رهاناتها إقليمية دولية، والمال لوحده لم ينجح
هل تكون الإنتخابات اللبنانية آخر قلاع السعودية المحطّمة
محمد فلالي
لا تُعرف الشخصية السعودية المسؤولة بالفعل عن الملف
اللبناني. ربما هناك اكثر من مسؤول/ أمير، وربما هناك
اتفاق بين كبار الأمراء على النهج والسياسة السعودية القائمة
تجاه لبنان. أياً كان المسؤول، فإنه يستحق بجدارة أن يلقب
بالأحمق أو الحمقى، على الإنجاز التاريخي الذي حوّل الإنتصار
السعودي وهو في قمته بعيد مقتل الحريري، الى انتكاسة حقيقية
ومدمّرة أخذت بالتوسع منذ حرب تموز 2006.
بالطبع لم تخسر السعودية نفوذها كاملاً في لبنان. هي
بعيدة عن ذلك. ولكن نفوذها (المتميّز) قد أفل بشكل حقيقي.
وآية هذا الأفول، أن السعودية شكت ولأول مرة في تاريخها
وبصورة رسمية الى رئيس الجمهورية ميشال سليمان، من أن
هناك أصواتاً متصاعدة من شخصيات سياسية لبنانية تهاجم
السعودية بالتصريحات في الإعلام، الأمر الذي دفع بالرئيس
الى القول بأنه لا يقبل بالهجوم على السعودية. ولكن من
سيسمع له غير فريق (الموالاة)؟ وبأية قانون يمكن منع تلك
التصريحات في بلد يتمتع بحريّة إعلامية وسياسية مثل لبنان؟!
خرجت سوريا عام 2005م من لبنان مهيضة الجناح، مكسورة
ذليلة خاسرة.. وإذا بها اليوم تعيد نفوذها ومكانتها الى
وضع قريب مما كانت عليه حين خروجها، ولكن بدون وجود قواتها.
وعلامة النجاح السوري (والضعف السعودي) هو زيارة الجنرال
عون الى دمشق، والهجوم العنيف من الإعلام السعودي المتناغم
مع إعلام حلفائها في لبنان على تلك الزيارة بصورة هابطة
للغاية.
كيف تصل سوريا، التي أصبحت بنظر السعودية عدواً لدوداً
تطالب وتسعى عملياً لإسقاطه، الى ما وصلت اليه، رغم أن
الوجود السوري في لبنان لم يكن محبذاً أو مرغوباً حتى
من حلفاء سوريا أنفسهم مثل حزب الله والآخرين؟
وكيف تصبح السعودية وهي في قمة انتشائها بالنصر على
السوريين، الحلقة الأضعف، والجدار الهابط الذي ينتظر البعض
سقوطه في الإنتخابات القادمة، رغم ضخ المال السعودي بلا
حساب على الحلفاء (المال السياسي)؟
السعودية لم تلتفت جيداً الى التغييرات في موازين القوى
بلبنان، وركزت نظرها على التغيرات والتطورات في المحيط
الإقليمي والدولي المؤثر على الوضع في ذلك البلد. بمعنى
آخر، كانت السعودية ولاتزال مهتمة بالنفوذ الإيراني والسوري
الذي يشاركها نفوذها في لبنان، واهتمت بإضعاف منافسيها
الإقليميين اعتماداً على الموقف الغربي (الفرنسي الأميركي)
الذي كان يزحف بقوة على المنطقة مستفيداً من تداعيات احتلال
العراق، وتهديدات اسرائيل بغزو لبنان مجدداً.
لكن السعودية نفسها، لم تلتفت الى أن لبنان الداخل،
وقع فيه تغييران كبيران، أحدهما يتمثل في حزب الله كقوة
سياسية عسكرية صاعدة منذ تحرير الأراضي اللبنانية عام
2000م، وثانيهما يتمثل بعودة الجنرال عون من منفاه بعد
الإنسحاب السوري عام 2005م. وهي العودة التي جعلته القوة
المسيحية الأولى.
|
عون في دمشق: ضربة موجعة للسعودية
|
السعودية فيما يتعلق بالداخل اللبناني لم تأبه بتلك
التغييرات الكبيرة، وكانت تعتقد بأن لبنان ـ كما كان دائماً
ـ يتحكم فيه المال السياسي، ولأنها القوة الإقليمية الاكثر
قدرة على الدفع، فإنها تصورت بأن مالها سيحكم لها القبضة
على الوضع الداخلي اللبناني. وربما لهذا السبب راهنت السعودية
على (مالها) وليس بالضرورة على (رجالها).
وإلا هل هناك عاقل في السياسة، يفرّط في الجنرال عون،
أقوى قوّة مسيحية، وأكثر اللبنانيين عداءً لسوريا، وهو
المصمم والفاعل الذي كان وراء قرار 559؟ شخص يمتلك أكثر
من 75% من الأصوات المسيحية، وله تراث في العداء مع سوريا،
وهو أمر مشترك مع السعودية، كيف عميت السعودية عنه، وفضلت
عليه قاتلا مكروها مثل جعجع، الذي تورط في قتل الكثير
من القيادات، خاصة السنيّة، مثل رشيد كرامي؟!
الرجل يقول أنه على استعداد لزيارة السعودية إذا ما
تلقى الدعوة، والسعوديون يقولون: لا نريده! ثم يقومون
بمهاجمته، وتوزيع الأموال والهبات لكسره في الإنتخابات
القادمة. لقد خسرت السعودية بهذا، الضلع المسيحي الأقوى
في مثلث السلطة بلبنان.
الضلع الآخر، وهو حزب الله، وحركة أمل، ممثلين للشيعة.
ايضاً السعودية راهنت على كسرهما بمعادلة إسرائيلية وفي
حرب تموز 2006، حيث وقفت ضد الحزب في ممالأة مع اسرائيل
وأميركا، وحين ربح الحزب الحرب، كان من الطبيعي أن تخسرها
السعودية. وبدل أن تعيد الأخيرة التوازن في العلاقات مع
التيارات السياسية الشيعية الفاعلة، اعتمدت وسائل التهريج
وهاجمت (التشيّع كمعتقد) وحزب الله، وأمل كقوى سياسية.
كان يمكن للسعودية أن تهدئ اللعب، وبدون أموال تمنحها
للقوى الشيعية، وأن تبقي خيط العلاقة في حدوده الدنيا
على الأقل، لكن السعودية واصلت هجومها ولاتزال، ورفضت
حتى استقبال نبيه بري لشرح وجهة نظره، على الأقل بوصفه
رئيساً للبرلمان. وهكذا خسرت كل القوى المعتدلة وغير المعتدلة
في الساحة الشيعية اللبنانية، آخذين بعين الإعتبار أن
تلك القوى هي في طريقها ـ بسبب تنظيمها ووجود السلاح بيدها
وكثرة عددها ـ لأن تكون الرقم الصعب في المعادلة اللبنانية
المحلية.
نعم كانت مراهنة السعودية على الحريري في محلّها، فهو
القوة السنيّة الأبرز، وقد زاد تيار الحريري قوة شعبيته
مقتل الحريري الأب، حيث تشير التحقيقات الى أن سعودياً
وهابياً كان وراء ذلك. لكن السعودية عملت على تهميش القوى
السنيّة الأخرى، وتعاطت معها بعداء مطلق، وهذا أدّى الى
اضعاف السنّة الذين تراهن عليهم السعودية. حاولت مصر النأي
بنفسها عن هذا التوجه، ففتحت لها ـ متأخراً ـ قنوات مع
الحص وكرامي وغيرهما، فيما لاتزال السعودية غير قادرة
على إنتاج كتلة سنيّة قوية تحفظ للبيوتات السياسية مكانتها،
وهذا يعني أن الإنتخابات القادمة ستكون في غير صالح تيار
المستقبل الحريري، الذي من المرجح أن يحصل على أكثرية
اصوات السنّة، ولكن ليس معظمها كما كان سابقاً.
وبقي جنبلاط، فهذا الرجل غير موثوق في مواقفه، وهو
يمثل نحو 6% من اللبنانيين هم عدد الدروز، ومع هذا، فإن
المعادلة اللبنانية لما بعد 7 أيار ستعيد جنبلاط الى حجمه
الطبيعي، وسيكون تأثيره أقلّ مما مضى.
ما تخشاه السعودية بالفعل، هو أن تؤدي الإنتخابات القادمة
الى خسران الأكثرية أكثريتها، وبالتالي فإن نظام ما بعد
الطائف لن يكون كما هو عليه في منتصف العام القادم.
آخر فرصة للسعودية للحفاظ على مواقعها في لبنان هي
الإنتخابات القادمة، وهي تشعر بأنها أمام تحدّ خاص، ولذا
خصصت ـ حسب بعض المصادر اللبنانية ـ نحو مليار دولار وذلك
للتأثير عليها لصالح فريق الموالاة، ومنعه من الإنحدار
ليصبح أقليّة.
المنزعجون من المال السياسي السعودي الذي تدفّق باكراً
لتغيير مسار الإنتخابات اللبنانية القادمة، جهتان سياسيتان
لهما وزنهما:
الأولى ـ الجنرال عون وحلفاؤه مثل تيار المردة (سليمان
فرنجية).
والثانية ـ القيادات السنّية غير المنضوية تحت لواء
تيار المستقبل مثل كرامي والحص وبيوتات سياسية بيروتية
وصيداوية.
أما الشيعة، فلا توجد قوة ثالثة تنافس أو تهدد أدنى
تهديد، مكانة أمل وحزب الله، مهما كان حجم المال السعودي
المتدفق. وعموماً فإن السعودية لا تقدّم مالاً لتغيير
المعادلة السياسية في الوسط الشيعي لأسباب طائفية وليس
سياسية بالضرورة.
وبهذا فإن السعودية خرجت من إطار الموقف المتوازن بين
الأطراف الى الإنحياز التام الى أطراف محددة بالمال والدعم
السياسي والإعلامي، أي أنها فتحت النار إعلامياً على منافسين
عدّتهم خصوماً لها كما هي الحال مع الجنرال عون.
معنى هذا، أن النار المقابلة ستوجه الى السعودية، خاصة
من المتضررين الأساسيين. وهذا بالضبط ما حدث، وهذا بالضبط
ما جعل السعودية تئن وتشكو مما أسمته الحملات الإعلامية
المغرضة ضدها، مكررة مزاعمها بأنها تقف على مسافة واحدة
من كل الفرقاء اللبنانيين، وهو زعم يفتقد الحد الأدنى
من المصداقية، ولا يصدقه الإنسان العادي في الشارع. فهل
موقف السعودية من عون مثل موقفها من جعجع؟ أم هل كان موقفها
من كرامي والحص مثل موقفها من الحريري والصفدي؟ أم هل
موقفها من حزب الله ـ الذي يتلقى الشتائم في الإعلام السعودي
ـ مثل موقفها من مخالفيه في العملية السياسية اللبنانية؟!
الجنرال عون حذّر مراراً من المال السياسي السعودي،
وهو لا يفوت تصريحاً صحافياً إلا واشار إليه، فيما كان
حليفه فرنجية يدعو الناخبين المسيحيين الى استلام المال
والإنتفاع به، ولكن مع التصويت بحرية في نفس الوقت، طالما
أنه لا يستطيع إيقاف المال السياسي السعودي، فعلى الأقل
تحييده قدر الإمكان.
المحكمة والعلاقات مع فرنسا
هناك مجال آخر لمراهنة السعوديين، متمنين أن يخدمهم
الحظ هذه المرّة أيضاً.
السعودية التي موّلت محاكمة قتلة الحريري، معتقدة بأن
سوريا متورطة، تبدو اليوم خائفة من أن يرتد السحر على
الساحر. فمعطيات المحكمة تقول بأن القاتل من السعودية،
ما يجعل (الوهابية المتطرفة وقواعدها العنفية) المتهم
الأول، بدل أن تكون سوريا، وهذا الإحتمال الكبير الذي
أشرنا اليه مراراً من خلال نشر بعض التحقيقات في (الحجاز)
يزعج السعوديين، ويؤجج نقمتهم على سوريا التي يتمنونها
مدانة، تخسر بموجبها مجدداً نفوذها لصالح السعودية، وتورط
النظام السوري في أزمة كبيرة مع الأميركيين والأوروبيين.
وقالت النهار (6/12) أن هناك (ملامح تشدد عربي تجاه
سوريا تقوده الرياض في شكل يتنامى منذ عام 2005). ورأت
(ان موضوع المحكمة الدولية يعود احد عناصر شد الحبال بين
السعودية وسوريا). مشيرة الى أن هناك تنسيق واستعجال غربي
مع الرياض والقاهرة في شأن تفعيل عمل المحكمة لإدانة سوريا.
من جهة أخرى، لاتزال العلاقات السعودية ـ الفرنسية
متوترة بسبب انفتاح ساركوزي على دمشق، الأمر الذي وفّر
لها ـ حسب السعوديين ـ منفذاً للهرب وفك الحصار، وقد هاجمت
الصحف السعودية الموقف الفرنسي بصورة مبطنة وهو أمرٌ غير
معتاد، وأحياناً بصورة صريحة كما في أحد مقالات رئيس تحرير
الشرق الأوسط، ورأت أن ساركوزي يستغبي العرب في موضوع
علاقاته بدمشق.
وتخشى فرنسا أن تتأثر علاقاتها الإقتصادية مع الرياض
بسبب موقفها من دمشق، وفي زيارة ساركوزي الأخيرة للرياض
بدا أن الأخيرة أقل ميلاً للترحيب بالضيف المتقلّب على
خلاف سلفه شيراك.
الأمين العام للرئاسة الفرنسية كلود غيان ومستشار الرئيس
دافييد لوفيت زارا دمشق اواخر الشهر الماضي، في عملية
تواصل تستهدف تأمين الوضع مع لبنان، وأظهرت باريس أنها
تريد أن تبقي علاقاتها مع دمشق حيّة وقوية لهذا الغرض،
حتى وإن مارست مصر والسعودية ضغوطاً عليها، وهي تريد أن
تفهم السعوديين والمصريين بأنها تتعاطى مع القوى الفاعلة
بغرض تأمين سلامة الوضع في لبنان، وهذا أمرٌ لا يقبله
السعوديون، بل هم متذمرون منه أشد التذمّر.
|