عداء مطلق بلا أفق، وغياب للمنافسة
كيف ترى السعودية إيران؟
عبد الوهاب فقي
السعودية مستاءه من ايران كثيراً، ولها مبرراتها غير
تلك التي تنشرها الصحافة ووسائل الإعلام.
فمنذ انتصار الخميني في ايران قبل ثلاثة عقود، لا تزال
الخلافات والإحتقانات تملأ الأجواء يطفح منها الصراع الطائفي،
وتغيب فيها المنافسة الشريفة، فيما تتوسع دائرة الإتهام،
ودوائر أخرى للتآمر.
إيران ليست مشغولة بالسعودية، فعينها على اسرائيل وعلى
أميركا، ولكن السعودية هي المشغولة بالوضع الإيراني حتى
صار هاجساً، عالجته حتى الآن بتصعيد إعلامي وسياسي ومحاولات
اقتحام الداخل الإيراني عبر دعم جماعات عنف وانفصال، وعبر
الإعلام (عربية نت بالفارسي، ومحطة أفلام من العربية بالفارسي!).
وكلما خسرت السعودية جزءاً من نفوذها وسمعتها، ألقت
باللائمة على إيران. حتى جماعات القاعدة التي أعلنت عنهم
في قائمة الـ 85 أصبح اعضاؤها ـ كما في الإعلام السعودي
ـ يتدربون في ايران وتمولهم ايران. ايران صارت الشماعة
التي يرمي النظام العربي الرسمي عليها فشله وغيبوبته.
سابقاً كانت اسرائيل الذريعة التي تستخدمها أنظمة الإعتدال
والثورية العربية، واليوم هناك إيران، العدو الأكبر، حسب
التنظير السعودي الديني والسياسي.
كيف تصنّف السعودية إيران؟
السعودية ـ و منذ نشأتها الحديثة ـ وإن غلبها الشك
المذهبي تجاه ايران (والمشركين العجم) كما كان يسميهم
الملك عبدالعزيز ويعلن كراهيته لهم.. فإنها لم تقرّر وفق
دراسة استراتيجية كيف تصنّف إيران، وبالتالي كيف تتعامل
معها برؤية واضحة بعيدة المدى. ربما بسبب غياب الاستراتيجية
والرؤية، فإن السعودية يمكن أن تتنقّل في علاقاتها مع
ايران بين خانات متعددة: العداوة المطلقة، العداوة المحدودة،
المنافسة، الصداقة الحذرة. وهذا كان دأبها منذ زمن الشاه
وحتى اليوم. أي أن سياساتها سطحية، وهي أشبه ما تكون بردود
أفعال، أو أنها تعتمد على تصنيف آخرين (الغرب) لإيران.
وفي مسألة التصنيف تظهر مشكلة التفريق بين (الدولة/
إيران) وبين (النظام السياسي) الذي يحكمها. فهناك فرق
بين الإثنين، نلاحظه واضحاً مثلاُ في تصريحات بوش، الرئيس
الأميركي السابق، وقادة الدول الأوروبية، والذين يستخدمون
دائماً عبارة: (لسنا أعداءًا للشعب الإيراني العريق في
حضارته). بمعنى أن خلافهم سياسي مع (سياسات نظام الحكم،
أو مع نظام الحكم نفسه، وهذان أمران مختلفان أيضاً) وليس
الخلاف حول أهمية إيران في الجغرافيا السياسية، أي ليس
الخلاف حول دور الدولة نفسها، فهذا الدور لا يمكن مواجهته
لأنه (حكمٌ واقعٌ) لا يستطاع تغييره. ليست المسألة في
أصل الدور، ولكن في طبيعته ومن يقوم به.
السعوديون لا يفرقون بين المسائل في سياساتهم. فأن
تغلّب العامل المذهبي، وتجعله مقياساً في العلاقات مع
الدول، أو مع إيران فحسب، وربما العراق وتتناسى الخلاف
الأكبر (الديني) مع آخرين.. فهذا لا يعدّ هرطقة سياسية
فحسب، بل أنه يجعل السعودية عدوّاً لكل إيراني، وربما
لكلّ شيعي أيضاً. وهو يعني أيضاً ـ أو هكذا يفترض ـ أن
العداء المذهبي يغلب لغة (المصلحة المشتركة)، وهو يعني
فيما يعنيه (ديمومة للخلاف والصراع السياسي/ المذهبي)
في وقت لا تستطيع السعودية تغافل مصالح مشتركة أو (محتّمة)
مع إيران. هذا ليس بمقدورها بشكل مطلق، اللهم إلا إذا
أُمكن نقل إيران بشعبها وأرضها الى مكان بعيد، عند القطب
الجنوبي أو الشمالي.
أما وإيران حاضرة على الطرف الآخر من الخليج العربي،
فلا يمكن للسعودية ـ وهي قد جرّبت البدائل الفاشلة ـ توفير
أمنه بمعزل عن إيران، ولا يمكنها أن تنأى بنفسها عن مصالح
تتعلق بالتنسيق في مسائل البترول (إنتاجاً وتسعيراً)..
ولا تستطيع ـ وهو ما فشلت فيه ـ أن تلغي دور إيران في
محيطها الحيوي لدى جيرانها في العراق وأفغانستان وغيرها.
هذا من المستحيلات، سواء حكم إيران علماني فاسق ـ بتعبير
مشايخ الوهابية ـ أو نظام ملكي كسروي ـ مثل الشاه ـ أو
رجل ديني على رأسه عمامة، مثل الخميني، أو خامنئي.
خيارات السعودية: العداء
أمام السعودية كدولة خيارات محددة في التعامل مع إيران،
وكل خيار يستتبعه برامج وخطط وتحالفات وغيرها. هذه الخيارات
تتراوح بين اعتبار إيران عدواً، أو منافساً، أو صديقاً.
حين تقرّر السعودية أن النظام الحاكم في طهران عدو،
أو هو يمثل شرّاً مطلقاً، فإنها يجب أن تجيب على الأسئلة
التالية:
1/ لماذا هي عدو؟: هل لأن نظام الحكم فيها يقوم بأعمال
ويتبنّى سياسات شديدة الضرر لنظام الحكم، مثل: تهديد استقرار
الدولة السعودية، أو العمل على إسقاط نظام الحكم فيها،
أو تخريبها وتدمير منشآتها ومصالحها الحيوية، بحيث لا
يوجد أمام الحكم السعودي من خيار سوى إعلان الحرب ضدّه؟.
بمعنى آخر: هل مبررات الحكم السعودي اليوم ـ وبعيداً عن
الدعاية لأن الحديث عن تصور استراتيجي ـ وفيما يتعلق بضرورة
تحويل العداء من اسرائيل الى إيران، صحيحة ومعقولة، أم
أنه عداءٌ مفتعل من الأساس؟
2/ ما هو سلّم الخطر، العدو والأكثر عداوة؟: هل إيران
تعتبر العدو الأول، أي الأكثر تهديداً وخطراً، أم هي في
الترتيب الثاني، أم الثالث؟ وأهمية هذا السؤال تنبع من
حقيقة أن الدولة السعودية ـ وكأي دولة أخرى ـ لا تستطيع
أن تواجه عدّة أعداء في آن واحد، وبالتالي لا بد أن تحيّد
أو تبرّد جبهة ما ريثما تتفرّغ لأخرى، أي لأعداء أكثر
شراسة وخطراً. فهل تأتي إيران أولاً مثلاً، ثم العراق
ـ سواء في عهد صدام حسين أو في عهد المالكي ـ ثانياً،
ثم إسرائيل ثالثاً؟ ما هو سلّم الترتيب لدى الحكم السعودي،
وكيف يقيس المخاطر على أمنه القومي ومصالحه من الجهات
المتعددة؟
3/ هل هي عدو الآن أم في المستقبل؟: وهذا مرتبط بما
قبله، أي هل إيران عدو وشيك، أم أن التحليل الإستراتيجي
يقود الى توقع أن تكون عدواً في المستقبل المنظور أو البعيد؟
فإذا كانت ايران تمثل خطراً وشيكاً، فحينها تقرع الأجراس
ويعلن النفير العام!، وإن كانت خطراً مستقبلياً، فيمكن
درأ الخطر الأكثر قرباً، والتهيّؤ سياسياً وعسكرياً للخطر
التالي، أو العمل على إطالة الفترة وتجنب الصراع او الصدام،
مع محاولة تغيير وجهة النظام الإيراني، باتجاه غير التصادم.
4/ كيف ستواجه السعودية هذا العدو الإيراني؟: إذا ما
قررت السعودية أن إيران عدواً آنياً وأن الصدام وشيك معه،
فإنها أمام حالتين: الدفاع أو الهجوم. فإذا كان خطر الإعتداء
قادم من إيران، فإن السعودية لا يمكنها إلا أن تتبنى سياسة
دفاعية، وأما إذا كان الهجوم من السعودية فإنها تستبق
الأمر بتصعيد غير مبرر، ولا يكفي حينها التذرع بأن ايران
سـ (تشكل خطراً) في المستقبل. والسؤال الأكثر حراجة هو:
إذا كانت إيران عدواً خطيراً، فهل خطرها الذي يتهدد نظام
الحكم في السعودية، يمكن مواجهته بالسياسة، أم بالإقتصاد،
أم بالسلاح؟ وهل يمكن للسعودية أن تنجح في المواجهة العسكرية،
بناء على قدرات هي أدنى مما لدى إيران بمراحل بعيدة؟ أم
تقتصر المواجهة في جوانبها الإقتصادية والسياسية؟ وهل
تضمن السعودية أن لا تتمدد تلك المواجهة الى الجانب العسكري؟
أم هل تعتمد السعودية ـ كما هو الحال الآن ـ تحريض الولايات
المتحدة وحتى اسرائيل لتقوم بمواجهة ايران، وبالنيابة
عن السعودية (على الأقل جزئياً)، فيما تتكفل هي بدعم تغيير
النظام السياسي الايراني بالمال والسياسة والقواعد العسكرية
والفتاوى الدينية؟ أم أن للسعودية خيار آخر، في حال ثبت
فشلها وعدم قدرتها على المواجهة العسكرية المباشرة، فتبادر
لاستيعاب عدوها سياسياً، وتحويله الى محايد مثلاً بدل
أن يكون خصماً؟
كل المؤشرات تفيد بأن لا قدرة للسعودية على مواجهة
ايران عسكرياً، ولا يمكن للسعودية الإعتماد على اميركا
واسرائيل وتحريضهما لتقوما (بالأعمال القذرة).. فهاتان
الدولتان لا تقاتلان بالنيابة عن أحد. في هذه الحالة لا
يبقَ إلا الصراع السياسي/ الطائفي/ الإعلامي المكشوف كما
توضحه صحف السعودية اليوم. ولكن هل يأتي هذا بحل؟ أي ما
هو أفق هذا النهج؟ هل سيؤثر على إيران؟ هل يردعها؟ هل
يضعفها؟ هل يعرقل نشاطها وسياساتها وتمددها؟
نحسب ان الجواب معروف: لا (كبيرة)!
إيران المنافسة
يظهر أن التوصيف الدقيق للعلاقات السعودية الإيرانية ينضوي
تحت باب (المنافسة) أو حتى المنافسة الشديدة، بحيث تحوّلت
ـ في ذهن السعوديين ـ الى عداوة مفتوحة بدون أفق أو فائدة
حقيقية لهم. وتتخذ المنافسة أبعاداً عديدة تطوّرت مع الزمن،
منذ انتصار الثورة في ايران عام 1979.
فالمنافسة والخلافات كانت موجودة مع رضا شاه، ولكن
ضمن حدود معيّنة، تتعلق بموضوعين إثنين: موضوع أمن الخليج
حيث كان الشاه مهيمناً ويريد أن يكون شرطي المنطقة، وموضوع
أسعار النفط، حيث كان الشاه يبحث عن أسعار أعلى للنفط
كيما يعزز نفوذ بلاده عبر تعزيز قواته العسكرية. في غير
هذين الموضوعين لم تكن السعودية تشعر بأن إيران خصمها
لا على صعيد العمل العربي ولا في المحيط الإسلامي، بل
أن البلدين تعاونا لكبح الدول العربية الراديكالية عبر
تأجيج الصراعات الداخلية فيها كما حدث مع العراق، حيث
تعاون الشاه مع الملك فيصل في تمويل الأكراد الى أن أُخضع
العراق في اتفاقية الجزائر عام 1975م. يومها لم تكن السعودية
مهتمة بموقف ايران المتحالف مع إسرائيل، بل حتى موضوع
أمن الخليج أمكن تبريده واستيعابه ضمن نظرية نيكسون (العمودين
المتساندين أو المتقابلين).
ما حدث بعد اسقاط الشاه كان صعباً أن يتحمله السعوديون،
وما حدث خلال السنوات الثلاث الأخيرة جعلهم يفقدون رشدهم.
بانتصار الخميني في ايران، ظهرت الأخيرة منافساً دينياً.
وهي قد حطّت من مكانة (نموذج الحكم السعودي الإسلامي!)
وقزّمته، وأثارت مشايخ الوهابية الذين راحوا يتدارسون:
لماذا يكون مشايخ الرافضة كذا، ونحن غير ذلك؟ كانت مكانة
السعودية (إسلامياً) غير قابلة للمنافسة، وكانت السعودية
تسوّق نفسها كنموذج إسلامي وحيد، وأنه أفضل النماذج. وجاء
الحكم الإيراني، ليحدث إرباكاً على هذا الصعيد (رغم تلويثه
مذهبياً في الحرب الطائفية مع السعودية)، وليؤسس دافعاً
لتشكيل انظمة حكم إسلامية أخرى، تغذّت على مكانة السعودية،
إن كان في السودان، أو في تركيا كما هو اليوم، أو حتى
الطالبان، حيث أن هناك مجاميع كبيرة من الوهابيين يعتقدون
بأن نظام حكم طالبان، كان الحكم الإسلامي الوحيد!
وضرب المكانة الدينية للسعودية وتقزيم صورتها، كان
مؤثراً في بعدين: (في مدى شرعية نظام الحكم السعودي) وفي
(نهجه السياسي الخارجي) وكلما أوغل النظام في علاقاته
مع الغرب، كلّما خسر من مكانته وسمعته، واعتبر غير ممثل
للمسلمين، وأن أيديولوجيته الوهابية، تفرّخ التكفير والتطرف
والإرهاب.
كل هذا أبقى العامل المذهبي ـ من وجهة نظر السعودية
ـ مسيطراً على نظرتها لعلاقاتها مع إيران ولازال. ومع
ان السعودية استطاعت في البداية احتواء النموذج الإيراني
وتسقيطه عبر دعم الحرب العراقية الإيرانية، وعبر الحرب
المذهبية.. إلا أنها هي نفسها لم تستطع أن تستعيد مكانتها
الدينية فهي في تناقص مستمر حتى اليوم.
والمنافسة بين إيران والسعودية، هي منافسة على تقديم
(النموذج). وبديهي أن النموذج الإيراني أكثر تطوراً، من
جهة حجم الحريات والديمقراطيات، ومن جهة حجم المنجزات
في ميادينها المختلفة، ومن جهة الدفاع عن قضايا المسلمين،
وأيضاً من جهة الألق المذهبي، حيث خسرت الوهابية مكانتها
بين كثير من المسلمين، في حين أن التشيّع بقي في إطار
أتباعه.
في السنوات الأخيرة دخلت إيران على خطين من المنافسة
من وجهة نظر السعودية: الأول ـ تعزيز نموذج الدولة بما
يمتلك من قدرات ونهوض علمي وتقني وصناعي وفني وغيره. والثاني
ـ اختراق إيران للفضاء السياسي السعودي الذي تعتبره السعودية
مجالها الحيوي، بحيث اعتبرت إيران منافساً لها على الزعامة
السياسية حتى في محيط العالم العربي، أو هي على الأقل
قزّمت الدور السعودي في المحيط العربي، وكشفته، وأبانت
عواره (كما عوار دول الإعتدال العربي/ مصر بالذات). إن
دخول إيران على خط فلسطين والمقاومة، وفي لبنان والعراق،
أصاب الأمراء السعوديين بما يشبه الهستيريا، وكان أمامهم
واحد من حلّين:
1/ إما الدخول في المنافسة مع ايران، من بابها الصحيح،
فتقوم السعودية ـ كما مصر ـ بفعل ما تفعله إيران، وهذا
يستدعي هيكلة راديكالية للخطاب السياسي والأهداف السياسية.
وكذلك فإن من يريد المنافسة لإيران عليه أن ينهض محلياً
بتقديم نموذج أفضل للدولة، ولا يمكن لمصر ولا للسعودية
بحالهما التعيس اليوم منافسة النموذج الإيراني. وحتى إذا
ما بدأت الدولتان ـ ولو من باب المنافسة كما يفعل الخصوم
ـ بوضع مشاريع نهضوية اقتصادية وصناعية، فهما بحاجة الى
عقدين أو ثلاثة عقود، إذ أن الدولتين لم تبدأا بعد، في
حين أن إيران بدأت بمراكمة نشاطها وتطورها العلمي والصناعي
منذ ثلاثة عقود.
بمعنى ثان، يمكن للسعودية ـ وفي مواضيع محددة ـ أو
لمصر بالتحديد أن تنافس ايران، من خلال ابراز نموذج استقلالي
أكبر في السياسة، وبصناعة نموذج نهضوي حتى وإن طال زمن
بنائه. وفي فترة البناء، تحتاج الدولتان الى التواضع قليلاً،
والتعلّم من الخصم المنافس، لا أن ترميه بالتهم وتصمه
بالانحطاط!
بلا شك فإن هذه الطريقة هي الصحيحة، ولكنها صعبة، وهي
تحتاج الى زمن طويل كيما تؤتي ثمارها. فمقارعة النفوذ
الإيراني ليس بالكلام ولا بالشعارات ولا بالعقول المتحجرة
ولا بالتفريط في السيادة واتباع سياسات الغرب.
2/ الخيار الآخر، هو استعجال المواجهة، وصناعة مبرراتها
تغطية للفشل، أو منعاً لمزيد من الخسائر السياسية بوضع
العراقيل أمام إيران. وفي هذا الإطار يأتي ـ وهو ما تم
تبنيه من قبل السعودية ومصر وغيرهما ـ اعتبار ايران عدواً،
وبالتالي لا بدّ من رفع السدود أمامه مذهبية كانت أو سياسية،
والتحريض على اسقاط نظام الحكم فيه، والتقليل من شأن تقدّمه
العلمي والعسكري والصناعي، وتسويد صورة المنجزات الإيرانية
وكأنها دولة فاشلة قاب قوسين أو أدنى من السقوط.
مثل هذه اللغة وهذا الخطاب الإعلاني يضلل العرب عامة،
ولا يغير من الواقع الإيراني شيئاً، الذي يفاجئنا بين
الفينة والأخرى بمنجز جديد يستعرضه علينا، بحيث لا يمكن
لأحد نكرانه. نحن لا نرى سوى قمة الجبل، هناك الكثير من
المنجزات لم تعلن، ولا يراد لها أن تعلن، فيما نحن غارقون
في نومنا لا همّ لنا سوى الشتم وافتعال المعارك التي لا
نقوى على دخولها إذا ما جدّ الجد!
السعودية ومصر تبنّتا الخيار الثاني، وهذا يعني أن
سباتهما سيطول أمده، وهما لما تبدأا بعد بأي عمل. كما
يعني تبنّي الخيار الثاني، أن النفوذ الإيراني غير قابل
للتوقف ولا للمنافسة، لأن المنافسين في واقع الحال غير
موجودين، وما كانت ايران لتستطيع ان تحقق ما حققته ـ في
الجانب السياسي ـ لولا وجود فراغ عميق في النظام الرسمي
العربي جاء الإيرانيون واحتلّوه.
السعودية اليوم لا تستطيع أن تضع خلافها مع ايران في
نقاط محددة. بمعنى أنك لو سألت مسؤولاً سعودياً عن السياسات
التي لا تعجبه في إيران، فسيقول كلاماً باهتاً مثل: التدخل
في شؤون الدول العربية مثل العراق ولبنان وفلسطين، وأنها
تهدد العالم العربي بالسلاح النووي!
هاتان هما أهم التهم الموجهة لإيران، ويراد منهما تبرير
العداء لها، وتحويل وجهة الصراع من اسرائيل اليها. والتهمتان
ليستا تهمتين في واقعهما، فإيران تتدخل فعلاً في شؤون
العراق ولبنان وفلسطين، ولكن لماذا ينجح التدخل الايراني
ولا ينجح التدخل السعودي/ المصري؟ ولماذا يحق لاسرائيل
وكل دول العالم ان تتدخل في العراق وبينها السعودية ومصر،
في حين لا يحق لإيران المجاورة للعراق بمئات الكيلومترات
التدخل؟ ثم من وضع السعودية لتتحدث بالنيابة عن تلك البلدان
العربية التي ينظر بعضها أو قسم من شعبها الى السعودية
كعدو بسبب سياساتها؟ أما السلاح النووي الإيراني، فيفترض
أن يكون حافزاً للعرب إن كان هناك تخطيط إيراني له فعلاً.
وحتى الآن فإن الإيرانيين مهتمين بتوفير القدرة على الصناعة،
وليس التصنيع في حد ذاته.
بقيت نقطة لها علاقة بالسعودية نفسها.
السعودية لا تستطيع أن تنافس ايران ولو بذلت كل جهدها.
والسبب هو حجم إيران البشري وموقعها الجغرافي، وتراثها
الحضاري والعلمي.. فأياً كان النظام الموجود في ايران،
فإن السعودية أعجز من منافسته عسكرياً واقتصادياً وسياسياً.
نعم ربما تستطيع منافسته في تخريج أعداد كبيرة من حملة
الدكتوراة من جامعة الإمام محمد بن سعود، وهي تقع في معظمها
في بحوث عقدية وتاريخية تتصل بالصراع المذهبي والتاريخي
ولا علاقة لها بتقدم ولا يرجى منها فائدة!!
إن خسارة السعودية لمواقعها السياسية في منافستها مع
ايران، ليس سببه تعدّي الأخيرة على (الحقوق السعودية التي
لا يقرها قانون ولا يعترف بها أحد)، بقدر ما سببه فشل
النظام السعودي في ترميم بنائه الداخلي الديني والسياسي
والعلمي وتعديل بوصلته السياسية. ال سعود فشلوا، ويريدون
أن يلقوا بفشلهم على الآخرين. هذه هي الحقيقة المرّة التي
لا يريد آل سعود الإعتراف بها.
في هذه الحالة، وإذا ما افترضنا أن العلاقة بين البلدين
ايران والسعودية تتخذ طابع المنافسة وليس الصدام، فإن
السؤال هو: لماذا لم تحفّز المنافسة الايرانية السعوديين
على التطوير، بدلاً من المقامرة بزيادة جرعات العداء،
خاصة وأنهم غير قادرين على مواجهة ايران عسكرياً إن كان
هدفهم الحرب، وإذا ما كانت الحرب لو وقعت ـ ودخل الأميركيون
والإسرائيليون فيها ـ فإن مصالح السعودية في المنطقة الشرقية
ستضرر أشد الضرر؟
للمنافسة أصول واستراتيجيات، فأين السعودية منها؟!
لماذا لم يقرأ السعوديون حالة منافسيهم علمياً، وليس الإعتماد
على الإشاعات والتصوير النمطي، لكي يستفيدوا من نقاط القوة
والضعف لدى منافسهم؟ أول ما هو مطلوب من السعودية هو أن
تؤسس لها (مركز دراسات استراتيجي) فهي حتى الآن لا مركز
لديها، وكل السياسات لا علاقة لها بالعلمية، بل ان السعوديين
دعموا بعض الأكاديميين ليفتتحوا في دبي مركزي دراسات لا
يزيدانهم إلا خبالاً، وهما أشبه بمركزين إعلاميين لا علاقة
لهما بالتخطيط ولا بقراءة صحيحة للوقائع.
وعلى السعوديين ـ إن أرادوا المنافسة ـ أن يراجعوا
سياساتهم الخارجية، ويكتشفوا نقاط ضعفهم وسبب تآكل رصيدهم،
وأن يغيروا من ذلك. وعليهم أيضاً أن يضعوا استراتيجية
صحيحة لتطوير نظامهم السياسي والإقتصادي والإجتماعي والديني،
حتى يقفوا على أرض صلبة. فالسياسة الخارجية إنما هي انعكاس
للسياسة الداخلية، ومن بيته من زجاج لا يستطيع الدخول
في معارك ولا في منافسات، إن كان يريد المنافسة. وبدل
الإنشغال بالخصم الإيراني الذي تصوره وسائل الإعلام السعودية
بأنه: فقير، ومحاصر ومعزول وجائع وتتحكم فيه الديكتاتورية
وغير ذلك، عليهم أن ينظروا الى أنفسهم أولاً، ورحم الله
امرئاً عرف قدر نفسه. وزيادة على ذلك، بدل أن يصرف السعوديون
أموالهم على مواقع بالفارسية، ويقوموا بتوجيه قنوات تلفزيونية
باللغة الفارسية الى الشعب الإيراني، للتأثير عليه وعلى
خياراته السياسية، هلاّ انشغلوا بشعبهم الذي لا يستمع
ولا يقتنع بإعلامهم الرسمي، فكيف بالآخر الذي يتمتع بحرية
أكبر في مخاطبة جمهوره؟!
السعودية تستطيع أن تنافس ايران ولكن ضمن حدود. حتى
في الموضوع الأمني، لا يمكن مثلاً شطب ايران من معادلة
أمن الخليج وهي تحتل نصفه الآخر كاملاً حتى بحر العرب،
في حين على النصف الثاني تقبع ثمان دول (دول المجلس زائداً
العراق واليمن)، فكيف لا يكون لها دور أمني، وتريد السعودية
أن تأكله وتأكل الدور العراقي أيضاً؟! هذا جنون ما بعده
جنون.
ما نخلص إليه هو: إن السعودية لا تعرف ماذا تريد من
إيران، ولا تعرف بالضبط الموقف الذي يجب أن تتخذه، وليس
لديها رؤية واضحة لطبيعة العلاقات معها، كما أنها لا تمتلك
صورة صحيحة عن الوضع الداخلي الإيراني، وهي في نفس الوقت
لا تمتلك مقومات الصراع مع ايران، كما لا تمتلك مقومات
المنافسة في ميادينها المختلفة.
|