معضلة الذاكرة الجماعية
التاريخ السعودي مأزوم ويصنع أزمة الحاضر
خالد شبكشي
يمثل التاريخ المشترك في حياة أية أمة أحد أبرز عوامل
وحدتها بوصفه الذاكرة الجماعية التي تحفل بكل صور الفخر
والإعتزاز، ولذلك ينظر علماء الاثنيات وعلم الاجتماع السياسي
الى التاريخ المشترك باعتباره مكوّناً حيوياً في بناء
دولة ـ الأمة إلى جانب مكوّنات أخرى متواشجة مع التاريخ
المشترك، مثل اللغة والتراث الثقافي والعادات الاجتماعية،
والفولوكلور الشعبي، والرأسمال الفني والأدبي والمناشط
الاقتصادية..
بالنسبة للأمم التاريخية ليست هناك مشكلة تعترض طريقها
في بناء دولتها الوطنية أو القومية، لأن جذور تشكّلها
كفيلة بإنتاج الذاكرة الجماعية لدى أفرادها طيلة تاريخها
الطويل، تنبىء عنه عادات وتقاليد وثقافة وفولكلور وتراث
تاريخي وفني وأدبي وسياسي. ولأنه تاريخ مشترك، فإنه مصدر
فخر لكل الجماعات فإذا ما رجعت إليه فإنما ترجع إلى حق
عام يتقاسمه أفرادها وملك مشترك لا يخصّ فئة دون سواها،
لا تؤثر فيه حلقات في التاريخ إرتبطت بنشاط فئة ما في
هذه الأمة، بل إن سمو الذاكرة وسعتها تجعل كل الحلقات
قابلة للإلتحام بالمجرى العام لحركة تاريخ هذه الأمة.
على الخلاف من ذلك، فإن الأمم التي نشأت بصورة قهرية،
أي على أساس سيطرة فئة على باقي الفئات وفرضت عليها بالقوة
الغاشمة الإمتثال لكل شروط القوة والقهر، فهذه الأمم تعيش
هاجساً مستديماً حول وحدتها، ببساطة لغياب عناصر جديرة
تبقي على تماسكها، لأنها وحدة غير قائمة على الإقتناع
الحر. بكلمات أخرى، أن عوامل توحيدها غير مستمدة من مشتركات
الجماعات المنضوية في هذه الأمم، الأمر الذي يجعل التفكك
خطراً مرافقاً لمسيرة هذه الأمم، الى حد أن انهيار النظام
القهري الحاكم عليها يتبعه تفكك الأمة نفسها، فتعود الى
الأشكال الأولى التي استقرت عليها قبل الانضواء القهري
في وحدة غير نابعة من إرادة جماعية.
تمثّل الدولة السعودية من أبرز النماذج في تاريخ الأمم
العاصرة التي تواجه معضلة تاريخية خطيرة، كونها تفتقر
الى عوامل التوحيد السياسي والاجتماعي والثقافي المؤسس
على المشتركات، ويبقى عامل القوة وحده الضابط والماسك
لبنية التوحيد السياسي.
ويمثّل وعي الجماعات بذاتها وبحقوقها ومصالحها مصدر
تهديد دائم لوحدة الدولة السعودية، لاستحالة الانسجام
بين الوعي والقوة. وقد ابتكر الاسرائيليون مصطلح (كي الوعي)
في إشارة الى اللجوء الى المزيد من القوة من أجل مواجهة
الاخطار الذي ينطوي عليها الوعي في مواجهة وحدة الكيان.
وشأن الكيان الإسرائيلي، فإن الكيان السعودي هو الآخر
نشأ على قاعدة القوة الغاشمة التي وحدها تضمن استمرار
النظام وسطوته. كل المحاولات الأخرى لصنع مكوّنات عاضدة
للقوة باءت بالفشل، حتى تلك التي كان يعتقد آل سعود بأن
السكّان سيستجيبون لها بملء إرادتهم وتبيّن لاحقاً بأن
القوة وحدها التي صمدت في وجه الاضطرابات التي تواجه دولة
آل سعود. لا شك أن فجور الأمراء في السطو على كل ما تصل
إليه أيديهم من ممتلكات الناس وأرزاقهم ساهم بشكل أساسي
في تبديد أي فرص لإقناع السكّان الأصليين بأنهم قادرون
على ضبط الأمن وحماية الممتلكات العامة من العدوان الداخلي
أو الخارجي. فسياسات الدولة تلعب دوراً أساسياً في تشكيل
مواقف الناس منها.
ما سبق يضيء على أحد من أخطر المفاصل في علاقة الدولة
السعودية مع غالبية السكّان في الجزيرة العربية الخاضعة
تحت سلطة آل سعود بالقوة، وهو التاريخ. فبعد مرور نحو
قرن على بدء احتلال المناطق في الجزيرة العربية (1902
الرياض، 1912 الاحساء والقطيف، 1924 ـ 1926 الحجاز) فإن
التاريخ الذي يكتبه المنتصرون أخفق في تشكيل ذاكرة جماعية
لدى السكان المنضوين تحت المملكة السعودية. بكلمة أخرى،
إنه تاريخ مأزوم، ويستحيل أن يشكّل مادة فخر وعزّة لغالبية
السكان، فهو تاريخ الغزوات والسلب والمجازر الجماعية ومصادرة
الأملاك وهدم البيوت، وسفك الدماء وتشريد الأهالي من بيوتهم..هل
يمكن لتاريخ كهذا أن يكون مصدر فخر وكرامة؟
حاول آل سعود أن يكتبوا تاريخاً لهذا البلد منفصلاً
عن التاريخ المشترك لجميع السكّان، ولكنهم واجهوا مشكلة
بأن التاريخ المشترك هو تاريخ الاسلام، ما يجعل الحجاز
أكبر المستفيدين منه، وحاولوا ربط أنفسهم بمسيرة الرسالة
الأولى فوضعوا تصويرات لحركة مؤسس المذهب الوهابي بأنها
إحياء رسولي يستعيد ذاكرة الدعوة النبوية في مكة والمدينة،
فكانت تصويرات مستهجنة لم يقبلها حتى النجديين أنفسهم
الذين تشرّبوا وهماً وهابياً يقول بأن الوهابية حركة نشأت
لمحاربة الغلو والبدع، فجاءت تلك التصويرات بما لا يخطر
على بال أشد الغلاة عتواً واستكباراً.
ولأن لابد لأي أمة من تاريخ، كان آل سعود أمام خيارات
صعبة في صنع الذاكرة الجماعية للسكان:
ـ محو الذاكرة الدموية من تاريخهم عبر إعادة كتابة
تاريخ الجزيرة العربية ما يجعلهم منسجماً مع شروط تكوين
الدولة ـ الوطنية. ولكن المشكلة التي واجهوها أن عملية
كهذه تتطلب محواً شاملاً لكل التاريخ السعودي الذي ما
إن تزال منه قصص الحروب والغزوات (أو الفتوحات حسب توصيف
آل سعود وعلماء الوهابية قديماً وحديثاً) لا يبقى منه
شيء يستحق الذكر. فلم يعرف في ذلك التاريخ سوى ما كان
الدم الحرام شاخصاً عليه ودليلاً إليه، ومازالت ذاكرة
الأجداد في المناطق التي تعرّضت لغزوات جيوش ابن سعود
والوهابية حيّة وترشد الى الأماكن التي اقترفوا فيها أبشع
الجرائم بحق الإنسانية.
ـ فبركة تاريخ جديد للدولة، أي صنع ذاكرة جماعية تقوم
على استيلاد مشتركات صالحة لتشكيل وعي جماعي بالأمة المتخيّلة.
وقد لحظنا في العقد الأخير كيف أن الافراط في الحديث عن
(الوطنيات) تحوّلت الى مثار سخرية لدى كثير من السكّان
وخصوصاً النخب الفكرية والسياسية خارج نجد والتي تعي بصورة
قاطعة أن تدجيج الوعي العام بخطاب وطني مفتعل لا يمكنه
تصنيع ذاكرة جماعية، ولا يمكن لها أن تنبني على مجرد أساطير
غير متقنة صمّمها بعض الاعلاميين الذين يتلقون تعليماتهم
من وزارة الداخلية أو من جهات غير متخصّصة في صنع الذاكرة
الجماعية.
في ضوء الغيمة الإعلامية التي صنعها بعض المحسوبين
على النظام السعودي، يبدو هناك من يعتقد بأن تشبيع الحاضر
بصور مفبركة عن الملك عبد الله، على سبيل المثال، وإظهاره
في هيئة الرمز الوطني الفريد في التاريخ السعودي من شأنه
أن يخفف من وطأة التاريخ المأزوم للدولة السعودية، أو
لربما هناك من يرى بأن مراكمة الصورة القريبة عن ملوك
آل سعود يمكن لها أن تعطّل مفاعيل الصور البعيدة.
لا يبدو أن الذين يشتغلون على مثل هذه الرهانات قد
قرأوا تاريخ الدولة، كنظرية حديثة، ولا شروط تكوين الأمم،
فضلاً عن الوظائف الأساسية التي يمكن أن تضطلع بها الذاكرة
الجماعية في تشكيل وعي دولة ـ الأمة لا باعتباره قراراً
فردياً ولا نشاطاً فئوياً حصرياً بل هو تفاعل تاريخي وثقافي
وتراثي بين قطاع كبير من الأفراد نعرف من خلال اندراجهم
في كينونة جماعية بأنهم باتوا أمة قبل أن تنتج هذه الأمة
دولتها على أساس التعاقد الجماعي والارادة المشتركة.
نجزم بأن الغالبية العظمى من سكان المملكة تمقت الانتساب
الى تاريخ آل سعود، وهناك من ينظر اليه بازدراء شديد،
فيما يعتبره آخرون مصدر تحريض على الثأر والانتقام لما
اقترفه قطعان آل سعود من جرائم وحشية تفتقد الى كل قيمة
إنسانية ودينية وحضارية. ولا يمكن لذاكرة جماعية أن تتشكل
من جماجم الضحايا ودماء الأبرياء الآمنين الذين داهمتهم
قوات ابن سعود دون وجه حق، والأنكى ان ترتكب الجرائم تحت
عناوين دينية، فتصبح تلك الجرائم فتوحات ويصبح الغزاة
جيش المسلمين فيما يتحوّل الضحايا الى كفار، وهي عناوين
مازالت ثابتة في ادبيات الايديولوجية الدينية للدولة.
اللافت ان ليس هناك من هو مكترث لصنع الذاكرة الجماعية
باستثناء ال سعود الذين يشعرون بأزمة الكيان الذي نشأ
دون مقومات دولة وأمة. بالنسبة للمكونات السكانية الأخرى
فإن ثمة ذاكرة تاريخية خاصة لكل منها ترجع اليها وتشكل
موئلا لوحدتها وروحها الجماعية. أزمة الكيان تشكل الدافع
الرئيسي لدى آل سعود والفئات المنتفعة من وجود كيانهم
لناحية حل مشكلة التاريخ المأزوم الذي يطالب اليوم الأمير
خالد الفيصل بإعادة كتابته، فهو يدرك من خلال جولاته في
جامعات الغربية، شأن اخوته مثل تركي الفيصل وسعود الفيصل
الذين ينزعون نحو تجاوز التاريخ الدموي للعائلة المالكة
وتسويق نموذج مختلف عن تاريخ آخر غمرته الحروب الدموية.
تاريخ كما يريده الامير خالد يتجاوز السر المباشر لحوادث
الغارات والغزوات وينأى عن الطابع الايديولوجي للتاريخ
كالذي كتبه ابن غنام وابن بشر ومؤرخي آل سعود الذين كانوا
يفتتحون أبواب سيرة الحروب السعودية بعبارة (وغزا جيش
المسلمين..) وكأنهم يخبرون عن حروب المسلمين مع كفار قريش..هذا
هو التاريخ الذي يعاد انتاجه وتعميمه من كبار الأمراء
يملؤهم الفخر والزهو بأنهم حكموا هذه البلد بـ (السيف
وحسب قول مشهور لحاكم الرياض الأمير سلمان بن عبد العزيز
(أن السيف لا يزال بأيدينا)، فهل يمكن بالسيف أيضاً أن
يصنعوا ذاكرة جماعية؟
ولأن التاريخ السعودي يحيك ذاكرة أزمة، فإن الدعوة
الى إعادة كتابته وفق منظور مختلف ليس بمهمة سهلة، خصوصاً
وأن هذا التاريخ جرى تعميمه في الكتاب المدرسي والخطاب
الرسمي ولغة التداول اليومية وحتى في التجاذبات السياسية
ما يجعله مادة خصامية، وليس ملتقى أشكال الوعي التاريخي
الخاص بالجماعات المنضوية في الدولة القائمة.
في محاضرة لخالد الفيصل في جامعة الملك عبد العزيز
في 19 إبريل الماضي قال (يتوجب كتابة التاريخ بوصفه مادة
غير جامدة، تستوعب الاقتصاد والفكر والثقافة والمسببات،
الأمر الذي يفضي إلى فهم أشمل للإنجازات التي تحققت للإنسان
السعودي وقيادته منذ نشأة الدولة السعودية). يبدو انه
يستحضر عمق أزمة الكتابة التاريخية للدولة السعودية، في
محاولة للبحث عن مخرج آمن ينصرف بعيداً عن ما تسببه السيرة
الدموية في التجارب السعودية في أطوارها الثلاث.
كل العلوم التي يقترح شاكر النابلسي في مقالته بعنوان
(أسباب دعوة الفيصل الى إعادة كتابة التاريخ السعودي)
في جريدة (الوطن) في إبريل الماضي تشغيلها لناحية اعادة
كتابة التاريخ السعودي لا معنى لها لأن الأزمة ليست منحبسة
في نهج كتابة التاريخ السعودي بل في هذا التاريخ الذي
مهما جرى تزيينه (لجهة تسويقه) بأي علم يبقى السؤال كيف
ينظر صانعوه إليه، والأهم كيف ينظر ضحاياه إليه، فهل مجرد
الإنتقال من الطابع السردي للتاريخ السعودي الى الطابع
العلمي للتاريخ، من خلال توظيف طائفة من العلوم الحديثة
والاثنولوجية والايثولوجية والانثرولوجية وحتى الابستمولوجية
كفيل بأن ينزع عن هذا التاريخ لون الدم الذي صبغه طيلة
سنوات تكوين الدولة السعودية. فهل إعادة كتابة أو تفسير
التاريخ يؤول الى تغييره، خصوصاً وأن من عاشوا ويلاته
ليسوا على استعداد لقبول تفسير جديد للدماء التي سفكت
من أجساد آبائهم وأجدادهم، وبات خلف أولئك القتلة من السلف
يذكّرون ضحاياهم ما فعلوا بهم في تلك المعارك التي أصبحت
جزءا من سيرة مدرسية يراد تلقينها الى أبناء وأحفاد الضحايا
الأوائل.
صحيح أن للباحث في التاريخ السعودي أن يلجأ الى ما
يشاء من العلوم لفهمه، ولكن ليس ذلك على سبيل تصنيع ذاكرة
جماعية للسكان. في هذا البلد كل شيء منقسم على ذاته، وليس
فيها مشترك واحد، وحتى الذاكرة التاريخية ليست قابلة للتوحّد
تماما كما هو الوطن غير قابل للولادة في دولة لا تعيش
وحدتها الا على انقسام المجتمع.
|