الدولة العنصرية
في قعر الوعي القبلي تربض خارطة إثنولوجية للعالم،
حيث ترتسم رؤية الذات عن الآخر في هيئة خطوط طول وعرض
من نوع مختلف، فالمخيالات المتشكّلة على أساس عرقي تنحبس
في رؤية من سنخ المعيار القيمي الذي يحكم روابط الأفراد
ببعضهم..
تحدّثت ذات لقاء مع أحدهم، ورغم دراسته في الجامعات
الغربية ونزوعه العلماني المتحلل، إلا أنك بالكاد تميّز
بينه وبين أي قبيلي غارق في بداوته أو وهابي غارق في سلفيته،
فعجبت من ذلك، لأن لا سبب وجيه يدعو لهذا الإستدعاء المتكرر
للروابط التقليدية الذي لا ينسجم مع وعيه العلماني، كما
لا يستقيم مع طبيعة الحديث الجاري بيننا..
في حقيقة الأمر، أن ثمة عصباً نائماً في وعي بعض الفئات
يتحرّض حين يجد حاجة للتعبير عن ذاته العنصرية، أي لحظة
إحساسه بالتحدي، أو النزوع نحو التمايز عن الآخر. ولذلك
فهو يرى العالم من خلال خارطة قبلية كونية، أي بمثابة
جينوم قبلي، يروي السيرة الذاتية لأنواع الأعراق البشرية،
التي على أساسها تتموقع كينونات الأفراد والجماعات..لا
يتخيّل القبيلي في نجد، على سبيل المثال، أن لا تكون القبيلة
أساس التراتبية الاجتماعية في أي بلد، فلا يمكن تصوّر
أن لا ينتسب جورج، وصموئيل، وريكاردو، وسلطانوف، وقسطنطين،
وراجا، ولي، إلى قبائل قحطان وعدنان وفروعهما..لم تكن
مزحة تلك التي مرّرها بطلا مسلسل (طاش ما طاش) حين سأل
زعيم قبلي نجدي الطبيب الهندي عن أصله القبلي، إيماءً
إلى القبائل العربية الكبرى، فذلك مبلغ وعيه بخارطة شعوب
العالم، فمن ليس بقبيلي فهو خضيري أو صلبي، المكافىء لوصف
مقطوع النسب، أي لا أصل له معروف، ولن نزيد على ذلك!
لم تكن مشكلة (عدم تكافؤ النسب) تمظهراً متأخراً لوعي
قبلي في العلاقات الإجتماعية فحسب، وإن تحمّل السلفي مسؤولية
تظهيرها عبر أحكام طلاق متكررة، ولكنها مشكلة كانت غامرة
فجاء الوقت كيما تطفو على السطح الإجتماعي والإعلامي والديني.
وسيأتي يوم يتحدث فيه بعض المشايخ عن تمايزات داخل المجتمع
السلفي الوهابي على أساس العرق والإنتماء القبلي، حيث
يقدّم مشايخ ينتمون إلى (قبائل ممتازة) ويؤخّر آخرون لكونهم
من (قبائل عادية).
لا تسترعي بعض الآيات والأحاديث النبوية الناهرة عن
العنصرية إهتمام المفتونين بأعراقهم وأصولهم القبلية،
ولا يتوقفون عند (وخلقناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن
أكرمكم عند الله أتقاكم)، و(لا فرق بين عربي ولا عجمي
الا بالتقوى)، وتحذير الرسول صلى الله عليه وسلم من العصبية
(..أنتم بنو آدم، وآدم من تراب، ليدعن رجال فخرهم بأقوامٍ
إنما هم فحمٌ من فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من
الجعلان التي تدفع بأنفها النتن)..فهذه ليست مكوّنات الوعي
الديني المطلوبة، خصوصاً وأن في المصادر الدينية التي
يرجع إليها أولئك المتدينين العنصريين ما يشكل تسويغاً
لتنشيط وتحكيم العنصر كأساس في كل العلائق بما في ذلك
العلاقة مع الله سبحانه وتعالى.
ولعل من التعبيرات الأشد وضوحاً للعنصرية ما ينعكس
في الثقافة الشعبية عبر تقسيم المجتمع على أساس أصولهم
القبلية أو المذهبية أو المناطقية، فذاك حجازي، وذاك شرقاوي،
وهذا قبيلي وذاك خضيري، كما جرى توظيف رموز الهاتف في
تصنيف الأفراد والجماعات، فأصبح 01 إشارة الى العرق الأسمى
ممثلاً في نجد ليصل إلى 07 في إشارة إلى العرق الأدنى
ممثلاً في الجنوب.. وهذا الحال تجده في الوزارات الحكومية،
فهناك وزارات خاصة بأنساب معينة، بل أن أئمة الحرمين والمساجد
والقضاة هم من منطقة معينة أيضاً.
هذا الوعي العنصري المنقسم على ذاته ليس مقتصراً على
الداخل، بل يمثل صورة مكبوسة عن رؤية عنصرية ذات طابع
كوني، يشمل كل شعوب العالم تقريباً، تارة بحسب جنسياتهم،
وأخرى بحسب ألوانهم، وثالثة بحسب معتقداتهم، ورابعة بحسب
أوضاعهم الاقتصادية، وهو ما يبرر سلوكاً عدائياً تجاه
الآخر المصنّف في مرتبة متدنيّة في السلم الإثنولوجي (نذكّر
هنا بقضية الطبيبين المصريين)، وعلى أساسها أيضاً تتموضع
الكينونات أو تنبذ، في عملية توزيع فضائل ورذائل قائمة
على ثنائيات ذات طبيعة عنصرية، لم تفلح برامج التحديث
والتحوّلات الإجتماعية في مواراتها، بل ساهمت أحياناً
في تصعيدها كاستجابات عفوبة أو بالأحرى تعبيرات أمينة
على فشل تحوّل السعودية الى دولة وطنية حديثة بالمعنى
التام.
لاشك أن ثمة ما يثير غضب المفتونين بالأنساب القبلية
في كتاب مدرّس اللغة الإنجليزية محمد محبوب حسين، البريطاني
من أصل هندي، الذي كتب عن تجربته في السعودية، حيث خلص
في مؤلفه بعنوان (الإسلامي) الى أن ثمة عنصرية متفجّرة
في هذا البلد، تحكم سلوك الأفراد وروابطهم ورؤيتهم للعالم.
كان فوز باراك أوباما قد شكّل صدمة لأولئك العنصريين،
بعد أن أصبح (الرجل الأسود في البيت الأبيض) بحسب عنوان
مقال الشيخ عائض القرني. لأن أوباما ببشرته الداكنة مرشح
أن يكون في دولة خليجية على قائمة المطلوب ترحيلهم، أو
لسياسة تمييز على قاعدة عنصرية، أو سائق تاكسي أو حارس
عمارة أو بائع خضار وليس رئيساً لأقوى دولة في العالم،
كما يقول القرني.
وفيما نسي الأميركيون لونه الأسود، لم يغفرله العنصريون
في هذا البلد ذلك، حتى بعد أن أصبح سيداً عليهم، وسيملي
عليهم في يوم ما واجبات مرتبطة بالمصالح الإستراتيجية
والحيوية لبلاده.
ثقافة الرقيق، التي مثّلت مصدر وعي جماعات قبلية، ونجدية
بدرجة أساسية، لم تنسحب من التداول الرسمي إلا كي تستئمن
في عقول وقلوب الجماعات تلك. نشير الى أن السعودية وقّّعت
على وثيقة تحظر الرق سنة 1962، أي أن ما يقارب من نصف
قرن مرّ على الإلغاء الرسمي للرق، ولكن الثقافة العنصرية
القائمة على أساس اللون، والعرق، مازالت ناشطة، وتحكم
العلاقات الإجتماعية بل والسياسية. .لم يكن سؤالاً مازحاً
ذاك الذي طرحه موقع حواري على شبكة الإنترنت بعد فوز باراك
أوباما: متى نرى وزير سعودي (أسود)؟ وأخشى أن تتحقق أمنية
الموقع فيؤتى بالأمير بندر بن سلطان، ليس وزيراً بل ملكاً،
وحينئذ نصبح كمن أعان الظالم على نفسه، أو بحسب المثل
الشعبي (أراد يكحلها فعماها).
|