الشيخ عايض القرني
من سياسة الاحتجاج الى اعتدال الدعوة
فؤاد المشاط
شأن كثير من الدعاة، كان الشيخ عايض القرني (مواليد
1959) إمام وخطيب جامع أبي بكر الصديق في أبها، قد دخل
إلى السياسة من بوابة الدعوة. ولذلك، فإن العودة إلى مجال
الدعوة سلكت نفس المسار، فقد بدأت مؤشرات التحوّل في خطاب
الشيخ عايض القرني سياسياً قبل أن تسلك طريقها الى الأبعاد
الفكرية والإجتماعية.
وكان إسم الشيخ القرني قد لمع خلال حرب الخليج الثانية،
فيما عرف حينذاك بإسم (مشايخ الصحوة)، الذين جهروا بآراء
معارضة لسياسات الدولة في التعليم والإعلام والقضاء، وانتقدوا
بشدّة استقدام قوات أجنبية الى الجزيرة العربية، وكان
من بين نحو ألف عنصر من التيار الصحوي الذي تم التحقيق
معهم بخصوص محاضرات تحرّض على الدولة، كما سحب جواز سفره
من قبل المباحث، ومنع من إلقاء الخطب والمحاضرات. وكان
أيضاً من بين الموقّعين على العرائض التي رفعت الى الملك
فهد بما في ذلك (مذكرة النصيحة) الصادرة في سبتمبر 1992
والتي اشتملت على مطالب بإصلاحات شاملة في كل أجهزة الدولة.
ودخل الشيخ القرني في مواجهة مع أمير عسير خالد الفيصل،
أمير مكة حالياً، الذي أصدر بحقه قراراً يقضي بمنعه من
الخطابة ومزاولة نشاطه الديني من قبيل إمامة الجماعة وإلقاء
الخطب في المسجد، كما وجّه له تهمة اللواط، وفرض عليه
مقاطعة من قبل أهالي عسير، بهدف تطويق حركته. وأدّت هذه
التدابير إلى غياب الشيخ القرني عن النشاط الديني العلني
لفترة من الوقت، قبل أن تتم عملية مصالحة بينه وبين الأمير
بوساطة من بعض المشايخ، وعاد القرني إلى مزاولة نشاطه
الديني ضمن الحدود المتفق عليها، وبدأ بعد ذلك كتابة مقالات
في صحيفة (المسلمون) الصادرة في لندن، إلا أن المصالحة
لم تدم طويلاً، فقد أعاد أمير عسير إستخدام إجراءات أشد
صرامة ضد القرني، كما ذكر الأخير ذلك في رسالة بعث بها
إلى المفتي السابق الشيخ عبد العزيز بن باز. وكان القرني
قد أرغم على التوقيع على صكّ مقدم من إمارة عسير يشتمل
على تهم متعددة من بينها التخطيط لقلب نظام الحكم في المملكة،
فيما كان يعتقد القرني أن الصك مقتصر على التعهد بعدم
الخوض في المواضيع السياسية وشؤون الحكم، بحسب ما تم إبلاغه
قبل التوقيع على الصك. ولكنه حين قرأ التهم المنسوبة إليه
في الصك، قرر اللجوء إلى المفتي لعرض مشكلته وطلباً لتدخله
في الأمر.
وذكر القرني في رسالته بعض ما كان يشكو منه من أمور
كيدية نسبها الأمير خالد الفيصل إليه من بينها (تبني تهمة
قذرة وإيداعي السجن من غير أي دليل على الإدانة..توالي
إيذاء الأمير لي بإرسال خطابات التهديد والوعيد بواسطة
كلية الشريعة ومكتب الدعوة وإدارة الأوقاف وفرع جامعة
الإمام..قام بالتضييق علي في إقامة الدروس العلمية ومن
ذلك إيقاف درس التفسير الذي ألقيه بعد صلاة الفجر، وكذلك
منع بعض المحاضرات التي كنت ألقيها..استدعائي إلى مكتب
الدعوة بأبها..وقد أخبرني مدير المباحث أن الغرض من إحضاري
قراءة خطاب موجّه إلي من الأمير، وقد قرأ مدير المباحث
الخطاب عليّ، والذي لم يكن إلا ركاماً قذراً من السباب
والشتائم والفري، والبهتان العظيم..كما جاء فيه اتهامي
بالتخطيط لقلب نظام الحكم في البلاد). وخاطب الشيخ بن
باز بالقول (سماحة والدي: فقد طال بلاؤنا والتعدي على
كرامتنا وحقوقنا على يد هذا الأمير الذي أسعرها في المنطقة
حرباً على الدعوة والدعاة، وكادنا بأنواع الكيد وسعى لتأليب
ولاة الأمر علينا بأنواع التهم وحاول الإرهاب بما وسعه
وشق علينا وبالغ في المشقة..لقد جاوز الظلم المدى وبلغ
السيل الزبى ولم يعد في الصبر بقية وهل على مثل هذا صبر؟).
وشأن مشايخ صحويين آخرين، فقد نأى الشيخ القرني بعد
مرحلة السجن والمضايقات وتدابير أمنية صارمة عن الإنخراط
في الموضوعات السياسية، وقرر، بعد إرغامة على توقيع تعهّد
خطي، العودة الى مزاولة نشاطه الدعوي التقليدي، واستكمل
دراسته في علوم الشريعة حيث نال شهادة الدكتوراه في موضوع
(تحقيق المُفهِم في مختصر صحيح مسلم)، من كلية أصول الدين
في أبها.
وتحوّل الشيخ القرني إلى أحد ألمع الخطباء في التيار
السلفي، ووجد سبيلاً ممهداً أمام القنوات الفضائية التي
كانت تبث محاضراته وخطبه، التي تميّزت بأساليب التشويق
والفكاهة، فيما انتشرت كتاباته الدينية ذات الطابع الشعبي
في الداخل والخارج. وكانت رغبته في الظهور الإعلامي قد
دفعته للمشاركة بفعالية أكبر في الكتابة في الصحف السعودية
في الخارج، وتنظيم برامج دينية على قنوات فضائية واسعة
الانتشار، وتأليف الكتيبات التي تشتمل على أقاصيص في التاريخ
والعقيدة والمجتمع بأسلوب سلس.
بيد أن ما ميّز طريقة الشيخ القرني أنه بدا في السنوات
الأخيرة أقرب إلى خط الاعتدال في البعدين السياسي والفكري.
وله تجربة، شأن مشايخ صحويين آخرين تم استيعابهم من قبل
الدولة، في مواجهة الجماعة القاعدية، وقد انتدبته وزارة
الداخلية كيما ينضمّ إلى فريق المناصحة، المكلّف بتغيير
معتقدات أفراد الخلايا القاعدية الذين تم إلقاء القبض
عليهم وإخضاعهم لبرنامج فكري مكثّف. فكان الشيخ القرني
يعقد مناظرات داخل المعتقل مع أفراد من تنظيم القاعدة،
في محاولة لتبديل قناعاتهم وتصحيح المفاهيم التي يعتمدوها
في تبرير عملياتهم المسلّحة ضد الدولة.
وقد ذكر الشيخ القرني في مقابلة صحافية بأنه عقد جلسة
مع منظّري الجماعة القاعدية في السعودية الشيخ ناصر الفهد
والشيخ علي الخضير اللذين ألقيا القبض عليهما من قبل أجهزة
المباحث في المنطقة الغربية، وأودعا السجن، وما لبث أن
أجرى لقاءات مع الفهد والخضير على التلفزيون السعودي الرسمي
في 23 نوفمبر 2003، تراجعا فيها عن آرائهما في (الجهاد)
و(العمل المسلّح) ضد الدولة. ونقل موقع (الإسلام اليوم)
الذي يديره الشيخ سلمان العودة في نفس اليوم عن ما أسماه
(مصادر إسلامية سعودية) بأن (لقاءات عدة تعقد داخل السجون
بين عشرات من المشايخ والعلماء وبين العناصر المقبوض عليهم،
لإقناعهم ببطلان الفكر التكفيري). وكان معلوماً، أن المشايخ
هؤلاء ليسوا سوى (صحويين) سابقين، جرت الإستعانة بهم من
قبل وزارة الداخلية، لتصحيح معتقدات الجيل الجديد من الصحويين
الذي تربى على أفكار كان هؤلاء المشايخ يبثونها في فترات
سابقة. حتى أن بعض العائدين من معتقل غوانتنامو حمّل الشيخ
العودة مسؤولية انخراط كثير من الشباب في العنف بفعل أفكار
تحريضية تلقّوها منه.
على أية حال، تخلي الشيخ القرني عن خيار الاحتجاج السياسي
وهبه مساحة واسعة للعمل الدعوي والاجتماعي بحرية شبه تامة،
وهي دون ريب مساحة قلّما حلم بها في فترات سابقة. ولم
تكن تخلو مساهماته الفكرية الجديدة من نتائج إيجابية،
بعد أن رفع راية الاعتدال. ففي مقالة له بعنوان (إصلاح
بلا شغب)، يؤكد، من وحي تجارب سابقة ومعرفة دينية، على
الخيار السلمي مطلقاً ويقول ما نصه (علمتنا الشريعة، وعلمتنا
التجارب أن الرفق ما كان في شيء إلا زانه، وما نُزع من
شيء إلا شانه، وأن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على
العنف). ويقول في موضوع الاصلاح (نحن بحاجة إلى إصلاح
سواءً أفراداً، أو جماعات، أو دولة، لكن بالطرق السلمية
الشرعية، وليس بالفوضى والشغب، وإثارة الفتن، وزعزعة الأمن).
ووسيلة ذلك، كما يراها القرني، هو الحوار والنصيحة، ويدعو
الجميع (تعالوا نتحاور، تعالوا نتدارس، تعالوا يسمع بعضنا
من بعض، تعالوا نتكاشف، تعالوا إلى الوضوح والشفافية،
لكن بعقل وهدوء وحكمة..).
نجاح القرني في تعطيل مفاعيل الأفكار التكفيرية لدى
الفهد والخضير، جعل منه قطب الرحى في موضوع المناصحة الذي
صار يبشّر بانجازاته. فلم يكتف القرني بمناجزة الخيار
العنفي في الداخل فحسب، بل صار يبشّر به أينما دعي. في
زيارته الى الجزائر في مارس الماضي، إلتقى الشيخ القرني
عدداً من التائبين والناشطين الذي تورّطوا بأعمال إرهابية
في الجزائر في الفترة ما بين 1992و 2007. وتحدّت القرني
عن منهج التطرّف الخاطف الذي يستهدف المجتمعات المسلمة،
وشدّد على حرمة سفك دماء المسلمين، وخطأ الإرهابيين الذين
لم يستوعبوا حقيقة الرسالة الإسلامية التي جاءت رحمة للعالمين.
وكان لافتاً ما ورد في محاضرة الشيخ القرني في 15 مارس
2009، بجامعة العلوم الإسلامية بقسنطينة، حيث قال بأن
علماء السعودية (ليسوا أوصياء على الدين، فنحن دولة كبقية
الدول والإسلام أوسع من أوطاننا..).
إن تأثيرات ظهور هذا النمط الجديد من التفكير، الذي
أصبح مكوّناً رئيسياً في خطاب الإعتدال لدى القرني قد
إمتد إلى خارج حدود المملكة، أي الى البقع التي تأثّرت
بأفكار التطرف والتكفير الواردة من نفس المكان الذي يحاول
طمس آثار سابقة، ولكنه يأبى حتى الآن التخلي عنها في مسقط
رأسه.
يبشّر الشيخ القرني بالحوار، باعتباره بحسب عنوان مقالة
له (حلاً شرعياً)، وأنه، أي الحوار، (الطريق الأرحب للإقناع
وإزالة الشبه، وبناء الحقائق وغرس البراهين) بل وأكثر
من ذلك فكل (أمَّةٌ ليس عندها حِوار، أمَّةٌ مسيطرة مستبدة
مغلقة، لن يفهم منها أحد، ولن تفهم من أحد..).
وينقد القرني واقع الحال في حياة المجتمع الذي يعيش
فيه (لقد اختُصِرت حياتنا في رأيٍ واحد، لا يقبل المناقشة،
ولا يُسأل عما يفعل وهم يسألون، فعلينا إعادة تدريس مادة
الحوار في مدارسنا وبيوتنا، ومساجدنا، وإعلامنا، فنحن
في الصف الأول في مدرسة الحوار، وإذا أحسنَّا اللياقة
في تعلُّم هذه المادة، فسوف ننجح إلى الصف الثاني، وإن
رسبنا، وعضَّ بعضنا بعضاً، فإن المدرسة سوف تُغلَق، ويُسرَّح
الطلاب إلى بيوت أمهاتهم).
وللإنصاف، فإن القرني تفرّد بموقف لم يصدر حتى الآن
من أي شيخ سلفي في موضوع العلاقة بين السنة والشيعة، حين
كتب مقالاً في صحيفة (الشرق الأوسط) في 18 مارس 2008 بعنوان
(يا عقلاء السُّنّة والشيعة)، حيث طالب بتعطيل مفاعيل
الخلاف، طالما أن حلاً حاسماً متعذّر في الوقت الراهن.
وقال ( فكفانا جراحاً وتمزقاً، فعندنا نحن أمة الإسلام
من المصائب ما يكفينا، والصهيونيّة العالمية تتربص بنا
وتخطط لاجتثاثنا، ما فائدة إعادة خطب الشتم والتجريح والتحريض
والاستعداء وذكر المثالب والمعائب عند الطائفتين؟). وأطلق
نداء إلى الفريقين بما نصه (يا عقلاء السنة والشيعة إنزعوا
فتيل الإحن، واطفئوا نار الفتن، ولا تزيدوا الأمة محناً
على محن.. يا عقلاء السنّة والشيعة كلٌ يعمل على شاكلته،
وكلٌ يسير على طريقته حتى يحكم الله بيننا فيما اختلفنا
فيه.. يا عقلاء السنة والشيعة لا تعطوا أعداء الإسلام
ذريعة لهدم صرح الأمة وإلغاء وجودها وطمس رسالتها وإهانة
مقدّساتها..). وذكّرهم بالقول (نحن المسلمين سنّة وشيعة
ندعو إلى التعايش السلمي والحوار مع غير المسلمين، أفنعجز
عن أن نعيش سنّة وشيعة بسلام؟).
وللشيخ القرني خطاب موجّه إلى الشعب الأميركي، ليس
على غرار الخطابات السابقة التي كان يوجّهها علماء دين
سلفيون في المملكة يدعون فيها إياه إلى الدخول في الإسلام
والتخلي عن المسيحية، بل اتسمّ الخطاب بالرقة والإحترام
وقال (إن ديننا الإسلامي يأمرنا أن نحترم الإنسان ونرحمه
ونشفق عليه..)، وأبدى تعاطفاً مع الشعب الأميركي لما حدث
في 11 سبتمبر من العام 2001، وفي الوقت نفسّه ذكّره بما
جرى بفعل السلاح الأميركي في ناجازاكي وهيروشيما والصومال
وصبرا وشاتيلا وقانا والعراق وأفغانستان وفلسطين..كما
طالبه باحترام ديانة الإسلام وبرسالة النبي محمد صلى الله
عليه وسلم، كما احترم المسلمون رسالة النبي عيسى بن مريم.
على أية حال، فإن الشيخ القرني الذي حاز مكانة فريدة
وسط لدّاته وزملائه من المشايخ شعر بأن ثمة من يضمر له
حسداً من بينهم، وربما تعرّض لأمور كيدية لم يرغب الكشف
عنها، كما يلفت إلى ذلك في تصريحاته الصحفية، حين قرر
اعتزال الحياة العامة، والإنطواء على نفسه، والاكتفاء
بقراءة الكتب والتدريس الذاتي.
وكان قرار الاعتزال بحسب ما ورد في صحيفة بتاريخ 4
ديسمبر 2005، أنه تعرض لغمز ولمز عبر رسائل هاتفية خصوصاً
بعد فتوى له بجواز إظهار وجه المرأة. ونشير هنا إلى أن
نزعة الاعتدال النافرة في خطابات القرني شجّعت من يعتنق
آراء متحررة لتحميلها القرني بحثاً عن غطاء ديني، كما
فعلت جريدة (السياسة) الكويتية التي نسبت إليه فتوى جواز
ظهور المرأة المسلمة في الإعلانات الدعائية والتلفزيونية
إذا كانت بالحجاب الشرعي، وقال بأن ذلك (كلام سخيف متناقض
لا يقول به طالب علم، ولا يقوم على نقل ولا عقل..). وهناك
دوافع أخرى وردت في الصحيفة لقرار الإعتزال من بينها محاربة
الشيخ من قبل بعض الدعاة، وتخاذل بعض الجهات الرسمية عن
دعم الشيخ ومساندته.
مهما تكن أسباب الاعتزال، فإن الشيخ القرني قرر التواري
عن الأنظار برهة من الزمن وكتب قصيدة يشرح فيها أسباب
عزلته، اشتملت على إشارات لجماعات كثيرة تتبنى مواقف منه.
وربما أراد القرني بهذه القصيدة تحريض جهات ما على التدخّل،
لأن قرار الاعتزال كان مفاجئاً لمن يعرف الشيخ القرني،
الذي تربطه بالإعلام صلة وثيقة. ولذلك لم تطل عزلته فما
لبث أن تدخّل الأمير سلمان، حاكم الرياض، وعاد القرني
بحماسة أشد الى العمل الدعوي الجماهيري، ويضطلع بأدوار
متعددة، قد تؤهّله لمهمات أكبر في المستقبل.
|