مصير حلف المعتدلين
السعودية والأفق السياسي المسدود
عبدالحميد قدس
يعيش معسكر الإعتدال آخر أيامه مع تصرّم فترة صانعه
الأميركي، فيما بدأ المتحلّقون حوله في لبنان وفلسطين
وأماكن أخرى بترتيب أوضاعهم بعيداً عن رهانات المعسكر،
بعد أن تبيّنت ملامح التصدّع في بنيته، ومع قرب غروب شمس
المحافظين الجدد في الولايات المتحدة.
كانت لبنان أول صخرة تنهار على المعسكر، بعد أن كان
الرهان على تحويله إلى مدخل لشرق أوسط جديد يديره المعتدلون.
وقد اعتاد اللبنانيون النظر إلى قرني الإستشعار لدى وليد
جنبلاط، الزعيم الإشتراكي، لمعرفة الإشارات الأولى لمتغيرات
سياسية خارجية تنعكس لبنانياً، فقد حمل معوله مع إطلالة
الفجر الأولى من يوم السابع من آيار الماضي معلناً عودة
حميدة عن مغامرات فريق الرابع عشر من آذار، إيذاناً بمرحلة
جديدة يفقد فيها الفريق صوته المجلجل في غمرة المخططات
المتوالية لإسقاط دمشق وطهران وقوى الممانعة في المنطقة..
لا يبدو أن الأمر كان من السهولة بمكان لأن تحقق قوى
صغيرة ومتوسطة وحتى كبيرة منجزاً تاريخياً بحجم تغيير
خارطة الشرق الأوسط، وما جهله هؤلاء أن الغطرسة صنو للغباء
في حالات كثيرة. حاولت السعودية أن تضطلع بمنصب القيادة
لمعسكر الإعتدال، بالإستناد إلى قوتها المالية، وربما
أضمر الطرفان الأساسيان مصر والأردن تحفّظاً حيال الدور
السعودي غير المنضبط والذي اعتبره المصريون على الأقل
بأنه افتئات على دورهم. هذا ما تبيّن لاحقاً، أي بعد اتفاق
الدوحة في مايو الماضي، حيث بدأت مصر بالتحرّك المنفرد
على الموضوع اللبناني، بكسر العزلة التي فرضها الطرف السعودي
عليها بعد أن أصبحت جزءً من الاستقطاب السياسي اللبناني.
|
استشعار خسارة حلف الإعتدال
|
لم تشأ مصر السير في الطريق السعودي ذي الإتجاه الواحد،
وقررت الإنفتاح على الأطراف السياسية اللبنانية كافة،
الأمر الذي تنبّهت له جيداً قيادات ناشطة في فريق 14 آذار،
مثل زعيم القوات اللبنانية سمير جعجع ورئيس اللقاء الديمقراطي
وليد جنبلاط، اللذين استقبلتهما مصر في 18 أكتوبر الماضي،
في إطار المبادرة المصرية للإنفتاح على القوى السياسية
اللبنانية، أعقبه توجيه دعوة للأمين العام لحزب الله حسن
نصر الله لزيارة مصر. هذه الخطوة يتم النظر إليها في سياق
خطوة متساوقة في العراق والمنطقة عموماً (زيارة ابو الغيط
الى بغداد وإعادة فتح السفارة).
كلام لافت وذو دلالة كبيرة قاله المتحدث الرسمي بإسم
الخارجية المصرية حسام زكي، عن توافد سياسيين لبنانيين
بارزين الى القاهرة، والذي وصفه بأنه (يدل على حرصهم على
وضع مصر فى صورة التطورات التى يشهدها لبنان والحصول على
دعمها السياسي والأدبي لكل الأفكار التي يمكن أن تعزّز
دور الدولة اللبنانية ومؤسساتها الدستورية). إذن الأمر
ليس منحصراً في إطار زيارات وديّة، بل هو استئناف لدور
مصري مأمول في الساحة اللبنانية بعد احتراق الورقة السعودية
في الدوحة.
تطوّر آخر جرى بعيداً عن الإعلام، فقد نفّذت القاهرة
مقترحاً كان الرئيس المصري قد وجّهه للسعودية في يونيو
الماضي حين طالب مصالحة سورية سعودية أولاً قبل البدء
بمصالحة عربية شاملة. وكان رئيس الاستخبارات المصرية عمر
سليمان قد قام بزيارة دمشق في أكتوبر الماضي لترتيب مصالحة
مصرية سورية بعيدة عن الأضواء. ونفى حسني مبارك بعد قمة
جدة التي جمعته بالملك عبد الله أن يكون قد تطرّق إلى
مسألة المصالحة السورية السعودية، ولكن مصر قررت من جانب
واحد وقف التجاذبات السياسية والإعلامية مع القيادة السورية
في هذه المرحلة، تمهيداً لتنقية الأجواء العربية وحسم
الخلافات مع دمشق. قطر التي تولّت دور الوساطة بين القاهرة
وعمّان ودمشق، تلقت جواباً واضحاً من القيادة المصرية،
بأنها لا تمانع من عودة العلاقات مع سوريا إلى طبيعتها،
ولكن العقدة الحقيقية تبقى بين الرياض ودمشق. محاولة قطر
في كسر الجليد بين الرياض ودمشق لم تنجح، بل لحظ رئيس
الوزراء القطري الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني تصلبّاً
من الجانب السعودي حيال موضوع التوتر في العلاقات بين
دمشق والرياض.
نلفت إلى أن الأمين العام للجامعة العربية كان قد تمنى
في مايو الماضي على الرئيس السوري الذي يرأس القمة العربية
السعي من أجل إحياء محور القاهرة ـ دمشق ـ الرياض، من
أجل حلحلة الأزمة في العلاقات العربية العربية، عبر إزالة
الإنسداد المحكم في العلاقات بين دمشق والقاهرة والرياض..ولكن
الأسد تلقى إشارات سلبية من الجانب السعودي دفعت به للإحجام
عن طرق أبواب الرياض.
هناك من يتحدث عن جدل متصاعد داخل العائلة المالكة
بشأن الإسترسال في خيار المواجهة مع دمشق، والتخطيط لقلب
النظام السوري بالرغم من إنتهاء المدة المسموح بها لتنفيذ
المخطط، خصوصاً بعد أن نجح الأسد في كسر العزلة المفروضة
على نظامه منذ مايو الماضي، أي بعد حسم التجاذبات في لبنان،
وتبدّل السلوك الفرنسي حيال دمشق والذي فتح بوابة أوروبا
أمام الرئيس الأسد، الذي زارها عبر البوابة الفرنسية.
|
المعلم: السعودية لا تريد
حلاً |
في منتصف أكتوبر الماضي، تحدّثت مصادر سياسية سعودية
أن جدلاً حاداً على مستوى الجيل الثالث من الأمراء حول
مبررات التصعيد السعودي مع دمشق، في الوقت الذي بدأت فيه
عواصم عربية في معسكر الإعتدال تنشّط القنوات الدبلوماسية
مع دمشق بصورة سرية وعلنية. وكان الرأي السائد وسط الصقور
في العائلة المالكة، أن المعركة مع دمشق يجب أن تتواصل
إلى حين الإنتهاء من الإنتخابات اللبنانية، والتي تعوّل
الرياض عليها في الثأر لخسارتها في مايو الماضي.
رؤية أخرى يتبناها جناح الحمائم في العائلة المالكة
تقول بأن الزمن المتبقي من إدارة بوش وكذلك مصير معسكر
الإعتدال لا يسمح بالسير على ذات النهج التصادمي مع دمشق،
وقد ينقلب الرأي العام العربي ضد السعودية في ظل افتضاح
خيارات المحافظين الجدد ورهانات دول الاعتدال.
سعود الفيصل، وزير الخارجية، وأحد الصقور في العائلة
المالكة والمعارضين لاستئناف العلاقة مع دمشق، أبدى في
21 أكتوبر الماضي تصريحات مواربة بخصوص العلاقة مع سوريا،
حين أشار إلى عدم الحاجة لوساطة بين البلدين، الأمر الذي
فهمه الجانب السوري بأنه تعبير عن رفض سعودي لعودة العلاقات
مع دمشق.
الرياض قالتها في السر والعلن بأن شرط عودة العلاقات
الطبيعية مع دمشق يتوقف على قرار الأخيرة من إيران، وكان
رهان الإعتدال قائماً على هدم العلاقات الإيرانية السورية،
وهو ما رفضته دمشق مراراً، باعتبار أن علاقاتها مع إيران
باتت إستراتيجية وأن هدمها يجعل الظهر السوري مكشوفاً
أمام دول مازالت تخطط لقلب نظام الحكم في دمشق. وكانت
رويترز قد نقلت في 22 أكتوبر الماضي عن دبلوماسيين غربيين
أن السعودية تعتقد أن سوريا لم تقدّم ما يكفي لتستحق تقارباً
دبلوماسياً مع الغرب وتخشى ألا يسهم مثل هذا التقارب بشيء
يذكر لقطع صلات دمشق بايران. ويقولون أيضاً، بحسب الوكالة،
إن ضغينة السعودية تجاه سوريا ورئيسها بشار الاسد ربما
تعمي الرياض عن احتمالات الحوار مع دمشق.
وبالرغم من أن واشنطن هي الأخرى كسرت، بعد باريس، الجليد
الفاصل مع دمشق، إلا أن ذلك لم يحدث تغييراً في سلوك الرياض،
لاعتقاد الأخيرة بأن التقارب مع دمشق يبطن إقراراً بالهزيمة
أمامها منذ أن تدهورت العلاقة بينهما عقب اغتيال رفيق
الحريري، ثم جاءت التطوّرات اللاحقة (الخروج العسكري السوري
من لبنان، وسلسلة الإغتيالات اللاحقة، وحرب تموز 2006،
وتخطيط الرياض لقلب نظام الحكم في دمشق) لتضع النظامين
في مواجهة مباشرة وعنيفة.
حسناً، تغيّر المناخ المعادي لسورية فيما لا تزال السعودية
تصرّ على إبقاء القطيعة معها، لا لشيء سوى لأن النتائج
المأمولة من الحشد الدولي والضغوطات على سوريا لم تثمر
في زعزعة نظام بشار الأسد أو حلفائه في لبنان.
|
الفيصل: لا وساطة مع دمشق
|
تجد السعودية نفسها أمام مأزق حقيقي في العلاقة مع
سوريا، فالشعور السائد لدى العائلة المالكة بأن الرئيس
الشاب في دمشق قد نجح في احتواء كل الضربات التي سدّدتها
له الرياض، بدءً من حرب تموز 2006 وصولاً الى أحداث بيروت
في 7 مايو الماضي، والتي وضعت نهاية تراجيدية لوجود سعودي
أمني وسياسي في لبنان.
يميل بعض المحللين إلى وضع الإحجام السعودي عن فتح
ثغرة في جدار القطيعة مع دمشق إلى التعرّف على ملامح السياسة
الأميركية القادمة في عهد الرئيس الجديد باراك أوباما.
وهناك من يقول بأن الرياض ليست على عجل من أمرها، فمازال
هناك وقت كافٍ قبل الإقدام على خطوة قد توصف الآن بأنها
تنازل أمام دمشق، ما قد يمنح حلفاءها في لبنان ورقة انتخابية.
سمع جمال خاشقجي كلاماً من مسؤولين سعوديين يشي بحقيقة
الموقف الداخلي للعائلة المالكة: يجب ألا يسمح لسوريا
بالخروج من هذا الطريق المسدود في غياب السعوديين حتى
لا يشعروا أنهم استطاعوا الخروج من العزلة بمفردهم ومن
ثم يعاملون السعودية بتعال. وقال إن الملك شخصياً غير
راض عن النظام هناك وأضاف أن بوسع المملكة الإنتظار إلى
أن يحدث تغيير كبير في سوريا.
وفي تقديرنا، أن السعودية ستنتظر طويلاً إذا كانت تعوّل
على مثل هذا التغيير، فقد خرجت دمشق من عنق الزجاجة، وتعاملت
بذكاء شديد مع الأزمات التي واجهتها، خصوصاً تلك المشتركة
مع السعودية، وإذا كانت الأخيرة تراهن على تغييرات أخرى
في سوريا، بعد كل التجارب السابقة فستكون قد فقدت القدرة
على القراءة السياسية الصحيحة لمتحوّلات المنطقة.
صحيح أن السعودية لم تكترث لنصائح حلفائها في الغرب
ولا لضغوطاتهم من أجل تحسين العلاقة مع دمشق، خصوصاً بعد
أن قدّمت الأخيرة إشارات قوية في موضوعات هامة: محاربة
الإرهاب، المفاوضات مع الدولة العبرية عبر الوسيط التركي.
وكان منسق السياسة الخارجية في الإتحاد الأوروبي خافيير
سولانا قد زار الرياض في 22 أكتوبر الماضي لتوضيح الموقف
الأوروبي من العلاقة مع دمشق، على خلفية الدور الإيجابي
الذي لعبته الأخيرة في حل الأزمة اللبنانية (وهو ما تخالفه
الرياض حيث تعتبره هزيمة لها ولحلفائها)، وتشجيع المصالحة
الوطنية الفلسطينية، ومحاربة الإرهاب. وكان الحديث عن
شراكة أوروبية مع سورية السنة المقبلة قد تسبب في إحراج
السعودية ودول الإعتدال عموماً، وماذا لو أضيف له تنفيذ
الرئيس أوباما لتوصيات بيكر هاملتون بفتح حوار مع دمشق
وطهران؟
يقدّم حلفاء السعودية قراءة ذات طابع رثائي لما أسفرت
عنه التطوّرات الأخيرة على الأرض، وانعكاسها على ميزان
القوى. تبدو مقالة أدمون صعب في جريدة النهار البيروتية
في 24 أكتوبر الماضي بعنوان (السنيورة في مهب الرياح السعودية)
إحدى القراءات الوداعية لمرحلة تطوي معها وقائع ورموز
ومعادلات في لبنان. يبدأ صعب مقالته بنقد لبعض السياسيين
اللبنانيين الذي يقرؤون التحوّلات بصورة خاطئة (يوحي بعض
السياسيين اللبنانيين كأنهم يعيشون خارج الزمن. بل خارج
الأحداث، وفي ظنهم أن العالم ينتظرهم ليحلوا مشاكلهم حتى
يعرف كيف يتصرف حيالهم. فاذا بالزمن يمضي وهم لا يزالون
في أماكنهم يدورون حول أنفسهم).
بالرغم من كل ذلك، فإن المفاعيل السياسية للصراع بين
الرياض ودمشق لم تعد قابلة للتوظيف في التجاذبات المحلية
والإقليمية ولا الدولية، وإن مجرد إصرار الرياض على السير
في خيار التوتير مع دمشق، الى حد مواصلة التخطيط لقلب
نظام الحكم بأي وسيلة (فتنة مذهبية، تفجيرات أمنية، تحريك
جماعات متطرّفة، اختراقات في الأجهزة الأمنية والعسكرية)،
لا يعكس سوى إنسداد في الأفق السعودي وليس السوري.
|