السعودية بلا رصيد إيجابي
يأسٌ من تغيير العراق وفق وجهتها ومصلحتها
عبد الوهاب فقي
تبدو الحكومة السعودية يائسة من إمكاناتها تغيير العراق
بوجهته السياسية المعروفة باتجاهها.. فهي لم تبن لها صداقات،
ولم تحافظ على ما لديها من أصدقاء حقيقيين أو محتملين،
كما أنها استعدت الأكثرية الكردية والشيعية والسنيّة على
حد سواء.
استثمرت السعودية امكاناتها في تدمير العراق، فأرسلت
رجالها المتطرفين، وعقيدة العنف الى هناك فكانت المساهم
الأكبر في إشعال الحرب الأهلية.
واستثمرت السعودية قوتها السياسية لمحاصرة النظام الوليد
بدعوى أنه منتج أميركي، مع أن حكم آل سعود منتج بريطاني،
قبل أن يتحول الى الضفة الأميركية. وكانت حجة السعودية
بأن النظام في العراق طائفي، لا يراعي مصالح السنّة، ولكن
نظامها أكثر بشاعة وطائفية ولم يكن يهمها السنّة (العرب)
بالفعل، وخسرت أقوى قوة سنيّة وهي (الحزب الإسلامي) مكتفية
بدعم الإرهابيين من جهة ودعم حارث الضاري وأولئك الآخرين
الذين يؤمنون بإلغاء كامل العملية السياسية والعودة الى
النظام القديم، وهو رهان مجنون مستحيل الوقوع.
راهنت السعودية في وقت متأخر على أياد علاوي بعد أن
خرج من السلطة وليس حين كان فيها. فخسر الرجل أوراقه في
العراق بسبب ارتباطه بالسعودية والدول العربية المعادية
للحكم في العراق، وهي دول يا للغرابة أميركية التوجه،
مثل الأردن ومصر.. وأيضاً بسبب ارتباطه بأحداث الزركة
التي قتل فيها المآت، حيث ألقت الحكومة العراقية والإستخبارات
الأميركية على علاوي والأمير مقرن رئيس الإستخبارات السعودية،
بأنهما كانا وراء تلك الأحداث.
حين انطفأت ثائرة العنف الطائفي الأعمى، راهنت السعودية
أكثر على حصار النظام السياسي العراقي عربياً، ولكن الحصار
تفكك، من مصر التي حصدت ثلاثة مليارات دولار في صفقة سياسية
قدمها المالكي للحكومة المصرية، واعداً إياها بالمزيد!
وتفكك حلف الإعتدال حيث أعادت الأردن ومصر فتح السفارات،
بل أن دول الخليج نفسها أعادت فتح سفاراتها، ولم يبق من
متشدد سوى قطر، التي تحتضن قاعدة السيدية الأميركية!
الآن السعودية لا تعرف ماذا تصنع؟
إنها تلعب في الوقت الضائع. لم تعد لها القيمة التي
كانت في الماضي، ولم يعد فتح سفارة سعودية في بغداد يمثل
للأخيرة تلك الأهمية، طالما كسر الحصار.
بقي لدى السعودية ورقة أخيرة، وهي الديون المتراكمة
على صدام حسين، والتي لا تريد ان تتنازل عنها للنظام الجديد
بدون ثمن سياسي كبير، بل أكبر مما تحمله تلك الديون. والسعودية
ليس فقط ترفض فتح سفارتها حتى الآن، وتماطل في ذلك، بل
تقول بأن الديون مستحقة وعلى العراقيين الدفع.
أوائل هذا الشهر، حثّت رايس، وزيرة الخارجية الأميركية،
ربما للمرة الأخيرة الدول العربية، في إشارة خاصة الى
السعودية، بأنه لم يعد هناك مبرر لعدم الإنفتاح على العراق.
ربما هناك بعض الحق لدى السعودية، من جهة أنها تخشى
من ردّة فعل الغول الوهابي الداخلي الذي تربّى على العداء
والحروب الطائفية، وفتح سفارة قد يسبب لها بعض الإزعاج،
ولربما كان التأخير يعود في جزئية منه الى هذا السبب بالذات.
العذر الآخر، هو أن السعودية لا تمتلك الكثير من الأوراق
لتلعبها في العراق، بعد أن فرّطت بحلفاء وأصدقاء محتملين
صاروا في قمة السلطة اليوم في بغداد، وبالتالي فالرياض
تتشبّث بأية ورقة وحجّة للمضي في سياستها القديمة لعلّها
تحصل على صفقة أفضل مع الحكومة العراقية.
المسألة الثالثة هي أن الحكومة السعودية اعتادت أن
تضع مقياساً لاقترابها من بغداد، فهي تطالب الأخيرة بأن
تبتعد عن إيران (وليس عن الأميركان) متناسية أن الحكومة
العراقية كانت ولاتزال في وضع لا تستطيع معه حتى مع الدعم
الأميركي أن تتخلص من النفوذ الأيراني الذي ترعرع في غياب
الدول العربية، ذلك النفوذ المتقن والمهندس له وفق خيارات
واستراتيجيات بعيدة المدى. وجهة النظر الأميركية تقول:
اذهبوا الى العراق حتى يمكن الحد من النفوذ الإيراني.
والسعودية تقول: قاطعوا الحكم في العراق حتى تحدّ من النفوذ
الإيراني. ومعنى هذا، إن استطاعت بغداد الحدّ من ذلك النفوذ
لوحدها وبدون دعم العرب، فإنها بالقطع لن تحتاج الى (حضن
مصر والرياض) بعد تمكنها من الأرض. المنطق السعودي تبيّن
هو الخاسر في النهاية، والتحليل العقدي للقضايا السياسية
أعمى الأمراء ولازال عن رؤية الحقائق.
وهناك قضية لها علاقة بالأمن، فالسعودية ستدرك أن الأمن
في العراق لن يكون في جزيرة معزولة، وأن الخضات الأمنية
ستعود اليها من الفارين من العراق، فضلاً عن وجود تبعات
لوجود مقاتلين سعوديين في العراق، أو معتقلين في سجون
بغداد، وهؤلاء في معظمهم يصنفون ضمن دائرة اجتماعية ومناطقية
ومذهبية موالية للنظام، ويشعر الأخير بأنه يجب عليه أن
يسعى لحل أوضاعهم واستعادتهم.
وقد يكون الباب الأمني مفتاحاً من مفاتيح اعادة العلاقات
التدريجية بين بغداد والرياض. وهناك مؤشرات لهذا، وإن
كان التحول في العلاقات سيستغرق وقتاً طويلاً، لا يبدو
أن بعض السياسيين في بغداد يمانعون من السير فيه.
الحكم في العراق لا يريد فتح معارك مع السعودية رغم
وجود مبررات لذلك، وهو يستشعر اليوم الثقة بالنفس أكثر
من أي وقت مضى. ولقد راهن حكام بغداد على علاقات طيبة
مع السعوديين، فسرها الأخيرون بتعالٍ سياسي، بأنهم يمتلكون
أهمية مضخمة في عيون الآخرين، وأنهم لن يمنحوا علاقاتهم
لكل من هبّ ودبّ، وظهرت تصريحات سعودية تطفح بالعنصرية
والطائفية.
لكن السعودية وجدت نفسها مؤخراً مرغمة على الإقتراب
من حكومة المالكي ولو قليلاً. فالرجل أثبت كفاءة وحسماً
وقوة سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي.
والمالكي ليس الشخصية المفضلة لدى ايران، العقدة السعودية.
والمالكي استطاع اعادة التوازن الى الحكم بين الشيعة
والسنة والى حد ما مع الأكراد. وسياسته مقبولة ومعقولة
حتى الآن.
والمالكي يريد الإتفاقية الأمنية مع اميركا ـ وقد صادق
عليها البرلمان مؤخراً ـ خلافاً لرغبة ايران، وهذا ما
تريده السعودية ايضاً.
اذن هناك مشتركات كثيرة.
وقد أبدت حكومة المالكي، خاصة من طرف موفق الربيعي،
مستشار الأمن القومي العراقي، الذي ينظر اليه كعراب للعلاقات
السعودية العراقية، مرونة فيما يتعلق بالمقاتلين الوهابيين
الزرقاويين المعتقلين في العراق من جماعة القاعدة. وقد
افرجت عن عدد غير قليل منهم.
الأمن قد يكون البوابة التي يمكن للسعودية ان تفتحها
مع العراق.
إنها اهم من البوابة السياسية، او بوابة المصالح الاقتصادية.
هناك اصرار سعودي لاستعادة عنفييها، ولا نفهم سبب الحرص،
اللهم إلا اذا كان الغرض اعادة مكانة الحكم السعودية لدى
قاعدته النجدية التي ينتمي اليها معظم المعتقلين وكذلك
المقتولين في العراق.
ففي تطور غير مسبوق زار وفد أمني سعودي بغداد، وأعلن
في (27/11) استعداد بلاده حل موضوع اللاجئين العراقيين
في مخيمات (رفحا)، وقضية السجناء والموقوفين العراقيين
في المملكة. جاء ذلك لدى لقاء استقبال مستشار الأمن القومي
موفق الربيعي. وذكر بيان صادر عن الربيعي أن الجانبين
ناقشا ملفات السجناء والموقوفين السعوديين في العراق،
وكذلك السجناء والموقوفين العراقيين في السعودية، بالاضافة
إلى موضوع اللاجئين العراقيين في (رفحا)، وشددا على ضرورة
ضبط الحدود بين البلدين ومنع المتسليين والمتجاوزين من
الجانبين.
أكثر من هذا فقد أعرب الوفد السعودي عن استعداد بلاده
لتقديم الدعم اللازم للحكومة العراقية لإتمام نجاح العملية
السياسية، مثمنين في الوقت ذاته التطور الأمني الملحوظ
الذي حققته قوات الجيش والشرطة العراقية في فرض سلطة القانون.
|