كما في عدوان تموز..
السعودية أحبطت القمة العربية وغطّت محرقة غزة
هيثم الخياط
حين أعلنت وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس
فور بدء العدوان الإسرائيلي على لبنان في تموز 2006، عن
تشكيل حلف المعتدلين (المؤلف من السعودية ومصر والإردن
وعدد من دول الخليج، وسلطة رام الله ممثلة في حكومة محمود
عباس إضافة إلى الكيان الإسرائيلي)، لم يكن الحلف قد تبلوّر
بصورة واضحة، أو رسم خططه الإستراتيجية لمواجهة قوى الممانعة
في المنطقة، الأمر الذي أفقده القدرة على ضبط إيقاعه السياسي،
خصوصاً وأن نتائج حرب تموز جاءت على النقيض من توقّعات
وآمال دول الاعتدال..
ولكن حلف المعتدلين عمل خلال السنتين الماضيتين على
تنسيق مواقفه السياسية، ووضع خطط سياسية واضحة، وآليات
لتحقيق أكبر قدر من الإنسجام في طبيعة تحرّكاته، وتقاسم
الأدوار والمهام المراد الإضطلاع بها، بهدف ضمان نجاح
الخطط المرسومة. ولذلك، لم يكن مستغرباً أن تنشط حركة
اللقاءات السريّة وشبه العلنية بين أجهزة الاستخبارات
في كل من مصر والسعودية والأردن وحكومة محمود عباس في
رام الله، والكيان الإسرائيلي، لوضع آليات عمل مشتركة
بهدف رسم إستراتيجيات المواجهة مع قوى الممانعة في المنطقة
ممثلة، بدرجة أساسية، في إيران وسوريا وحركة حماس وحزب
الله.
وقد جرى العمل خلال الفترة التي أعقبت حرب تموز على
تفجير النزاعات الطائفية بقيادة السعودية وتيارها الديني
السفي، كجزء من استراتيجيات المواجهة، بهدف تهيئة أجواء
الحرب على إيران تقودها الولايات المتحدة، وانطلاق، بالتزامن،
الجولة الثانية من الموجهات ضد حركة حماس في قطاع غزة
وحزب الله في لبنان تقودها الدولة العبرية بالتعاون مع
مصر والأردن. ولكن نجاح إيران في احتواء الخلاف الطائفي،
وإصرار حزب الله في لبنان على عدم الإنجرار لمعارك طائفية
جرى التجهيز لها من قبل أطراف لبنانية في قوى 14 آذار
بالتعاون مع مستشار الأمن الوطني السعودي الأمير بندر
بن سلطان، ونجاح حركة حماس في إحكام قبضتها على قطاع غزة،
أحبط فرص إشعال حروب متزامنة غير مأمونة العواقب، ما جعل
هامش المناورة لدى حلف المعتدلين يضيق مع اقتراب نهاية
عهد الرئيس الأميركي جورج بوش..
و بالرغم من التلويح المتكرر بخيار حروب أخرى، على
غرار حرب تموز، أو حرب أميركية ـ إسرائيلية على إيران
لضرب منشآتها النووية، فإن الأطراف المتنازعة أدركت بأن
الأمر لا يعدو أن يكون تهويلاً فارغاً، ولم يبق أمام حلف
المعتدلين سوى خيار حرب محدودة، إعتقد أعضاؤها بأنها ستكون
خاطفة، وحاسمة..بناء على تقارير إستخبارية إسرائيلية،
وفلسطينية، وعربية (وتحديداً مصرية وأردنية)..
لم يخطيء المسؤولون الإسرائيليون وهم يصرّحون بثقة
عالية بأن قادة الإعتدال كانوا على علم بقرار العدوان
على غزة، بل أنهم يتابعون تفاصيله، ويراقبون تطوّرات الأوضاع
الميدانية لحظة بلحظة..الخطوط الهاتفية الساخنة بقيت مفتوحة
منذ اليوم الأول للعدون، وهناك لقاءات تشاورية بين رؤوساء
الأجهزة الاستخبارية في دول الإعتدال..
وفيما كان المسؤولون الإسرائيليون يطلقون التصريحات
المتعاقبة بشأن (تحريض) قادة حلف الاعتدال على مواصلة
إسرائيل الحرب على غزة، والقضاء على حركة حماس، كان الصمت
سيد المعتدلين العرب، بالرغم من أن التواطؤ لم يكن مغفولاً
عنه هذه المرة من قبل المراقبين، فاللعب بات على حد قول
الكاتب المصري فهمي هويدي (عالمكشوف).
صحيفة (هآرتس) المحسوبة على اليسار الوسط، ذكرت في
2 يناير الجاري بأن (أن إسرائيل تلقّت في الأيام الأخيرة
إشارات من دول عربية معتدلة صيغت بطريقة مغايرة للإدانات
العلنية الصادرة عنها جاء فيها (ادخلوا (إلى قطاع غزة)،
إذا كنتم ملزمين بذلك، ولكن لا تتجرأوا على الفشل، فهدر
آخر أمام الفروع الإيرانية في المنطقة، ليس وارداً).
نقل عن رئيس الوزراء الإسرائيلي في الأول من يناير
الماضي، وخلال جلسة شارك فيها جميع رؤوساء الأجهزة الأمنية
في الكيان الإسرائيلي أنه قال بأن (العديد من قادة الدول
العربية يحثونه على مواصلة العملية العسكرية وضرب حماس)،
وانّه (تلقى الاتصالات منهم عبر قنوات مختلفة).
وقال الجنرال متان فلنائي، نائب وزير الحرب الإسرائيلي
أن الظروف الدولية والإقليمية السائدة حالياً، وضمن ذلك
عدم انعقاد القمة العربية تتيح لإسرائيل استكمال حملتها
على حركة حماس في قطاع غزة. وفي مقابلة أجراها معه التلفزيون
الإسرائيلي باللغة العبرية في الأول من يناير قال فلنائي
أنه في حكم المؤكّد أن العديد من الأطراف العربية تتفهم
دوافع إسرائيل لخوض المواجهة ضد حركة حماس، منوّهاً الى
(أن التفهم العربي يعتبر أحد أهم الظروف التي أتاحت لإسرائيل
شن هذه الحرب. وأضاف (أن شعور لدى الكثير من الحكومات
العربية أن هناك قاسم مشترك بينها وبين اسرائيل في حربها
ضد ما اسماه بـ (الإسلام المتطرف).
|
معاً.. سلامتكما! |
من ناحيته قال وزير القضاء الإسرائيلي الأسبق يوسي
بيلين، أحد مهندسي اتفاق أوسلو، أن الحرب في غزة لا تضج
مضاجع أكثر القادة العرب كما لم تفعل الحرب في لبنان.
وأضاف بيلين في مقال نشره في صحيفة (إسرائيل اليوم) في
عددها الصادر في 31 ديسمبر الماضي أنه بمجرد أن تخرج عدسات
تصوير التلفاز من المكاتب وتغلق الأبواب في اللقاءات التي
تجمع الزعماء العرب ونظرائهم الإسرائيليين، فإنهم (يسمعون
أقوالاً مدهشة تفرحهم جداً من الزعماء العرب حيث يتبين
أن ألد أعداء إسرائيل في الواقع ألد أعداء الزعماء العرب)،
وبطبيعة الحال فهو يتحدث حصرياً عن زعماء الاعتدال!. وأضاف
(عندما تضرب إسرائيل أو حزب الله فأن بعض الزعماء العرب
يستهجنون في حضور المسؤولين الإسرائيليين لأن العمليات
العسكرية الإسرائيلية ليست أشد صرامة). ودعا بيلين زعماء
إسرائيل إلى عدم الإلتفات الى الزعماء العرب الذين يشجعون
على تحطيم عظام حركة حماس. وأضاف (لا يجب أن يكون مئات
ملايين المشاهدين لقنوات التلفاز العربية من مؤيدي حزب
الله وانصار حماس، أو متطرفين متدينين حتى يمقتوننا ويكرهوننا
بعد المجازر التي ارتكبناها في القطاع).
وكانت صحيفة (معاريف) ثاني أوسع الصحف العبرية إنتشاراً
قد كشفت النقاب يوم العدوان على غزة (27 ديسمبر الماضي)
أن مسؤولين عرب كبار طالبوا إسرائيل بتصفية قيادات حركة
حماس السياسيين والعسكريين. وذكر بن كاسبيت كبير المعلقين
في الصحيفة والمعروف بإرتباطاته الوثيقة بالمؤسسة الأمنية
والسياسية في إسرائيل أن أحد المسؤولين العرب إتصل بعدد
من المسؤولين الإسرائيليين وقال لهم (إقطعوا رؤوسهم).
ليست رسائل التحريض الصادرة من عرب الإعتدال تلك منفصلة
عن تدابير موازيّة كان يقوم بها مسؤولون في دول عربية
تنتمي إلى حلف المعتدلين من أجل توفير الفترة الزمنية
المناسبة كيما تنهي آلة الدمار الصهيونية مهمتها في قطاع
غزة..
فقد ظهر في نهاية ديسمبر الماضي أن الحكومة السعودية
تحرّكت بنشاطية دبلوماسية غير معهودة من أجل إحباط أي
مبادرة لعقد قمة عربية طارئة لبحث العدون الصهيوني على
قطاع غزة. وذكرت صحيفة (المنار) المقدسية في 31 ديسمبر
الماضي أن السعودية تقوم باتصالات مع دول عربية لعرقلة
عقد القمة الطارئة، و قالت أن هذه الاتصالات يقودها إثنان
من العائلة المالكة يتقلدان مناصب رفيعة في المملكة. و
أكّدت المصادر لـ (المنار) أن القيادة السعودية إتصلت
مع الرئيس الأمريكي الحالي جورج بوش وطلبت منه العمل على
استصدار قرار من مجلس الأمن لإرسال قوات دولية الى قطاع
غزة. و أشارت هذه المصادر الى أن حكام السعودية يخشون
أن تتحول القمة العربية الى محاكمة علنية لمواقف الرياض
وغيرها الداعمة لضرب قطاع غزة، و هي أيضاً لا تريد عقد
القمة في هذه الأيام، وإنما بعد أن تكون اسرائيل قد أتمّت
مخططاتها العدوانية ضد القطاع.
و نقلت المصادر عن مسؤول سعودي قوله أن الرياض أصدرت
تعليماتها الى وسائل الاعلام التي تمولها بشن حملات عنيفة
على المقاومة الفلسطينية وتحميلها مسؤولية ما يتعرض له
قطاع غزة، وتبرير عدوان إسرائيل الهمجي عليه. ولم تستبعد
المصادر، بحسب الصحيفة، أن تعقد في الأيام القليلة القادمة
لقاءات سرية جديدة بين مسؤولين سعوديين و قادة صهاينة
في تل أبيب وغيرها من العواصم.
و كشفت المصادر لـ (المنار) أن مسؤولين صهيونيين إثنين
أحدهما شخصية أمنية رفيعة المستوى إلتقيا قبل العدوان
على قطاع غزة مسؤولين سعوديين في دبي، و استمعوا الى شرح
لمخططات اسرائيل ضد قطاع غزة و المقاومة. وأضافت المصادر
بأن المسؤولين الصهيونيين نقلا إلى اولمرت وأركان حكومته
دعم السعودية لهذه المخططات و طالبا حسم الحرب على غزة
بالسرعة الممكنة خشية الوقوع في الحرج اذا ما طالت هذه
الحرب العدوانية.
وكما كان متوقعاً، فإن القمة العربية لم تعقد بل جرى
إحباط فرص انعقادها حين قرر وزير الخارجية السعودي الأمير
سعود الفيصل بالتنسيق مع أمين عام الجامعة العربية بتشكيل
وفّد مؤّلف من دول حلف المعتدلين ووضع قضية العدوان الصهيوني
على غزة بتصرف مجلس الأمن الدولي، وبالتالي تفويت الفرصة
على أي محاولات عقد القمة، كما يظهر ذلك من اللقاءات المتعاقبة
التي جرت بعد ذلك في مجلس الأمن، ومحاولة إخراج مبادرة
مصرية، وليس عربية تحظى بتأييد أميركي وأوروبي، بما يؤدي
إلى تحييد أي أطراف عربية مصنّفة في خانة الخصوم، مثل
سوريا والسودان..
ختم وزراء الخارجية العرب اجتماعهم في القاهرة في 31
ديسمبر الماضي، ومالبث أن تشكّل وفد المعتدلين الذي طار
إلى نيويورك، بعد أن نجحت السعودية ومصر بعرقلة أي مبادرة
لعقد القمة العربية الطارئة..فهم المعتدلون من إجتماع
وزراء الخارجية العرب في القاهرة بأن المطالب ستكون محرجة
لقادة الاعتدال ووعود قطعوها على أنفسهم للدولة العبرية،
خصوصاً تلك المطالب التي تشمل رفع الحصار وفتح المعابر
وإنهاء سياسة العقاب الجماعي المفروضة على سكان قطاع غزة.
لم يخف المعتدلون تواطأهم مع العدوان الاسرائيلي، وهو
ما دفع بشخصيات فلسطينية لاستهجان موقفهم. فقد كشف المفكر
العربي الفلسطيني عزمي بشارة في بيان له صدر نهاية ديسمبر
الماضي عن أن التحضير للعدوان على غزة جرى (بعد تنسيق
أمني سياسي مع قوى عربية وفلسطينية، أو إعلامها على الأقل،
حسب نوع ومستوى العلاقة). وأشار بشارة إلى أن مواقف بعض
القوى العربية من الكيان الصهيوني (يتراوح بين اعتبارها
حليفاً موضوعياً ضمنياً حالياً أو حليفاً مستقبلياً سافراً،
وبينها من تعتبر النقاش معه مجرد سوء تفاهم، في حين تعتبر
نفس هذه القوى الصراع مع قوى الممانعة والمقاومة صراعَ
وجود). وأضاف بأنه (لا تناقض بين تنسيق العدوان مع بعض
العرب وبين إدانة العدوان الصادرة عنهم، بل قد تكون الإدانة
نفسها منسقة، ويجري هذا فعلاً بالصيغة التالية "نحن نتفهم
العدوان ونحمل حركة "حماس" المسؤولية، وعليكم أيضاً أن
تتفهموا اضطرارنا للإدانة ..قد نطالبكم بوقف إطلاق النار،
ولكن لا تأخذوا مطلبنا بجدية، ولكن حاولوا أن تنهوا الموضوع
بسرعة وإلا فسنضطر إلى مطالبتكم بجدية). ولفت بشارة إلى
أنه عندما (قرر جزء من النظام العربي الرسمي أن "إسرائيل"
ليست عدواً، بل ربما هي حليف ممكن أيضاً، صارت دوله تتحين
الفرص للسلام المنفرد، وتدعم أية شهادة زور فلسطينية على
نمط "عملية السلام"، وعلى نمط "لا نريد أن نكون فلسطينيين
أكثر من الفلسطينيين".. وأصبحت مقاومة "إسرائيل" شعبية
الطابع، وهي تحظى بدعم من جزء من النظام العربي الرسمي
لأسباب بعضها تكتيكي وبعضها إستراتيجي).
وفي مقالة بعنوان (غطاء عربي لمجزرة غزة) كتب عبد الباري
عطوان، رئيس تحرير صحيفة (القدس العربي) الصادرة في لندن
في 2 يناير الجاري أن (هذا العدوان جاء نتيجة تنسيق ومباركة
مع دول عربية نافذة، وخاصة مصر والمملكة العربية السعودية.
وهما الدولتان اللتان عارضتا بقوة عقد مؤتمر قمة طارئ
لبحث الأوضاع في قطاع غزة، متعذرتين بالانقسام الفلسطيني).
واعتبر اجتماع وزراء الخارجية العرب الذي عقد في القاهرة
(بمثابة فرصة نادرة لممثلي النظام الرسمي العربي لابراء
ذمتهم من تهمة التواطؤ مع العدوان، ولكنهم أكدوا التهمة،
بل وتفاخروا بها، وأعلنوا الاستمرار فيها، لاعطاء الطائرات
والدبابات الاسرائيلية ما تحتاجه من وقت، وغطاء عربي،
لاكمال مهمتها في إبادة أكبر عدد ممكن من أبناء قطاع غزة).
|