توزيع أدوار بين نايف وعبد الله
الوهابية المتشدّدة في الداخل ليبرالية في الخارج
يحي مفتي
هل هي ثورة مضادة على التقليدية الوهابية، أو ما يوصف
زعماً بأنها ليبرالية دينية يقودها الملك عبد الله، أم
هي لا تغدو سوى شكل ماكر من أشكال توزيع الأدوار الذي
بات الأمراء يتقنون فن استعماله، فقد بدت الإزدواجية خياراً
نموذجياً للعبور وسط عواصف خارجية بالدرجة الأساسية.
تبدو عملية توزيع الأدوار عفوية أو بالأحرى شفوية،
وإن كانت تخفي خلافاً مفتعلاً داخل العائلة المالكة حيال
ما يجب أن تكون عليه صورة الوهابية..في الخارج تقدّم الوهابية
على أنها ليبرالية منفتحة يقودها الملك عبد الله ويحلو
للبعض بأن يسبغ عليها صفة الثورة الدينية، فيما يضطلع
الأمير نايف دور الحارس السياسي على العقيدة السلفية بنسختها
الأصلية المتشدّدة.
ولأن الملك عبد الله يقود مبادرة الصلح مع الدولة العبرية،
فإن الترتيبات المطلوبة في الخارج تستوجب بنية تحتية جديدة
تهيء لأرضية مناسبة للصلح، فبعد الحوار الوطني كأحد صور
الإنفتاح على الخارج، بل بالأحرى لرسم صورة مختلفة عن
(بؤرة الشر) كما أسماها مسؤولون أميركيون سنة 2003، إذ
لا يمكن لهذه الصورة أن تقنع العالم بأن السلام والحوار
والإنفتاح يمكن أن ينبعث من هذه البؤرة التي عرفها العالم
كمصدّر للإرهاب والمتطرّفين والإنتحاريين، كرّت السبحة
بعد ذلك لتفتح أفق الحوار على المستوى الإسلامي العام
ثم ينتقل ليستوعب الأديان عموماً، في محاولة لم تعد خافية،
فالحوار والتطبيع مع الكيان الإسرائيلي باتا متصاهرين
الى حد كبير.
بدأ الملك عبد الله يبشّر خارجياً بنقيض الأحادية الدينية
والسياسية في الداخل، فهو يريد تقديم نفسه بوصفه رائداً
للحوار والإنفتاح والتعايش بين الأديان والمعتقدات، إضافة
إلى كونه رائداً للسلام، فيما يبدو الداخل ساكناً حد الموت
حيث تبدو الصورة متناقضة تماماً. فالأمير نايف بن عبد
العزيز، وزير الداخلية، يقدّم صورة أخرى من خلال تحالفه
مع التيار الوهابي المتشدّد الذي يقف وراء بيانات التكفير
ضد المخالفين للعقيدة الرسمية، ويطلق فتاوى القتل ضد من
يعتبرهم منحرفين أو خارجين عن الملّة، فيما يواصل رجال
هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إبداعاتهم في إصطياد
(الخلوات غير الشرعية).
في الداخل، تبدو الوهابية أمينة على أسسها الاعتقادية
ورهاناتها ورجالها، فليس هناك ما يمكن وصفه خروجاً عن
الخط التقليدي التاريخي للمذهب، فالتبشير الوهابي بأشكاله
الراديكالية يبدو اضحاً في كل أرجاء البلاد، في المساجد،
والجامعات، وفي الحرمين الشريفين، وصولاً الى مواقع الدعاة
والعلماء على شبكة الإنترنت.
ومع اقتراب موسم الحج لهذا العام، سيعيش الحجاج المسلمون
ليس مع الوهابية المعدّلة جينياً في الخارج، وإنما مع
الوهابية الأصلية وسيكون مشهد المرشدين والمرشدات في المسجد
النبوي حاضراً بسطوة، حيث الرسالة المكرورة دائماً أن
الصلاة في مسجد المصطفى صلى الله عليه وسلم يجب أن تكون
خالصة لله كيما تكون مقبولة وإلا أصبحت شركاً به، تعقبها
أحاديث عن صب اللعنات على زائرات القبور. المرشدات الدينيات
يطالبن بما حملنه علماؤهن من أن زيارة النبي صلى الله
عليه وسلم بدعة، وأن الصلاة في مسجده غير جائزة إن كانت
بنيّة القربى، بل يطالبن الزائرات بأن لا يسلمّن على النبي
صلى الله عليه وسلم ولا على صاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله
عنهما، ويحسبان ذلك من البدع.
وما يلفت الإنتباه أن المرشدات الوهابيات موزّعات وفق
جنسيات الحملات، فهناك مرشدة لحملة الحج الباكستانية وأخرى
للحملة المصرية، وثالثة للحملة التركية وهكذا، ولكن رسالة
واحدة تحملها كل المرشدات وهي إبلاغ الحجاج كافة بقائمة
البدع التي تجري خلال موسم الحج، بدءً من شكل وجه المرأة
من قبيل نمص الحواجب، ومروراً بالسلام على الرسول وزيارة
قبره وطلب الشفاعة منه والإحتفال بمولده الشريف، وانتهاءً
بقراءة القرآن وإهدائه للأموات أو الصالحين.. إحداهن تقول
بأن مرشدات وهابيات في حملة مصرية كن يتناوبن دروس الوعظ
عن عدم جوار السفر بدون محرم، لتغرق بعد ذلك في تفنيد
الآراء الفقهية الأخرى من حيث المسافة وسن المرأة والرفقة
الآمنة. سألتها إحداهن من العجائز: أنا قدمت الى العمرة
مع الرفقة الآمنة فأجابتها: عمرتك صحيحة ولكّنك عاصية
وآثمة!. هذه الصورة تتكرر في كل المواقع التي يجد الدعاة
أنفسهم معنيين بإبلاغ رسالتهم فيها، وهم ليسوا معنيين
بما يعكسه ملكهم في الخارج، بل لا يكترثون لما يقال عن
ازدواجية الخطاب السلفي، فأن يكونوا واحديين في الداخل
وتعدّديين في الخارج فذلك شأن سياسي ليس إلا وأن مهمتهم
تتلخص في الدفاع عن العقيدة بصرف النظر عن من يقبل أو
يرفض. هكذا هي أيضاً القناعة المستحكمة لدى الدعاة المتشدّدين
الذين يختارون وسائل متنوعة للتبشير بمواقفهم العقدية،
ووجدوا فضاءً الكترونياً يسمح لهم بمزاولة تطرّفهم الديني
بحرية تامة، فيما لا سبيل للآخرين أن يقحموا الحكومة أو
حتى وزير الداخلية الأمير نايف بوصفه الحليف الإستراتيجي
للوهابية الراديكالية في دائرة التوريط، فكل شيء يجري
بعيداً عن الأضواء، فللوهابية عالمها الخاص التي تنشط
فيه، وتتمدد داخله، وهي النموذج الأصلي للعقيدة، أما ما
يبوح به العلماء الكبار فليس سوى شكلاً مزوّراً يراد منه
تحقيق هدف سياسي محض.
ما يجدر ذكره، أن الوهابية في تطوّرها لم يخفّ غلواؤها
ولم تتجه نحو المرونة، حتى على مستوى العقائد الصغرى،
بدءً من زيارة القبور، بما في ذلك قبر الحبيب المصطفى
صلى الله عليه وسلم، أو قراءة القرآن وإهداؤه للميت، فقد
أباح مؤسس المذهب الشيخ محمد بن عبد الوهاب إهداء قراءة
القرآن للميت (كتاب أحكام تمنّي الموت)، وكذلك زيارة القبور
وقد حسم علماء المسلمين الأمر فيها، بل اعتبروها من باب
الصلة بالرحم حتى بعد الموت، وترقيق القلب والزهد في الدنيا
الفانية، وتعزيز الصلة بالخالق عز وجل. وكذا الحال بالنسبة
للسفر بدون محرم، وقد خرجت زوجات النبي صلى الله عليه
وسلم للحج في عهد الخلفاء ولم ينكر أحد من الصحابة عليهم
ذلك، بل أفتى الإمامان الشافعي ومالك بخروج النساء مع
الرفقة الآمنة.
وللمرء أن يعجب من فتاوى علماء الوهابية التي مازالت
مثبّتة في كتبهم ومواقعهم الالكترونية والتي لا تعكس سوى
صورة التشدد الديني القائم على إخراج غالبية المسلمين
من مسمى أهل السنة والجماعة واعتبار أن العالم يعيش أوضاع
الجاهلية.
كيف يمكن لهذا التراث أن يؤسس لثورة دينية، بله وفي
زي ليبرالي أيضاً؟!
الليبرالية الوهابية ليست للاستعمال المحلي، بل بمثابة
بضاعة للتصدير، يراد منها حل مشكلة الوهابية مع من شهد
ويلاتها منذ الحادي عشر من سبتمبر، وهو ما يحاول الملك
عبد الله تسويقه عبر فريق عمل لا يتقن الوهابية العملانية
ولا يقدّمها كوصفة مكتملة العناصر، أو حتى يعيد قراءتها،
فالنموذج الوهابي المصدّر خارجياً ليس مؤسساً على مراجعة
أو تقويم لمحتوياته فضلاً عن بعثرتها، فالفريق المصاحب
للملك يدرك تماماً بأن الوهابية ما إن تخضع للمراجعة تصبح
إمكانية تفسّخها قوية، إذ أن كل مافيها قائم على قطيعة
ونبذ ومحاربة الآخر، فإذا ما قرر الملك وفريقه السياسي
إستبدالها بمفاهيم التعايش والحوار والتفاهم والسلام تصبح
الوهابية شيئاً آخر مقطوع الصلة بالأسس التي قامت عليها.
وكما في الحوار الوطني في الداخل، فإن من قاطع الحوار
لم يكن سوى الوهابية الأصلية، وكذلك من يقاطع الآن حوار
الأديان فهي الوهابية الأصلية، لا يعني ذلك مطلقاً أن
التحالف بين آل سعود والوهابية قد يضمحل قريباً، فلرجال
الوهابية أيضاً غايات ليست بالضرورة مستمدة من (العقيدة)
كما يسمونها، وإلا لما وجدنا هذا التمايز بين فريقين في
الوهابية يشارك أحدهما في ترويج نموذج الوهابية المنفتحة
والحوارية في الخارج، فيما يشارك الآخر في ترسيخ نموذج
الوهابية الأصيلة بكل عناصرها المتفجّرة والراديكالية.
ما يثير حقاً أن لغة الانفتاح لدى الوهابي تبدو مواربة
غالباً، فهو يدرك بأنه يلبساً زياً ليس مصنّعاً في معمل
الوهابية الأصلية، ولذلك يحاول أن يستعير شخصية أخرى في
داخله لتكون مناسبة لهذا الزي. فالتقارب بين المذاهب،
على سبيل المثال، لم ولن يكون في المدى المنظور جزءً من
الخطاب الوهابي بشقيه المعتدل والمتشدد، بل الجميع يشتغل
على نفي إمكانية وقوعه، ومحاربة من ينخرط فيه وهابياً
كان أم سنيّاً بصورة عامة، بل يعتبر العقيدة الصحيحة قائمة
على أساس مقاطعة وإظهار العداوة للفرق الضالّة والمبتدعة.
في مقابلة المفتي الشيخ عبد العزيز آل الشيخ مع صحيفة
(الشرق الأوسط) في 29 سبتمبر الماضي، علّق على سؤال عن
السجال الدائر بين السنة والشيعة على خلفية تصريحات الشيخ
القرضاوي وردود فعل عدد من علماء الشيعة، فقال: (من رأيي،
أن علماء المسلمين يجب أن يكون جهدهم متجهاً إلى إصلاح
الأخطاء، وإلى بيان الأخطاء في كل جانب، لأننا إذا سعينا
إلى إيقاد نار الخلاف والعداوة، هذا الأمر قد لا يخرج
بنتيجة، ولكن النتيجة التي يجب أن نخرج بها هي التعمق
في بحث الخلافات والاختلافات، حتى نبين ما يوافق الحق
فهو مقبول، وما يخالف الحق فهو مردود، لا ننطلق من منطلق
كذا وكذا، ننطلق من منطلق أن من يخالفنا لا بد أن نبين
له منهجنا وطريقنا، والخلاف بيننا وبينه على ضوء الكتاب
والسنة، ولو جعلنا الكتاب والسنة مصدرين أساسين لمرجع
أي خلاف يحدث بيننا وبين الآخرين لاستفدنا خيرا كثيرا،
ولذلك قال الله (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول
إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا).
فالمخالف ممن ينتسب إلى الإسلام فلا بد أن نقول حقيقة
الإسلام تفرض علينا أن نجعل كل خلاف مرجعه الكتاب والسنة،
فإذا جعلنا مرجعنا الأساسي الكتاب والسنة وما فهمه صحابته
الكرام والتابعون ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، فإذا
جعلنا كل هذا هو المرجع لحل أي خلاف فإني أرجو أن ينتهي
الأمر إلى خير).
في هذا الجواب، لايتبى المفتي موقفاً تقاربياً بل يؤكد
على الموقف العقدي السلفي الذي يرفض التقارب على حساب
العقيدة، ولكنه يصوغه بألفاظ وجمل غامضة، وبالتالي فهو
ينزع الى حوار مع الآخر بهدف إظهار الحق له وبيان الخطأ
الذي هو فيه لعله يؤوب ويرجع الى الصواب الذي عليه المفتي
وأهل دعوته.
علاوة على ذلك، فإن قول المفتى (بوجوب الاحتكام الى
الى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم)، ليس سوى
جواب عام يصعب تسييله إلى مقترح عملي لحل المشكلة، بل
يؤكد على الخلفية السلفية التي ترد المشاكل الى جذورها
العقدية ما يتطلب عودة الى الأصول التشريعية.
لا تبدو المرونة الوهابية التي يحاول أن يعكسها الملك
عبد الله في مبادراته الحوارية ذات تمظهرات محلية فلا
التمييز ضد المرأة أو التمييز على قاعدة مناطقية أو مذهبية
أو حتى قبلية شهدا تغيّراً ملحوظاً، بل في مقابل صورة
الوهابية المنفتحة هناك صورة أخرى شديدة الإنغلاق في الداخل.
فالتسامح الديني، والحوار الوطني، وحقوق المرأة تبخّرت
تحت غمامة حوارات الأديان التي انطلقت من مكة المكرمة
وانتقلت الى مدريد ونيويورك، بل يتم توظيفها الآن لإجهاض
التسامح والحوار والحريات، كما تكشف عنها تقارير دولية
حقوقية، (تقرير حول الإسماعيلية مؤخراً)، وتقرير مراسلون
بلا حدود الصادر في اكتوبر الماضي، وسلسلة التقارير الحقوقية
التي صدرت منذ تبني الملك عبد الله مبادرات حوارية خارجية..
يقول المراقبون بأن السعودية بدأت على المستوى الدولي
في مناصرة التسامح الديني، ولكن في الداخل مازالت الاحتجاجات
مستمرة على التطرّف الديني وسياسات التمييز ضد الصوفية
والاسماعيلية والشيعة. في نهاية المطاف، باتت العائلة
المالكة على استعداد للعيش ضمن إزدواجية تقوم على توظيف
الإنفتاح الخارجي لتعزيز سياسة الإنغلاق والتشدد في الداخل..ويبقى
للحوار غاية أخرى في نفس الاسرائيليين.
|