كلام في الأزمة المالية
تفاؤل سعودي بلا أساس
عبدالحميد قدس
كل شيء على مايرام، والوضع المالي متين، والمدخرات
لم تمسّ، ونحن قادرون على القيام بواجباتنا..عبارات لم
تغادر ألسنة الملك وكبار الأمراء بالرغم من تسونامي مالي
عالمي يجتاح القلاع الحصينة، وتتوارى أمامه كبريات الشركات
بل والدول..خطط الانقاذ التي أعلن عنها الرئيس الأميركي
بوش قبل شهرين لانقاذ ما يمكن إنقاذه من الشركات العقارية
والبنوك الكبرى في الولايات المتحدة، مروراً بانقاذ شركات
كبرى مثّلت رموز التفوق الرأسمالي والتكنولوجي الأميركي..
وكانت أوروبا في قلب العاصفة المالية، ولم تكن دولة في
العالم بمنأى عن تأثيراتها، فقد غمرت أرجاء العالم كافة.
في السعودية، كان الصمت سيد الموقف في الأيام الأولى
للأزمة المالية العالمية، فيما كان مؤشر الأسهم يستجيب
لمنطقها، فقد هوى بوتيرة متسارعة، ولم يخضع تحت تأثير
التطمينات اللفظية التي كان المضاربون يتعاملون معها بقدر
كبير من عدم الاكتراث، خصوصاً وأن ثمة ما يستوجب الإهتمام
خارج الحدود.
كان أبرز انعكاس للأزمة المالية العالمية على الداخل
السعودي، ما أعلنت عنه مجموعة سيتي جروب في 22 نوفمبر
الماضي، والتي يملك الأمير الوليد بن طلال 4 بالمئة، بأنها
خسرت فور افتتاح السوق ما مقدراه 9 مليار دولار بانهيار
سوق الأسهم والمضاربات في سوق وول ستريت. وبذلك يكون سهم
المجموعة فقد قيمته الأساسية، وبذلك تكون المجموعة قد
خسرت 90 بالمئة من قيمة أسهمها منذ منتصف العام الماضي
(2007). وكان ذلك الانخفاض متوافقاً مع انخفاض مماثل أصاب
مجموعة (المملكة) التي يرأسها الوليد بن طلال والتي تكبّدت
خسارة فادحة قضمت نسبة عالية من القيمة الاكتتابية لأسهمها.
كان تصريح الوليد بن طلال عن انهيار أسهم مجموعة سيتي
جروب إيذاناً بخروج القيادة السعودية عن صمتها، أو بالأحرى
عن تفاءلها المخاتل، فثمة حقائق غير قابلة للإنكار وباتت
تتجسد على الأرض، وتنعكس على الأوضاع المعيشية للناس،
بل الأهم من ذلك كله أن مراجعة سريعة ودراماتيكية بدأت
لمشاريع إقتصادية طموحة، لأنها صمّمت في مرحلة كان فيها
الإقتصاد العالمي متعافياً بل مزدهراً في ظاهره، كما كانت
أيضاً أسعار النفط في مستويات عالية، ولكن بعد هبوطها
من الى ما دون الثلث مقارنة بأسعار العام الماضي، فإن
قرارات جراحية باتت مطلوبة، ليس لأن مخصصات المشاريع الطموحة
لم تعد متوفرة، بل إن الالتزامات المالية الضرورية والمباشرة
لم يعد بالإمكان الوفاء بها بسهولة، خصوصاً وأن الموازنة
السنوية صمّمت على أساس سعر مرتفع للنفط.
ومن المرات النادرة في تاريخ السعودية، بل وتاريخ المنطقة
بصورة عامة، أن يكون اللاعبون في حلبة الأزمة من غير دعوة
من الكبار، فقد أملت الأزمة على دول صغيرة وأخرى متوسطة
الدخول في الحلبة دون رغبة منها أو محاولة للعب دور إنقاذي
لها ولغيرها. فثمة تفسخّات في نظام اقتصادي عالمي تستدعي
انخراطاً فيه، ولم يعد يتطلب الخوض فيه شروطاً تعجيزية
على غرار الإنضمام لمنظمة الجات، فالوضع لا يحتمل أشكال
وصاية رأسمالية جديدة، فالجميع أمام مرحلة استحقاقات جديدة
تشبه إلى حد كبير مرحلة ما بعد الحربين العالميتين الأولى
والثانية. وإذا كان انهيار الإتحاد السوفيتي سنة 1989
قد حسم المعركة لصالح الرأسمالية الغربية، فإن مرور نحو
عقدين من الجبروت الأميركي بنزعته الليبرالية المتوحشة،
أفضى إلى نهاية كارثية، وهاهي تفتح أفق ترتيب النظام الدولي
على أساس تعددية قطبية، تكون فيها الولايات المتحدة أحد
الأقطاب، جنباً إلى جنب الصين وروسيا والهند وأقطاب أخرى
صاعدة.
بقيت السعودية، رغم إمكانية الانتقال من مرحلة الانفعال
الى مرحلة الفعل والتأثير، تمارس الأدوار الصغيرة وفي
الغالب غير المكلفة، ولأنها دولة قائمة على أساس اقتصاد
ريعي، واستهلاكي، ما يجعلها دائماً تحت رحمة التحالفات
الخارجية التي تكفل أمنها واستقرارها، وليس استقلالها،
فإن قرارها الدخول في حلبة الأزمة المالية العالمية كان
قهرياً وليس اختياراً، لأن الاحتياطات المالية من النفط،
وبحسب الإتفاقيات الأربع الأخير التي وقّعت مع الولايات
المتحدة هذا العام، تملي عليها إيداع مدخراتها من العائدات
النفطية في البنوك المالية الأميركية، وبالتالي فهي شريك
سالب في الأزمة المالية العالمية، وإن كلام الملك عبد
الله عن أن المدخرات المالية السعودية في البنوك الأميركية
لم تمس ليس واقعياً لأن خطة الإنقاذ التي اعلن عنها الرئيس
بوش قبل أشهر لم تكن تتغذى على الضرائب فحسب، بل هي تعتمد
بدرجة أساسية على كل الموجودات المالية في الخزينة الأميركية،
وفي قسم كبير منها هي أموال سعودية وخليجية رسمية وشعبية.
يضاف إلى ذلك، أن الانخفاض الدراماتيكي في مؤشر الأسهم
السعودية، وفقدانه 55 بالمئة من قيمته هذا العام وحده،
دون حساب ذروة الإرتفاع التي بلغها متجاوزاً حاجز 21 ألف
نقطة وذروة الهبوط الحالي الى تخوم 4 آلاف نقطة خلال نحو
عامين، كان لابد أن ينبّه إلى أن ثمة متطلبات مالية يجدر
توفيرها لجهة مواجهة تحديات جدية داخلية قبل أن تندلع
الأزمة المالية العالمية. فقد كان التآكل التام في الطبقة
الوسطى، وانفراز طبقتين إجتماعيتين على قاعدة اقتصادية:
أغنياء وفقراء، يعني أن مواجهة كامنة بدأت ترسي شروطها
الموضوعية ستفضي دون شك الى مصادمة كبرى، شأن كل الدول
التي تهدّمت فيها الجسور بين الطبقات الإجتماعية، وأصبح
العامل المعيشي وحده المسيطر على العلاقة بينها.
وإذا كان النفط المورد الأساسي لمداخيل الدولة، فإن
الإنخفاض السريع في سعره سيؤدي حكماً إلى توقف مشاريع
التنمية، ما يعني المزيد من البطالة، والمزيد من تراجع
الأداء الإقتصادي، ونقص الخدمات العامة، وسلسلة انهيارات
متعاقبة تتلوها تداعيات اجتماعية وأمنية وسياسية، واخيراً
لن يسلم قطاع في الدولة والمجتمع إلا وتصيبه آثار وآثام
انخفاض الإسعار، بالنظر أيضاً إلى ما تعنيه أن يفقد 8
مليون مضارباً نحو 80 بالمئة من رؤوس أموالهم خلال عامين،
في الوقت الذي لم تعد فيه الدولة قادرة على استعمال برامجها
الرعوية، وتعويض الدائنين أو الذين تكبّدوا خسائر كبيرة،
فضلاً عن ضعف نظام الأمن الإجتماعي الذي يتطلب الإنضمام
إليه إجراءات بالغة التعقيد، رغم المخصصات المالية المنخفضة
نسبياً مقارنة بمتطلبات المعيشة بالنسبة للعوائل.
تخفيض سعر الفائدة من مؤسسة النقد العربي السعودي من
معدل 4 بالمئة إلى 3 بالمئة في نوفمبر الماضي، وهو التخفيض
الثالث منذ أكتوبر الماضي كان محاولة لدعم سوق الأسهم،
ولكنها لم تغيّر كثيراً في أوضاع السوق، تماماً كما أن
تصريحات الملك عبد الله التطمينية لصحيفة (السياسة) الكويتية
في 30 نوفمبر الماضي وخصوصاً قوله بأن (الأموال السعودية
في مأمن من الأزمة الاقتصادية العالمية)، لم تبعث الإطمئنان
في سوق الأسهم، الذي كان يرقب انهيارات مالية عالمية تتدفق
آثارها الكارثية بصورة مباشرة على الداخل.
فقد انخفضت مداخيل أوبك من بيع النفط الخام بمعدل 53
بالمئة خلال ثلاثة شهور. وإذا كان سعر برنت هو أقل من
ثلثي سعره منذ يوليو الماضي، فإن سعر سلة أوبك هو بالتأكيد
أقل من ذلك وقد هبط إلى ما دون الـ 40 دولاراً، وهو أقل
من الثلث بالمقارنة مع سعر برنت. وبحسب صحيفة التايمز
في 26 نوفمبر فإن هذا السعر كما يعتقد المحللون في مركز
دراسات الطاقة العالمية هو ليس مجالاً مريحاً بالنسبة
للسعودية.
وترى الصحيفة أنه بوجود 200 مليار دولار من الاحتياطي
النقدي، فبإمكان السعودية التعايش مع أسعار نفط منخفضة
لبعض الوقت دون وقف الاستثمارات. وهناك من يعتقد جازماً
بان السعودية ستقدم على خطوات راديكالية من أجل تخفيض
صادرات النفطية من أجل رفع سعر النفط، ولكن ما هو خطير
للغاية في ذلك هو تداعيات ذلك على العام القادم، حين يبدأ
الجفاف المالي يقلّص من مخزون النفط.
في الداخل، يضاعف الأمراء الأرقام، وخصوصاً رقم الإحتياطي
النقدي، حيث يجري الكلام عن وجود 400 مليار دولار وليس
200 مليار دولار، يراد تخصيصها لتمويل مشاريع التنمية
في مجالي النفط والغاز، وهو رقم يبعث شكوكاً كبيرة ليس
في حجمه فقط بل في إمكانية توفّره حالياً. في 28 نوفمبر
الماضي كتب صالح حفني في صحيفة (المدينة) مقالاً بعنوان:
(من أين الـ 400 مليار دولار؟) خصصه للسؤال عن إعلان السعودية
عن تخصيص ما يقارب من الـــ 400 مليار دولار لإنشاء مشاريع
تنمويه في المملكة خلال الخمس سنوات القادمة. وطرح في
السياق سؤالاً يتداوله العديد من رجال الأعمال: من أين
سوف يتم ضخ هذه المليارات؟
وفي محاولته الإجابة عن السؤال، وضع حفني سيناريوهات
أو خيارات محتملة منها: أن يكون الإنفاق على هذه المشاريع
التنموية من خلال الميزانيات السنوية المعتمدة ، وذلك
من الصعب تطبيقه بعد انخفاض أسعار البترول من 140 دولارا
إلى 50 دولارا للبرميل ( والكلام قبل أن يصل إلى مادون
الـ 40 دولاراً لاحقاً)، إضافة إلى أن الدولة لديها خطط
وبرامج طموحة في مجال التعليم والمياة والصحة ومحاربة
الفقر. ومنها: أن يتم الإنفاق على هذه المشاريع التنموية
من خلال احتياطات المملكة والمتوقع ان تكون في حدود الخمسمائة
مليار ريال، وهو أيضا صعب التطبيق لكون هذه الاحتياطات
تساعد وزارة المالية على علاج مشاكل إقتصادية قد تطرأ
مستقبلاً علينا. والخيار الثالث وهو الأرجح، حسب حفني،
أن تقوم وزارة المالية بتنفيذ سياسة متوازنة وذلك بدمج
الخيارين معاً من خلال استخدام جزء من الاحتياطي وجزء
من الميزانية السنوية للدولة. وفي النهاية طالب بأن تقوم
وزارة المالية بوضع حد للتكهّنات مطالباً وزارة المالية
بالكشف عن خطتها في الانفاق على المشاريع.
ماهو غير مكتوم، أن أرامكو سبقت وزارة المالية في الإعلان
عن وقف مشاريع الاستثمار في الطاقة، إما بسبب عدم الجدوى،
أو الكلفة العالية أو عدم وفرة السيولة الكافية، ولم توضّح
ما اذا كانت تنوي اعتماد بدائل أخرى، أو أنها تنتظر قرارات
سياسية من أجل حسم الوضع القادم. وكانت الشركة قد بعثت
في 4 نوفمبر بريداً سريداً للموظفين المسؤولين عن مشاريع
أرامكو ومنها مشروع منيفة في شرقي السعودية، والذي تبلغ
كلفته 20 مليار دولار، بأن المشروع ألغي نهائياً، بسبب
أزمة السيولة.
تقليص أحجام الإنفاق على المشاريع الاستثمارية في مجال
الطاقة (النفط والغاز)، ليس سوى مؤشر على أن الأزمة المالية
باتت واقعاً يجري التعامل معه يومياً، وأن كلام الملك
عبد الله في شهور سابقة عن حرب خفيّة تستهدف الاقتصاد
السعودي، ليس سوى تمهيداً أو لنقل إعترافاً ضمنياً بأن
الاقتصاد ليس متيناً ولا مستقراً، لأن الحديث عن حرب،
واستهداف خاص.
ما يأتي بعد الاعتراف وبدء التدابير الاقتصادية التراجعية
هو الإقرار بأن أمد الأزمة ليس قصيراً، بل الأهم هو الإعلان
عن درجة الخطر، لأن الخبراء الماليين والاقتصاديين في
العالم مجمعون على أننا مازلنا في نهاية بداية الأزمة
وليس العكس، وأن ما هو قادم أسوأ بكثير مما شهده العالم
خلال الشهور الثلاثة الأخيرة. ليس بالعلاج الاقتصادي وحده
يمكن إنقاذ أزمة الدولة السعودية، فثمة أنظمة علاجية أخرى
باتت مطلوبة إن أرادت البقاء متمساكة على قدمين.
|