب أحد
ضحايا التكفير الكاتب تركي الحمد: فهذا ( كافر) مرتد عن
الدين فاقتلوه، لأنه خالف ما يرآه هذا الشيخ أو ذاك، أو
هو غير منسجم مع ما (قررته) هذه المؤسسة أو تلك من أنه
الدين الصحيح، ولا صحة لغيره، وذاك ( شاذ) السلوك فاعدموه،
وهذا (مفسد) في الأرض فاصلبوه، وذاك (فويسقة) كالفأرة
فاسحقوه، وذاك (رويبضة) فاقمعوه، وتلك (عاهرة) دمها حلال،
وغير ذلك.
وفي فترة قياسية، أفتى واحد بقتل ملاّك القنوات الفضائية
(مع أن كثيراً منها بأموال من العائلة المالكة أو المقرّبين
منها)، وآخر أفتى بقتل الصحافيين والكتّاب الذين يتعرّضون
بسوء لعلماء الدين، وثالث أفتى بقتل ميكي ماوس، دع عنك
عشرات الفتاوى التكفيرية التي هي الأخرى دعوات غير مباشرة
بالقتل، والتي طالت صحافيين وكتّاباً وشخصيات وطوائف.
فكل من عارض ما يعتبره العلماء حداً من حدود الدين سلّطوا
عليه سيف التكفير، فإما أن يتوب ويؤوب أو ينتظر العقاب
الأليم (أو بحسب تعبير اللحيدان جاز قتله قضاءً).
والمشكلة ليست مع أولئك الذين باتوا محبوسين في قفص
داخل وعينا بوصفهم إرهابيين فلا يُكترَث لما يقولون أو
يحكمون، بل المشكلة تكبر مع أولئك الذين يحاربونهم، ولكنّهم
يزوّدونهم بفتاوى تزيدهم قناعة بخيارهم العنفي، وتعطيهم
(شهادة) جديدة أخرى يوظفونها في عمليات التعبئة وتجنيد
العناصر.
الوجه الآخر للمشكلة، أن من يصدرون فتاوى القتل لا
يدركون أخطارها إلا بعد إحساسهم بالهزّات الإرتدادية التي
تحدثها فتاويهم. وليتهم يعلنون البراءة عنها، أو على الأقل
يزيّنون اعتذارهم بسوء التعبير، أو حتى المرض وقت البوح
بها، ولكن ما يحصل عكس ذلك تماماً، وقد يعتقدون أن عالم
الدين لا يعتذر عن أمر يراه صحيحاً وإن أغضب العالم كله،
ولكنّه قد يعيد ترتيب ألفاظه وتلطيفها مع بقاء الحكم على
حاله.
ما يلفت بهلع بالغ، أن حكم القتل ولكثرة استعماله بات
مستسهلاً، فاندسّ في عبارات الصغار فصاروا يتحدثون مع
بعضهم بلغة القاضي أو الفقيه فهذا حرام وذاك حلال. نستذكر
هنا إنكار عالم عراقي على علماء الوهابية في الدولة السعودية
الأولى والثانية إفراطهم في إصدار الفتاوى التكفيرية،
وذكّرهم بتشدّد علماء المسلمين في موضوع الدماء، وقال
لو أن مائة عالماً شاركوا في إصدار حكم، لرجحت كفة القائل
بالبراءة ولو كان واحداً.
في التراث الوهابي القديم والحديث ما يفرض قراءة غير
دينية لهذا التراث، إذ لا يمكن لدين عنوانه السلام، وتحيته
السلام أن يلهج رجال دعوته بالقتل، وسفك الدماء.
فليس كونه عالم دين وعبقرياً في فهم أحكام الشريعة
يجعله أقرب الى روح الدين وقيمه، فضلاً عن أن يكون أخلاقياً
وعقلانياً بدرجة متميّزة. فهناك أمر آخر، لا يبدو أن التولوجيا
وحدها قادرة على تقديم تفسير ناضج أو بالأحرى تام له،
تماماً كما أن ميثولوجيا الأديان ليست مؤهّلة بدرجة كافية
على بلورة رؤية حول علاقة الأديان بسلوك الأفراد أو حتى
تصوراتهم عن أنفسهم وعن المجتمعات التي يعيشون فيها أو
بجوارها.
مايبعث على الشفقة أنك تجد قنوات فضائية موقوفة للبرامج
الدينية أو تبّث دروساً في الأخلاق، يجتهد الداعية أو
الواعظ السلفي في إقناع مستمعيه وأنصاره بضرورة اختيار
أرق الأساليب وأحسن الطرق أدباً لإقناع الشباب بالإقلاع
عن عادات سيئة أو للدخول في الإسلام إن كانوا من أتباع
الديانات الأخرى. وبالرغم من السذاجة الفارطة في وسائل
إقناع بعض الدعاة السلفيين (وبعضهم يحمل صفة دكتور!)،
إلا أن النتائج التي يذهل عنها هؤلاء خارج الشاشة تجعلهم
يصدّقون بأن تقسيم العالم مازال ممكناً، وأن من يطلق فتوى
بالقتل ليس هو نفسه الذي يقطر رقة حين يطالب عناصر الدعوة
برقّة القلب وطراوة اللسان، وعذب الألحان من أجل كسب الفريسة!
لم يعد الأمر سراً الآن وأنت تجوب المواقع السلفية
معتدلها ومتطرّفها على شبكة الإنترنت لتجد فتاوى القتل
المباشرة على طريقة اللحيدان، أو غير المباشرة عبر التكفير
والتبديع، وهما في الحد الوهابي سواء.
ربما يسعفنا علم الإجتماع الديني الى حد ما في فهم
بعد ما في هذه القضية، فقد تلجأ الجماعات الدينية الى
تقاليدها الإجتماعية القديمة أو المستمدة من تكوينها الإجتماعي
من أجل تأكيد هويتها الخاصة وإن جاءت على رافعة دينية.
يضاف الى ذلك أن تعاظم مبدأ (الضبط) في بعديه المذهبي
السلفي، والدولتي السعودي جعلت من أمر القتل كأداة ضبط
فاعلة تعيد إلى الأذهان ما كان سائداً خلال فترة الدولتين
السعوديتين الأولى والثانية وصولاً إلى مرحلة إقامة الدولة
السعودية الحالية بكل ما رافقها من حروب دموية شرسة.
في تاريخ الدولة السعودية الأولى والثانية والنصف الأول
من الدولة السعودية الثالثة، كان بالإمكان القول بأن رجل
الدين الوهابي هو مشروع مقاتل، وسنلحظ بأن الطبقة القيادية
في جيش الأخوان الأوائل كانوا على اطلاّع كبير في أمور
الدين، إلى جانب كونهم محاربين، الأمر ذاته لحظناه في
حركة جيهمان العتيبي الذي استلهم من تجربة الأخوان الأوائل
بسالتهم القتالية ومحاجّتهم مع إبن سعود في موضوع الجهاد
وشؤون الدين الأخرى وفق الرؤية السلفية.
وفيما يبدو أن تراث القتل في التاريخ السعودي جعل المساحة
الفاصلة بين العقوبات (أدنى وأقصى) ضيقة، وبالتالي لم
يعد يكترث علماء الشريعة الوهابيون لما تنطوي عليه فتاوى
القتل من تداعيات ونتائج.
ما يجعل الأمر بالغ الخطورة أن تسيطر الفكرة المجنونة
على أذهان العلماء بأن إقامة العدل يتوقف فحسب على إراقة
الدم، ما يجعل الاسلام ضحية سلوك إجرامي يقترفه السياسيون
من آل سعود بتعاون مدفوع الثمن من علماء ينقصهم الورع
عن محارم الله!
|