هل سيتكرر مشهد تموز في غزة
الصراع القطري ـ السعودي
فريد أيهم
هل ستربح قطر هذه المرة أيضاً قلوب الغزاويين كما ربحت
قلوب الجنوبيين في لبنان، وهل ستخسر السعودية كل رهاناتها
في فلسطين ولبنان كما خسرتها في أفغانستان والعراق والصومال؟
لا شك أن ثمة ما يدعو لعقد تلك المقارنة، فصنّاع الدبلوماسية
السعودية عجزوا حتى الآن عن تحقيق منجز واحد، فقد بات
الفشل رفيقاً حميماً للنشاط الدبلوماسي السعودي، وأن الغطرسة
التي حكمت سلوك الساسة السعوديين منذ سنوات لم تمنحهم
سوى بطاقة حمراء في كل المباريات السياسية التي خاضوها،
ولم يعد يذكر الرأي العام العربي السعودية إلا شريكاً
متواطئاً مع الولايات المتحدة والكيان الاسرائيلي.
كل المؤشرات تفيد بأن خلافاً قطرياً ـ سعودياً برز
منذ اليوم الأول للعدوان الصهيوني على غزة في السابع والعشرين
من ديسمبر الماضي، ظهر أولاً في رفض الجانب السعودي مبادرة
قطرية خلال قمة مجلس التعاون الخليجي في عمان، عاصمة السلطنة،
والتي اعتبرتها الدوحة عودة لمنطق (الشقيق الأكبر) الذي
دفع بالقيادة القطرية إلى التمرد عليه، وشق درب جديد لنزع
الوصاية السعودية..
قطر التي نجحت منذ حرب تموز 2006 على لبنان في تثبيت
موقع متميّز لها وسط قوى الممانعة في المنطقة، بالرغم
من تحفّظاتها على علاقة قطر بالكيان الإسرائيلي، باتت
قادرة على أن تلعب دوراً فاعلاً في القضايا الساخنة في
المنطقة، بخلاف السعودية التي تقلّصت مساحة المناورة السياسية
الخاصة بها، بفعل إصرارها على السير في خيارات راديكالية
لا يجد كثيرون غضاضة في وضعها ضمن أجندة أميركية ـ إسرائيلية.
كان يمكن للسعودية أن تستدرك سريعاً خطأ كانت قد ارتكبته
في اليوم لحرب تموز 2006 حين وصفت عملية أسر الجنديين
الإسرائيليين بأنها (مغامرة)، وحمّلت حزب الله مسؤولية
العدوان الإسرائيلي على لبنان، ولكن كما يبدو فإن للكبرياء
مفعولاً سياسياً فادحاً، فقد قررت القيادة السعودية مرة
أخرى المضي في ذات الرهان، على أمل انكسار المقاومة الفلسطينية
المتمثلة في حركة حماس وحركة الجهاد وباقي فصائل المقاومة،
ما دفع بالإمبراطورية الإعلامية السعودية في الداخل والخارج
أن تعمل بكامل طاقتها التحريضية لتحميل حماس مسؤولية العدوان
الإسرائيلي، في وقت تحصد الطائرات والدبابات والمدافع
الصهيونية وبكل وحشية أرواح الأطفال والنساء والشيوخ وأن
تهدم البيوت والمساجد والمباني العامة على رؤوس من فيها..
لا ريب أن السعودية تخسر الآن كما خسرت بالأمس، ولا
ريب أيضاً أن قطر تربح الآن كما ربحت بالأمس، وإذا ما
سارت الأمور على هذا النحو من الاصطفافات السياسية التي
باتت واضحة اليوم، فإن السيناريو بات واضحاً: تغطية العدوان
الإسرائيلي على غزة سعودياً، وتأييد حكومة محمود عباس
وخياراتها، وبعد العدوان تقديم المساعدات اليها، فيما
ستنفرد قطر وإيران وسوريا وغيرها من قوى الممانعة بتقديم
كل الدعم لقطاع غزة، وستحاول السعودية تطويق صمود المقاومة
عبر رفع وتيرة الخطاب الطائفي، فيما ستقدّم غزة سلطة ومقاومة
وشعباً الشكر لقطر وكل الأشقاء الذين وقفوا إلى جانبها
في وقت المحنة..
وإذا كان من اختلاف في المشهدين اللبناني والفلسطيني،
فينحصر في الدور المنتظر من مصر كيما تمنع من تكرار مشهد
الإنتصار في غزة، على غرار ما حصل في لبنان، حيث أوكلت
مهمة التطويق الى فريق داخلي ـ 14 آذار، فيما يغيب في
غزة أية قوة أخرى غير قوة المقاومة، وهي معادلة حاول العدوان
الاسرائيلي والغطاء الأميركي والعربي تغييرها قبل إيقاف
العدوان على قطاع غزة.
تحدّثت بعض المصادر عن أن محاولة سعودية جرت بعد مرور
نحو أسبوعين على العدوان الإسرائيلي على غزة، لفتح خط
إتصال مع قيادة حركة حماس، بعد صمت لافت إتسم به موقف
السعودية، التي تخفّت وراء الموقف المصري الذي برز في
هذا العدوان الى الواجهة، فيما تكفّلت السعودية بتوفير
أدوات الدعم والإسناد بعيداً عن المواجهة المباشرة، بالرغم
من أن الصمت السعودي حيال العدوان كان مثيراً للاستهجان
عربياً وإسلامياً..
|
هل انتهى شهر العسل؟ |
مبادرة الاتصال بقيادة حماس لم تسفر كما يبدو، من لقاء
جرى في 9 يناير الماضي، عن نتائج لافتة، خصوصاً وأن القيادة
السعودية مازالت مصرّة على أن حركة حماس مخلوق إيراني،
وتعمل وفق أجندة إقليمية إيرانية ـ سورية..وعلاوة على
ذلك، فقد حمّلتها مسؤولية فشل اتفاق مكة مع حركة فتح.
وشأن اللقاءات العابرة التي أجرتها القيادة السعودية
مع حزب الله بعد حرب تموز 2006، فإن اللقاءات التي جرت
مع حركة حماس لا تهدف إلى إحداث توازن في الرؤية للقوى
السياسية العاملة على الساحة الفلسطينية، فشعار (الوقوف
على مسافة واحدة من جميع الأطراف) لم يكن قائماً قبل العدوان
الإسرائيلي، وبات مستحيلاً بعده، فقد انفرزت الساحة العربية
الى معسكرين ليس ناشئاً عن انفراز الساحة الفلسطينية،
كما يراد تصويره، وكأن العرب كانوا على وفاق تام قبل ظهور
حركة حماس أو فصائل المقاومة الإسلامية في فلسطين ولبنان.
الصراع القطري ـ السعودي، كان مرشحاً للإنفجار، فقد
بات من الصعب، حتى مع الاتفاق الجنتلمان الذي تم بينهما
قبل أكثر من عام بوقف الحملات الإعلامية المتبادلة، أن
يصطف الطرفان في جبهة واحدة..وإذا نأى الطرفان عن المواجهة
المباشرة، فإن المنازلات السياسية في الساحات العربية
الأخرى يكشف عن صراع نفوذ محتدم بين البلدين، وإن مازالت
النظرة السعودية الصارمة بأن قطر تلعب دوراً أكبر من حجمها،
وهو ما يجعل الأخير مصرّة على أن تثبت للشقيقة اللدودة
بأن الحجم النوعي أشد تأثيراً في عالم السياسة اليوم،
سيما في حال نجحت الدول الصغيرة في ضبط التعامل الحاذق
لشروط اللعبة، وتثمير التناقضات القائمة. فقد نجحت الدوحة
في قطف ثمار جهود سعودية بذلت على مدار سنتين في لبنان،
حين عجزت الرياض عن تفجير الساحة اللبنانية لجهة كسر جبهة
قوى المعارضة، التي اقتنصت لحظة تاريخية مناسبة وأحبطت
كل الترتيبات الأمنية والسياسية في لبنان، ووهبت الدوحة
مكافأة الرعاية لاتفاق لبناني يحمل بصمة قطرية، فيما دفعت
السعودية انحيازها الفاضح في لبنان لقوى 14 آذار، بأن
تحوّلت إلى مجرد طرف مشاغب، يحاول الثأر لخسارته، عن طريق
إشعال فتن متنقلة، لتخريب إتفاق الدوحة ولكنها محاولات
باءت بالفشل..
راهنت الرياض على حليف ضعيف وفاسد في لبنان، وكانت
النتيجة أن كسبت الدوحة قلوب الأغلبية الشعبية في لبنان،
إعماراً وتوافقاً، وتكرر الخطأ ثانية بوضع الرياض رهان
آخر على حليف ضعيف وفاسد في فلسطين، وستكون النتيجة أن
تكسب الدوحة قلوب أغلبية الشعب الفلسطيني إعماراً، ولا
يستبعد أن يكون توافقاً أيضاً..
دلع الصراع القطري السعودي لسانه فور بدء الغارات الجوية
الإسرائيلية على قطاع غزّة، حين طالبت الدوحة بعقد قمة
عربية طارئة، وقامت بإجراء إتصالات مكثّفة بعدد كبير من
قادة الدول العربية للتشاور في فكرة عقد القمة..ومنذ شعرت
قطر بأن ثمة دولاً عربية تعارض الفكرة قامت بتسريب خبر
معارضة نظام حسني مبارك للقمة، في وقت كانت السعودية تعمل
على احتواء الوضع خليجياً..
لم يرق للقيادتين السعودية والمصرية أن تعاود قطر الكرّة
عليهم، وتجني ثماراً كانوا يرجون قطفها في مأساة غزة،
فعملا بالتنسيق سوياً، وأحياناً بعيداً عن التشاور مع
الجانب الأردني، لجهة تعطيل أي ترتيب قطري ـ سوري لعقد
قمة عربية تسهم في تحميل مصر والسعودية مسؤولية أخلاقية
وقومية فيما يجري، ولأن قرار معسكر الاعتدال هو توفير
الغطاء للعدوان والضغط باتجاه منح الكيان الاسرائيلي الوقت
الكافي لإنهاء حركة حماس واستصدار قرار من مجلس الأمن
يمهّد لعودة محمود عباس الى غزة، وهو ما حاول نفيه لاحقاً،
بعد أن تحدثت تقارير عن ذلك بصورة واسعة ومحرجة.
على أية حال، فإن الخلاف القطري ـ السعودي لم يلبث
أن طفى على سطح منقسم بفعل المواقف العربية المتباينة
إزاء مأساة غزة..وما يثير الإنتباه أن هذا الخلاف، شأن
كل صور الخلاف الأخرى داخل الدائرة العربية، لا يعبّر
عن نفسه في الخفاء، وبعيداً عن الأضواء، فالاستقطاب الحاد
الذي فرضته مأساة غزة، جعلت كل شيء مكشوفاً، فمن هم مع
العدوان الصهيوني ومن هم ضدّه ليسوا مجهولي الهوية، فقد
عبّروا عن أنفسهم في السياسة كما في الصحافة والإعلام،
وفي الفكر كما في الافتاء..لم يعد الصمت فاكهة النظام
السياسي العربي، بل إن القسمة التي وضعها بوش بعد حوادث
الحادي عشر من سبتمبر إما معنا أو ضدنا، باتت حقيقة سياسية
عربية..
قطر، التي اختارت أن تمسك العصا من وسطها، لا تختار
عربياً الموقف الوسطي، بل تفيد من حاصل جمع تحالفاتها
الدولية والإقليمية وإمكانياتها المادية لمناكفة خصومها،
الذين لا يرتضون لها أن تجني الأرباح فيما هم ينفقون رؤوس
الأموال بانتظار لحظة الحصاد الأكبر..ويلزم تسجيل نقطة
تميّز لقيادة قطر، أنها غير محكومة بأيديولوجية دينية
ولعبة المحاور، وإن بدت في بعض الأحيان كذلك، فهي تمارس
انفتاحاً ذكياً على الأطراف كافة، ولكنها تختار موقعها
في اللحظة المناسبة من كل القوى التي تنفتح عليها، وتقتنص
الفرصة السياسية حين تفشل الأطراف الكبرى في إتقان اللعبة،
أو تخرج منها خاسرة خائبة. ولذلك، هي لا تنافس حين تكون
المنافسة خاضعة لتفسيرات كيدية، ولكنها تجيد فن (الانتظار
الإيجابي). وما تتميز به الدوحة أنها باتت مقبولة كطرف
حاضن للتوافقات أو التسويات، بخلاف السعودية التي لم تنجح
حتى الآن في تغيير النظرة عنها باعتبارها حليفة لطرف على
حساب آخر..
محاولة قطر تحقيق النصاب القانوني لعقد القمة العربية
كانت بكل المقاييس نقطة ذهبية تحصل عليها، حتى ولو لم
تعقد القمة، بل إن عدم انعقادها بعد أن انكشفت هوية المؤيد
والمعارض لانعقادها، يزيد في خسارة المعارضين، ولا ينقص
من ربح المؤيدين. مع التذكير، بأنه بات من الواضح أن قرار
تعطيل انعقاد القمة صدر عن السعودية ومصر، وهو ما أفاد
قطر في إعادة طرح قضية القمة العربية وضرورة انعقادها
من أجل المزيد من (فضح) الدور السعودي المصري، وتأجيج
الرأي العام العربي على الدول المعارضة لانعقاد القمة..نشير
إلى أن الدوحة ستستضيف القمة العربية في مارس القادم.
وفي خطوة مفاجئة، ألقى أمير دولة قطر الشيخ حمد بن
خليفة آل ثاني كلمة متلفزة في الرابع من يناير إنتقد فيها
بصورة غير مباشرة قرار مصر بفرض الحصار على غزة، واعتبره
غير قانوني.. كما انتقد قرار مصر والسعودية بنقل قضية
العدوان الاسرائيلي على غزة الى مجلس الأمن قبل عقد قمة
عربية وتوحيد الموقف العربي.. والأهم في كلمته وصفه عملية
تهريب القضية الى مجلس الأمن بقوله (اجتهاد بعض الاخوة)..
وهذا يعكس الخلاف القطري السعودي في قضية العدوان على
غزة..وترى قطر بأن هناك مصادرة سعودية ـ مصرية للقرار
العربي..
لقد بدا واضحاً أن قطر دخلت منذ رفض السعودية ومصر
فكرة عقد قمة عربية لمناقشة التطورات الدراماتيكية في
غزة، في مرحلة مختلفة، تحررت من إلتزامات أدبية كانت قد
فرضت عليها حركة مشوبة بالحذر الدائم من أجل مراعاة حساسية
الشقيقة الكبرى، ولكنها شعرت بعد العدوان الصهيوني على
غزة بأن ثمة ما دبّر في الخفاء، وهو ما اعتبرته القيادة
القطرية بأنه خديعة، ولكنها خديعة إنقاذية بالنسبة لها،
ولذلك لحظنا بأن فور نقل قضية العدوان الإسرائيلي على
غزة من الجامعة العربية الى مجلس الأمن، في عملية وصفت
بمكر هزيل مارسه الطرفان السعودي والمصري، بهدف تفويت
الفرصة على انعقاد القمة العربية، حتى بدأ التنسيق القطري
ـ السوري يعبّر عن نفسه، فيما طلبت حركة حماس بتشجيع من
سوريا لإدخال تركيا على خط المناقشات السياسية لتعطيل
أي محاولة استثمار العمل الدبلوماسي لصالح الكيان الإسرائيلي.
|