السعودية في عهد أوباما
إعادة إنتاج الأدوار الشريرة
يحي مفتي
وصول باراك أوباما إلى البيت الأبيض أفضى إلى (سكتة
سياسية) مؤقتة في السعودية، ليس لأن القادم الجديد يختلف
عن سلفه في مقاربة الملفات الملتهبة في الشرق الأوسط،
ولكن لأن ثمة أجواء جديدة، وإن بدت مواربة، فرضت نفسها
على المنطقة، وأجهزت بصورة عاجلة على مضخّات السياسة الخارجية
السعودية التي عملت في السنتين الأخيرتين بأقصى طاقتها
لناحية تحقيق (ضربات) إستراتيجية موجعة لخصومها في المنطقة.
تقليدياً، تميل السعودية الى إدارة جمهورية، بحكم العلاقات
العائلية التاريخية على قاعدة مصالح إقتصادية والتناغم
السياسي إزاء قضايا الشرق الأوسط. فقد خاضت السعودية وعلى
نفقتها الخاصة (حروب النيابة) في مرحلة الحرب الباردة،
وفي عهدي رونالد ريغان وجورج بوش الأب على وجه الخصوص،
فلم تكد تغيب الشمس عن إمبراطورية المال السعودي، وتحوّلت
السعودية إلى (صرّاف آلي) متنقل في عدد من قارات العالم،
لتمويل حروب الولايات المتحدة ضد خصومها في المعسكر السوفييتي.
وبعد نجاح الديمقراطيين في الانتخابات الأميركية سنة 1992،
حاولت السعودية مواصلة الدور نفسه، في وقت لم تعد فيه
وظيفة (النيابة) حصريّة، بعد أن أصبحت الولايات المتحدة
القطب الأوحد في العالم. نتذكّر أن الأخيرة أبرمت بعد
حرب الخليج الثانية سنة 1991 مجموعة إتفاقيات أمنية ودفاعية
مع دول مجلس التعاون الخليجي، وصارت القوات الأميركية
منتشرة على امتداد الساحل الغربي من الخليج.
بعد حرب العراق في إبريل 2003، لم تكن السعودية في
كامل جهوزيتها السياسية والمالية للإضطلاع بدور استثنائي
على المستويين الإقليمي والدولي، لأسباب عدة منها: انغماسه
في عملية إعادة ترميم صورته الخارجية عقب حوادث الحادي
عشر من سبتمبر، وانصرافه شبه المطلق لمواجهة تيار العنف
السلفي الذي سدّد ضربات قاصمة لعصب الإستقرار الأمني،
وأخيراً، وليس آخراً، ضعفه الاقتصادي، الذي بدا واضحاً
في العجز المالي المتصاعد، وتالياً تراكم الدين العام
(بلغ حتى منتصف 2004 نحو 160 مليار دولار أميركي)، وما
صحبه من تداعيات إجتماعية وأمنية بالغة الخطورة، حيث تجاوز
معدّل البطالة 20 بالمئة، فيما تضاعفت معدلات الجريمة
الفردية والمنظّمة الى 600 بالمئة منذ بداية الثمانينات
وحتى بداية الألفية الثالثة. لهذه الأسباب وغيرها، نأت
السعودية عنوة عن أي دور عابر للحدود، ريثما تستعيد بعضاً
من رصيدها السياسي السابق.
ومن الناحية الفعلية، لم تطلّ السعودية على الوضع الإقليمي،
إلا بعد أن نفّذت سلسلة تدابير متوالية بدأت بحملة علاقات
عامة تكفّلت شركة (كورفس كوميونيكشن) الأميركية بالقيام
بها داخل الولايات المتحدة من أجل تحسين صورة السعودية،
بعد الأضرار الفادحة التي لحقت بها جراء ضلوع 15 سعودياً
من أصل 17 انتحارياً في هجمات 9/11. من جهة ثانية، نجاح
خطة متعدّدة الأبعاد في تطويق ظاهرة العنف المسلّح، حيث
شاركت أجهزة الأمن السعودية، ورجال دين، أو من كانوا يعرفون
في التسعينيات من القرن الماضي بـ (مشايخ الصحوة)، ونخبة
من الخبراء في علم النفس والاجتماع، في إحباط المفاعيل
الأيديولوجية والنفسية والإقتصادية لدورة العنف المتفجّر
في أرجاء متفرّقة من السعودية، عبر برامج المناصحة، والرعاية،
وإعادة التأهيل الفكري والإجتماعي والإقتصادي. وبالرغم
من أن مغذّيات العنف لا تزال ناشطة، تماماً كماهي مبرراته
لدى الجماعات السلفية المتشدّدة، إلا أن وتيرة العنف تراجعت
بصورة لافتة خلال السنتين الأخيرتين. من جة ثالثة، كان
للطفرة النفطية الثانية التي بدأت في منتصف 2004 دور جوهري
في بعث الطموحات السياسية النائمة لدى السعودية، سيما
وقد شعرت بمرارة الخسائر الناجمة عن غيابها عن الساحة
الإقليمية، خصوصاً بعد غزو العراق.
ولعل أول بادرة تحرّك سعودي خارجي جاءت من الأمير سعود
الفيصل، وزير الخارجية، الذي أطلق تصريحاً ينطوي على موقف
مبيّت حين وجّه عتاباً للإدارة الأميركية كونها سمحت لنفوذ
إيراني أن يتعاظم في العراق، على حساب الدول التي وقفت
معها في سنوات الحرب العراقية ـ الإيرانية. هذا التصريح
المشحون يمثّل رجع صدى لتحوّلات داخلية سمحت بانبعاث تطلّعات
راكدة لدى السعودية. وفجأة بدأت آلة السياسة الخارجية
السعودية، التي وصفها وزير الخارجية السوري، آنذاك، فاروق
الشرع بأنها مصابة بالشلل، بالدوران مجدّداً، بل أصبحت
هذه المرة بأسنان حادة، وباتت تعمل وفق متطلبات راهنية،
فكانت المواقف تصدر بناء على ما يجري الآن، وليس ما تبطنه
من أخطار مستقبلية، أو تداعيات إستراتيجية. لا ريب، أن
تحوّلاً دراماتيكياً بهذا الحجم لم يكن يقع لولا وجود
متغيرات داخل معادلة السلطة السعودية، فالملك لم يعد رمز
قوة الدولة، ولا الصانع الأكبر للتوجّهات السياسية، وليس
بالقدرة التي تؤهّله للإضطلاع بأدوار فريدة وذات طابع
كاريزمي، ولا يجد المرء في ما يطلقه الإعلام السعودي المحلي
والخارجي من نعوت مضلّلة سوى محاولة لستر الحقيقة. على
الضد من العهود السابقة، فإن السعودية تدار من أقطاب كبار،
يمثّل الملك أحدهم، وهو ما سمح لأمراء نافذين أو طامحين
للعمل بصورة مستقلة، مثل وزير الخارجية سعود الفيصل، ورئيس
مجلس الأمن الوطني بندر بن سلطان، ومدير الاستخبارات العامة،
والسفير السابق في واشنطن تركي الفيصل بمزاولة أدوار مركزية
تتصّل أحياناً بالمركز السيادي للملك، وبصناعة التوجّهات
السياسية الخارجية للمملكة السعودية. وبإمكان المراقب
لحركة السياسة الخارجية أن يلحظ نشاطاً غير اعتيادي قام
بها الثلاثة في السنتين الأخيرتين سواء في موضوع الخلاف
المفتوح بين معسكري الاعتدال والممانعة، أو في موضوع عملية
السلام مع الكيان الإسرائيلي. فقد كان الأمير بندر بن
سلطان وراء البيان السعودي الصادر في أول يوم للعدوان
الإسرائيلي على لبنان في 12 تموز/يوليو 2006، وما أعقبه
من مواقف تصعيدية عكست نفسها على الإعلام السعودي الذي
أعاد تحريك الملف الطائفي مجدداً، ثم ضلوع الأمير بندر
في دعم جماعات قاعدية في العراق ولبنان وسورية، فيما كان
الأمير سعود الفيصل يواصل حملة التحريض على قلب النظام
في سورية والتي استمرت حتى نهاية عهد الرئيس الأميركي
السابق بوش. أما الأمير تركي الفيصل، والذي تحرّر من تبعات
المرحلة السابقة التي كان فيها الراعي الرسمي لتنظيم القاعدة،
وصار مبشّراً بعملية السلام عبر بوابة التطبيع الثقافي،
حيث أصبح عضواً دائماً في مؤاتمرات أكاديمية أو ثقافية
تشارك فيها أطراف إسرائيلية. بالمناسبة، كان الأمير تركي
المسؤول عن اختيار حاخامات يهود للمشاركة في مؤتمر حوار
الأديان الذي عقد في مدريد في شهر يوليو من العام الماضي.
كان التنسيق السعودي الأميركي في قضايا الشرق الأوسط
قد بلغ أقصى درجاته، ووجد الأمراء أنفسهم بمنأى عن أي
أخطار مباشرة، خصوصاً وأن المفعول السياسي للمال النفطي
كان سريعاً، ليس في محيط معسكر الاعتدال، بل طال المحيط
الدولي، إلى حد أن السعودية راهنت في فترة ما على إقناع
روسيا بالتخلي عن دعم المشروع النووي الإيراني مقابل صفقات
فلكية ستجريها السعودية معها. أما على المستوى الأوروبي،
فكان للمال السعودي مهمة أخرى تتجاوز الحصول على موقف
معنوي داعم من قضية خلافية على الصعيد الإقليمي، بل كان
التنسيق مفتوحاً على إعداد خطط لحروب إقليمية، وتفجير
إضطرابات في مربعات الخصوم. ولم يكن بطبيعة الحال العنصر
الإسرائيلي غائباً في عمليات التنسيق تلك.
وبدت إدارة أوباما وكأنها تسير على خطى الإدارة الجمهورية
السابقة في الانغماس في ما أسماه ديفيد جاردنر في كتابه
(الفرصة الأخيرة) الصادر في مارس الماضي، بـ (الواقعية
الضحله) في التعاطي مع قضايا المنطقة، ودعم أنظمة شمولية
استبدادية في الشرق الأوسط الاستثنائي الذي هو منتج غربي
بامتياز، بحسب جاردنر.
التعويل على أوباما في أن يجترح درباً جديداً للسياسة
الخارجية الأميركية لم يكن يفشي حتى الآن سوى حزمة شكوك،
إن لم يكن مخاوف من أن لا يكون أوباما سوى وارثاً لنهج
يميني متطرّف ولكن في زي ديمقراطي. ماذا يحمل أوباما من
رؤية لقضايا الشرق الأوسط يبقى سؤالاً جوهرياً على الدوام،
بالنظر إلى اقترافات الإدارات الأميركية المتعاقبة في
دعم الأنظمة الشمولية في الشرق الأوسط. لم يتحدث أوباما
حتى اليوم عن مشروع دمقرطة، ولا يظهر من أداء إدارته أنه
يعتزم إثارة الموضوع في المدى المنظور، وكأن سلفه تكفّل
بحسم الملف لصالح الأنظمة الديكتاتورية.
ولذلك، فإن الاسئلة التي يثيرها جاردنر حول عطالة الشرق
الأوسط، والحلول الممكنة التي يمكن للإدارة الجديدة أن
تنتجها لتسوية النزاع، والطغيانية السياسية، والطائفية
التي واصلت ترعرعها في العالم العربي فيما تلاشت هذه الظواهر
في كل الأماكن الأخرى من العالم. ولذلك، يعتقد جاردنر
بأن كون الشرق الأوسط استثناءً هو منتج غربي بامتياز،
من خلال توفير الدعم للطغاة، وهو ما أكّدة أوباما خلال
زيارته الأخيرة الى الرياض في الرابع من يونيو الجاري،
حيث قدّم دعماً معنوياً للنظام السعودي الشمولي، كما غذّى
هذا الغرب النزاع الفلسطيني الإسرائيلي في موازاة شيطنة
الأحزاب الإسلامية المنتخبة بطريقة ديمقراطية، بل الأخطر
في ذلك أن الموقف الغربي من الإصلاحات السياسية في المنطقة
كان سلبياً للغاية. ولذلك، يرى جاردنر بأن القضايا التي
واجهت إدارة أوباما تمثّلت في: دعم إسرائيل، استرضاء السعوديين،
قمع الإسلاميين، وهي موضوعات لن تصمد طويلاً في القرن
الحادي والعشرين. فالمشهد المستقبلي والموضوعي يتعارض
مع الانتقال بذات الملفات الى مرحلة تتنابذ العداء مع
مواقف أميركية وغربية تقليدية، فثمة قوى سياسية واجتماعية
تفرض نفسها على المشهد الحالي والمستقبلي ولابد من التعاطي
المسؤول معها.
سبق أوباما زيارته الى الرياض بتصريحات غير مشجّعة،
حين قال بأنه سيحمل معه ملفين وهما: الملف النووي الإيراني
وملف عملية السلام في الشرق الأوسط، وهذا بالنسبة لكثير
من أبناء هذا البلد يعتبر إشارة سالبة، لأن التغيير الذي
وعد به أوباما، والخطاب الديمقراطي الذي بشّر به عشية
فوزه بالانتخابات الرئاسية تبدّد بصورة عاجلة، وكأنه يعيد
إنتاج صورة سلفه بوش الإبن.
وفور وصوله إلى الرياض، قال أوباما بأنه جاء كيما يستمع
إلى نصيحة الملك عبد الله قبل توجيه خطابه إلى المسلمين
من مصر. وهذا يعني أيضاً أن الإدارة الجديدة لن تقدّم
ما يفيد بأنها مختلفة في تشجيع الديمقراطية أو دعم الإصلاحات
السياسية. وقد جاء في خطاب أوباما في مصر في 5 يونيو وتصريحه
قبل ذلك بأن الولايات المتحدة لن تفرض نموذجها الديمقراطي
على الآخرين، في إشارة تطمينية إلى السعودية ومصر بأنه
لن يمارس نفوذاً من أي نوع من أجل إرغام الدول الحليفة
للولايات المتحدة على تطوير أنظمتها السياسية وتوسيع قاعدة
المشاركة السياسية.
كلام أوباما عن (الثقة بأنه عبر العمل معاً، تستطيع
الولايات المتحدة والسعودية تحقيق تقدّم في مجموعة كاملة
من القضايا ذات الإهتمام المشترك)، يعني أن لا شيء قد
تغيّر في واشنطن، وإن الإحتفالية التي سبقت قدوم أوباما
إلى البيت الأبيض لا تبشّر بآمال جديدة، وستبقى الإدارة
الأميركية حارساً على عروش الطغاة من حلفائها المعتدلين.
ومهما اختلف المراقب مع زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن،
فإنه يتفق معه فيما نسب إليه من كلام بأن (أوباما قد سار
على خطى سلفه.. ومؤسسا لحروب طويلة الأمد). ولا غرابة،
والحال هذه، أن يقول مسؤول سعودي (نحن على نفس الموجة
معهم)، أي مع فريق أوباما.
ما يفعله أوباما الآن ليس سوى مواصلة مساعي سلفه في
موضوع عملية السلام وتسوية الملف النووي الإيراني، وكأنه
يسعى لتحقيق منجز في موضوع السلام إنطلاقاً من المبادرة
السعودية التي أعلن عنها في بيروت عام 2002 وجرى تعديلها
سنة 2007 في الرياض، بإسقاط حق العودة لللاجئين الفلسطينيين
وموضوع القدس. وتأمل السعودية بأن يواصل أوباما جهود سلفه
لإقناع الاسرائيليين بالمبادرة، التي لم يعد يملك العرب
فيها سوى سلاح التطبيع!
ما قيل عن توقعات العديد من السعوديين حول تحسّن العلاقات
مع الولايات المتحدة في عهد أوباما أكثر مما كانت عليه
في عهده سلفه تفترض أن تلك العلاقات كانت سيئة، بالرغم
من أنها بلغت مستوى من التنسيق غير المسبوق، وخصوصاً بين
فريق ديك تشيني والعائلة المالكة، ولا يمكن تخيّل مستوى
يمكن أن تصل إليه العلاقة أفضل مما كانت عليه، ما لم تكن
إدارة أوباما قد استعدّت لأن تقدّم أشكالاً جديدة من الدعم
للنظام السعودي، في ملفات أخرى مثل الحرب ضد إيران، ورفع
مستوى التنسيق مع الدولة العبرية، إضافة إلى ملف الطاقة.
|