هل ستدخل اسرائيل الى الرياض من بوابة العداء لإيران
السعوديون وصنع (الأعداء)
محمد الأنصاري
دولة قامت على صنع الأعداء، في الداخل والخارج، فكان
مبرر وجودها إعلانها الخصومة مع الدولة العثمانية، حتى
قال مؤسس الدولة عبد العزيز بن سعود (لو كان في جسمي شعرة
تحب العثمانيين لقلعتها)، وبقيت نزعة العداء متوارثة داخل
العائلة المالكة، وتحكم سلوكها حتى اليوم، فهي تنظر إلى
دول الجوار باعتبارها أعداء، لابد من تدميرهم، والخلاص
منهم، أو على الأقل ضرب طوق العزلة حولهم، فقدّمت الأموال
في الخمسينيات لإسقاط النظام في سوريا في عهد حسني الزعيم،
وأوعزت للأميركيين بضرب مصر وسوريا والعراق، وأشعلت الحروب
الأهلية في اليمن، وخطّطت لقلب نظام الحكم في قطر في التسعينيات،
ثم دفعت الأموال لقلب نظام الحكم في سوريا منذ 2006، وحرّكت
الحروب الطائفية في العراق ولبنان.. كل ذلك ومازالت مملكتهم
تتمسك بمواقف ثابتة من الأشقاء العرب والمسلمين، وترفض
التدخّل في الشؤون الداخلية للدول، وتؤكد على روابط الأخوة
والتعاون لمافيه خير الأمتين العربية والإسلامية.
يتداول الملوك السعوديون عبارات توصيقية للدول العربية
ذات دلالالة خاصة، من قبيل أن (اليمن خيركم وشركم منها)،
و(لا تأمنوا العراق وما يطلع خير منه)، و(واتركوا الأتراك
ما تركوكم)، بل حتى المناطق في الداخل لها توصيفات ذات
طبيعة خصامية من قبيل (أهل الحجاز دجاج لكن بمناقير من
حديد).. لم تكن هذه العقلية البدوية التي اعتادت أن تؤسس
المواقف على قاعدة أن كل ما حولك أعداء، بل زادت عليها
بأن تحوّلت الى عقلية تدير دولة حديثة.
ما يلفت الإنتباه أن الكيان الإسرائيلي لم يكن في يوم
ما وارداً، من الناحية العملية، في قائمة الأعداء، ما
خلا بعض العبارات التي كانت ترد في وسائل الإعلام المحلية
منذ سنوات بعيدة، والتي جرى التخلي عنها في عهد الملك
فهد، حيث تم استبدال كلمات من قبيل العدو الصهيوني باسرائيل،
وحتى الشهداء الذين يتساقطون برصاص القوات الصهوينية لم
يعودوا شهداء، بل أصبحوا مجرد قتلى، شأنهم شأن من يقتل
في حوادث السيارات أو الفيضانات، أو حتى الزلازل.
لم يحدث أن نظّمت الدولة السعودية، منذ نشأتها حتى
اليوم، حملة تثقيف بالقضية الفلسطينية تفضي إلى تصنيف
الكيان الإسرائيلي في خانة الأعداء، وحتى خلال حملات التبرّع
للشعب الفلسطيني التي كانت تجري في الستينيات وبداية السبعينيات
كانت تتم تحت شعار مساعدات إنسانية للشعب الفلسطيني، وليس
دعماً لقضية فلسطينية مشروعة ضد كيان محتل. مع الإشارة
هنا إلى دور العمال العرب والأساتذة الفلسطينيين الذين
لعبوا دوراً رئيسياً في تعميم الوعي بالقضية الفلسطينية
بوصفها قضية العرب المركزية.
دولة بقيت منتجة للأعداء، ولا تعيش سوى عليها، شأن
الدولة العبرية، ما يكشف عن طبيعة ناشزة للكيان الذي تأسس
منذ البداية، ما يدفع للتأمل دائماً في خطابها السياسي
والإعلامي، الذي وإن بدا تصالحياً أحياناً مع الآخر، إلا
أنه يجنح دائماً إلى تفجير خصومات في السر من أجل العيش
في (جزيرة آمنة)، ومع ذلك فإن التناقضات الداخلية كفيلة
بتفجير الخصومات الكامنة.
بلغت درجة الخصومة مع الزعيم جمال عبد الناصر إلى حد
توسّل آل سعود بالولايات المتحدة والغرب للدفع باتجاه
حرب ضروس لإزالة خصم حسبته مصدر تهديد لوجودها، وخاضت
معه حرب استنزاف طويلة في اليمن، وفرحت بنكسة حزيران 1967
لأنها انتهت بانكسار التيار الناصري، وابتهجت برحيل قائده
سنة 1970. وحتى الرئيس العراقي صدام حسين، وبالرغم من
وقوفها معه في الحرب ضد إيران سنة 1980 وإنفاقها عشرات
المليارات من الدولارات لغاية معروفة، لم يكن يسلم من
ويلات الخصومة المستفحلة لدى آل سعود ضده، فحرّضت عليه
الولايات المتحدة، بعد أن وقع صدام في خطيئة تاريخية باحتلاله
الكويت في 2 أغسطس 1990. وتذكر وثيقة أميركية رفعت الى
الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون بأن الملك فهد طلب
من أمين عام الأمم المتحدة الأسبق بطرس غالي تثبيت الحصار
المفروض على العراق. والسبب ببساطة أن رفع الحصار قد يؤدي
الى استعادة صدام حسين قوته مجدداً، الأمر الذي يهدّد
جيرانه، وخصوصاً السعودية، التي كان يبطن صدام لها ثأراً
تمنى تنفيذه لو سمحت له الأوضاع الدولية.
وبعد أن تخلّصت من خصمين لدودين جمال عبد الناصر وصدام
حسين، وجدت السعودية نفسها وقد انفردت بالمنطقة، محقّقة
ما وصفه الكاتب المصري محمد حسنين هيكل (الحقبة السعودية).
ولكن، لم تهنأ طويلاً بهذا الإنفراد المحفوف بالريبة،
فقد تفجّر العنّف في 12 مايو 2003، أي بعد شهر واحد من
احتلال العراق، وسقوط نظام صدام حسين. ومع ذلك، بدأت خطاب
الخصومة مع النظام الجديد في العراق، على قاعدة مذهبية،
فحرّضت عناصرها الذين كانوا بالأمس يقاتلون ضد الخصم الشيوعي،
ومن أجل درء أخطار داخلية، صارت الفتاوى التحريضية ذات
الطابع العدائي تتجه لتحريك الجهاديين الى خارج الحدود،
حيث المواقع التي أشبعها الخطاب الديني/السياسي الرسمي
كراهية كيما تكون مؤهلة للقتال، يشارك فيه من فتنوا بثقافة
الكراهية والخصومة ضد الآخر.
وبعد مقتل رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري
في 12 فبراير 2005، تفجّرت الخصومة في شكل إنتقامي، ضد
قوى لبنانية محلية، وقوى إقليمية عربية وعجمية، فأرادت
أن تشعلها حرباً طائفياً في لبنان كرد فعل على خسارة رجلها
القوي، وأوعزت لقوى سورية معارضة وحكومات أوروبية وأميركية
لإسقاط النظام في سوريا، بتهمة التورّط في اغتيال الحريري.
ومن عجائب ما كشف في العدوان الإسرائيلي على لبنان
في 12 يوليو 2006، أن تكون السعودية أول دولة عربية تقوم
بتوفير غطاء لعدوان على دولة عربية أخرى، حين وصفت عملية
أسر الجنديين الإسرائيليين بالمغامرة، وسوّغت بذلك البيان
المشؤوم لحرب دامت ثلاث وثلاثين يوماً على لبنان..وظهرت
الخصومة في أقبح صورها، في الفتوى التي أصدرها العضو السابق
في لجنة الإفتاء الشيخ عبد الله بن جبرين بحرمة الدعاء
لحزب الله في حربه ضد القوات الإسرائيلية.
وقد أفاد الكيان الإسرائيلي من الغطاء السعودي أيضاً
في العدوان على غزة في 27 ديسمبر الماضي، واستمر 21 يوماً،
بعد حصار عربي محض على القطاع دام لأكثر من سنتين، في
سياق التمهيد لحرب عسكرية لم يشهد بشاعتها التاريخ الحديث،
حيث كانت مشاهد القتل والدمار تغمر شاشات التلفزة الفضائية،
في وقت كانت السعودية تمارس دور الكابح لكل تحرّك عربي
رسمي أو شعبي، نتذكر ما يعنيه وصف التظاهرات تضامناً مع
أهالي غزة بأنه (استنكار غوغائي).
وكما حدث بعد حرب تموز في لبنان، فإن ما جرى بعد الحرب
على غزة كان صورة طبق الأصل لما يمكن توقّعه من سياسة
سعودية لخلط الأوراق في محاولة لمحو آثار الجرائم الإسرائيلية
في لبنان وقطاع غزة. فقد أشتغلت الماكينة الإعلامية السعودية
لجهة إشعال الخلافات المذهبية، وجرى استحضار إيران الى
مركز الخصومة السعودية، على المستويين الإعلامي والشعبي..ولأن
المجازر الإسرائيلية ألجمت السعودية حجراً في غزة، حيث
لم تعد تنطلي خطة إقحام إيران في الصورة الخصامية، بالرغم
من محاولات كتّاب سعوديين نالوا وسام (العار) في التغطية
الإعلامية لمجازر غزة، فانتظرت السعودية الى حين تختفي
مشاهد الأطفال والنساء الذين سقطوا صرعى بصواريخ الطائرات
الإسرائيلية، حتى تعيد تحريك لعبة الخصومة في الداخل،
على الأقل في الوسط الوهابي الذي لا يحتاج إلى كبير عناء
كيما يستعيد ذاكرة الخصومات مع كل مخالف، فقد تكفّلت مصادر
التوجيه الديني والسياسي في ذلك كله.
إيران العدو.. حسناً
إيران هي العدو، ليست إسرائيل ولا الغرب ولا أي دولة
أخرى في العالم.. هكذا يلخّص الصحوي والليبرالي النجدي
في السعودية قائمة عداوات الحكومة التي يتبناها بغباء
أو تذاكي في أحيان كثيرة..
لم يعهد هذا البلد نقاش من نوع الذي يجري في منتديات
صحوية وليبرالية سعودية مقرّبة من الحكومة، يجنح إلى تعديل
قائمة الأعداء، أو يضع إسرائيل، الدولة المحتلة الغاصبة
لفلسطين في ميزان الاعتدال، والمقارنة مع دول أخرى في
المنطقة أو في العالم بأسره، وحتى المعسكر الشيوعي لم
يخضع لمنطقة المفاضلة مع الكيان الإسرائيلي..
لحظنا منذ حرب يوليو 2006 على لبنان، أن لهجة جديدة
تتسرب الى الأوساط الإعلامية والثقافية السعودية، تنزع
إلى تخفيض القضية الفلسطينية تحت وابل من الأفكار الوطنية
التي انهمرت على حين غرة، وصار الحديث عن أعداء جدد ليس
من بينهم اسرائيل ولا الولايات المتحدة، رغم أن هذا الموقف
يصدر في أبشع الفترات التي شهدتها المنطقة بفعل السياسات
العدوانية السافرة الإسرائيلية والأميركية..
تصوّروا كيف يجرأ كاتب ينتسب إلى أسرة آل الشيخ محمد
بن عبد الوهاب، مؤسس المذهب الرسمي في السعودية، ويقول
بأنه لاتهمه القضية الفلسطينية، وليست بأولوية بالنسبة
له، بل لا يجد غضاضة في الذهاب بعيداً إلى حد إدخال إيران
في خانة الأعداء وإخراج إسرائيل منها، والسبب في ذلك كما
يرى بأن (إيران دولة توسّعية، وتسعى الى الهيمنة على المنطقة)،
ويقول بأن (من يضع إيران في درجة أقل من إسرائيل فهو يفرط
في وطنه). وزاد أحدهم على ذلك، ومازلنا نتحدث عن تيار
ليبرالي نجدي، لا يكاد يختلف في سماته الشمولية عن أي
تيار فكري أو سياسي نشأ في أحضان أعتى الديكتاتوريات في
العالم، (صدقت زميلي.. ايران هي عدونا الأول والأوحد والأخير
عبر العصور، ليست اسرائيل ولا اليهود ولا أمريكا ولا الصليبيين
أعداؤنا، ولن يكونوا أبداً أعداءنا..). ويضيف بلغة اعتدادية
بأن ( محاولة حشرنا في هذا الصراع أجدها أكثر من سخيفه،
فلو كانت فعلاً إسرائيل عدوتنا لقامت بعمل عدائي ضد بلادنا
خصوصاً وأنها لا تبعد عن شواطئنا سوى بضعة كيلومترات بحريه
فقط! بينما ايران تبعد اكثر من 200 كم بحري رغم ذلك فقد
رأينا منها الويل ..إنهم يريدونا أن ننظر الى الغرب بينما
الخطر الحقيقي في الشرق!)..هكذا، إذاً، لم يعد الإحتلال
الإسرائيلي لفلسطين احتلالاً، ولا الاحتلال الأميركي للعراق
وأفغانستان إحتلالاً، ولم يعد سوى احتلال ايران في زمن
الشاه السابق لجزر ثلاث تحفّها ملابسات سياسية وتاريخية
معقّدة، ومع ذلك تبقى إيران الممثلة عن الخطر الحقيقي.
لا يكاد تتمايز التيارات الفكرية المنبعثة من أحشاء
السلطة، سواء كانت ليبرالية أو سلفية أو حتى علمانية،
فالطائفية تمثّل قاسماً مشتركاً بينها، كونها تتغذى على
المصدر الثقافي نفسه، وتحمل معها ذات الخصائص التقليدية
النجدية، والقبلية، والمذهبية، فحين تقرأ لكاتب مثل تركي
الحمد أو محمد عبد اللطيف آل الشيخ أو مشاري الذايدي،
لا تصل إلى نتيجة مخالفة لأي كاتب سلفي نجدي..فالكل سواء
في اعتناق المبدأ الشمولي، سواء جاء في شكل وطني، أو ديني،
أو حتى ليبرالي..يملي على الآخر قناعته في الوطنية وإلا
أصبح عميلاً، ويملي على الآخر خصومة وإلا أصبح خائناً،
ويملي على الآخر نهجاً وإلا أصبح مشبوهاً، وضالاً، ومنحرفاً..
في الحربين الأخيرتين على لبنان وفلسطين، كان التماهي
بين التيارين الليبرالي والسلفي في نجد واضحاً، فقد تلاشت
الحدود بين التيارين، وصار المنتسبون إليهما يكتبون ويلهجون
بلغة طائفية موحدّة، وتبطن هدفاً مشتركاً، أي صنع عدو
بديل..يخبرك الكاتب الليبرالي بأنه غير مكترث لقضية فلسطين،
إن كانت على حساب قضيته (الوطنية) التي حين تخضع للفحص
الدقيق تكشف عن إقليمية فارطة في شوفينيتها، وعلى أساسها
يتم محاكمة سكان الداخل وشعوب الخارج، ويخبرك الكاتب السلفي
بأن العدو الحقيقي هو إيران والرافضة وليست إسرائيل، ثم
يخوض في مناقشات مذهبية عقيمة وهابطة لا تكاد تترك فرصة
للتفكير الحر في قضايا الأمة، بل وأي قضية أخرى، فصنع
خصم نهائي بات ابتكاراً وهابياً نجدياً بامتباز..
إن دافعت عن فلسطين أو لبنان أو أي دولة عربية وإسلامية،
فأنت متّهم في وطنيتك، وقوميتك إلى جانب التهمة المعلّبة
بدينك..ولا خيار من أجل الخروج من غمامة الإتهامات الفارغة،
إلا إعلان قائمة براءات من كل قضايا الأمة، من أجل الفوز
بشهادة تزكية من الدولة النجدية الوهابية..أليس كل الهلوسات
ذات الطبيعة الخصامية من أجل هذا دون سواه.
|