فلسطين.. القضية الضائعة سعودياً
محمد الأنصاري
لماذا يصبح السؤال عن انخفاض شعبية القضية الفلسطينة
بين السعوديين مشروعاً؟ ولماذا السؤال أصلاً؟ فهل ما يعنيه
انخفاض شعبية قضية ما، أنها لم تعد أولوية، وأن تآكلاً
في مشروعيتها قد بدأ، كما هي قيمتها؟ ومالأسباب التي دفعت
الى ذلك المآل؟ هل ثمة من فعل هذا بالقضية الفلسطينية
أم أنها مجرد ردود فعل على أوضاع داخلية فلسطينية كما
يدّعى؟ أم أن للتطبيع متطلبات خاصة؟
هل هي حماس أم فلسطين التي يراد لها أن تتوارى في الذاكرة
الشعبية، حيث يكثّف بعض الكتاب السعوديين المقرّبين من
السلطة من قصف حركة حماس عبر إدخالها في لعبة المحاور
الإقليمية..ما يظهر في كتابات هؤلاء أن المسألة ليست مقتصرة
على حركة حماس بل أن الأمر يصل الى القضية الفلسطينية
التي يراد تخفيضها، حيث تنعقد المقارنات بينها وبين قضايا
محلية أو حتى خارجية يراد رفع درجة أهميتها بما يجعلها
مكافئة لـ (قضية العرب الأولى)، كما كانت الادبيات السياسية
العربية تضعها..
لم يجرؤ حاكم عربي ومن ورائه المرجفين من كتّاب ورجال
دين وإعلام وصحافة وحتى تجارة، أن يعقد مجلساً للمفاضلة
السياسية والتاريخية والقيمية بين فلسطين وأية قضية أخرى
في هذا الكون، باستثناء بطبيعة الحال الحرمين الشريفين.
لم يجرؤ أحد سراً وجهراً على أن يضع فلسطين القضية في
سوق المزايدات الكلامية والاعلامية، وأن يجترح سبيلاً
مع قدر عالٍ من التبجّح في المقاربات الجريئة ليقول إن
قريتي أهم عندي من القدس، في خلط متعمّد للعاطفة الفطرية
مع الأرض ونظام المعنى الأسمى للأمة. فتلك المقابلة لا
تتم في أجواء محايدة، ولا شك أن الانطواءات النفسية والسياسية
أشد خطورة، فمتى أقحمت القضايا المقدّسة في دائرة الجدل
فقدت حصانتها، فلا تكون بمأمن من التحقير، والتهميش، وحتى
التشويه.
حين نشرت الصحافة السعودية في الخارج أول مقالة صادمة
عن فلسطين قبل عام تقريباً، لم يكن من هم خارج الحدود
يدركون بأن شيئاً ما يراد تغييره (أو بالأحرى تطبيعه)،
تمهيداً لأرضية السلام التي عبّرت عنها مبادرة عبد الله
في بيروت في مايو 2002. حينذاك بدأ الإعلام السعودي الرسمي
يخوض سلسلة معارك مع قائمة التابوات، أو بالأحرى ثوابت
الأمة، لناحية نزع القداسة عنها واستدراجها الى قاعة المحاكمات
العلنية.
فقد كان ضرب الاجماعات يتم تارة عبر ابتذال الشعارات
الكبرى ذات الصلة بتحرير فلسطين، فجاء من حقنته مبادرة
الاستسلام في بيروت ليضع الشعارات بلغة ساخرة ليخلص الى
نتيجة: أن تلك الشعارات لم تحرر شبراً، ولابد من دفنها،
ويتم ضرب الاجماعات تارة أخرى عن طريق تبديل قائمة الأعداء،
فتتوارى (إسرائيل) من القائمة تدريجياً، وتصبح في اللاوعي
مرشحاً منطقياً لأن تصبح صديقاً وشريكاً في عملية السلام،
بل وربما حليفاً استراتيجياً. تم الجهر بذلك بأشكال شتى،
وأبرزها تصعيد الخطر الايراني والشيعي وتخفيض متعمّد للخطر
الاسرائيلي، الذي لم يعد في الخطاب الاعلامي السعودي خطراً
يستحق الذكر، بل يجب العمل على تغيير الانطباع بوجوده،
والاشتغال على تكريس خيار السلام، والتشديد على الخطر
الايراني والشيعي، ويلحق بهذا الخطر أيضاً كل حركات الممانعة
في لبنان وفلسطين وإلى حد ما العراق.
فأولئك الذين يضمرون الكراهية للتيارات والقوى الدينية،
يعبّرون عن مواقفهم بطريقة مقرفة، تفتقر الى أدنى مسؤولية
وإحساس بقيمة الموقف، فهم يعلنونها بأن دعم حركة حماس
أو الجهاد في فلسطين يعني فتح الأبواب أمام النفوذ الايراني،
فيما يعمون باستغباء عن أشكال النفوذ والاحتلال الصهيوني
والاميركي والاوربي.
في السعودية دون سواها، ومن علماء الوهابية حصرياً،
يتم تخفيض الخطر الاسرائيلي، شعباً ودولة. وبإمكان أي
باحث في الشبكة الالكترونية أن يقع من خلال عملية جوجلة
سريعة على عشرات الأمثلة التي تبدأ بعبارة (أن الشيعة
أخطر على السنة من اليهود). ومن سيئات طالع هذا الزمن
الرديء أن تعميم مثل هذه المواقف لم يأت إلا في غضون وبعد
العدوان الاسرائيلي على تموز 2006، والتي خرج فيها حزب
الله منتصراً وفق المقاييس العسكرية والنفسية. منذاك،
ومهمة التصعيد للخطر الايراني والشيعي والتخفيض للخطر
الاسرائيلي متواصلة في الاعلام السعودي، وفي بيانات المشايخ
السلفية، وفي الفتاوى التكفيرية. في قراءة الأبعاد النفسية
والعقلية لمثل هذه المهمة، نواجه إرهاصات صادمة عن تبدّلات
في المزاج العام، وفي اتجاهات الرأي العام في مناطق واقعة
تحت تأثير الاعلام السعودي.
ما يبعث على الحزن أن خزي المواقف الاعلامية والثقافية
والتي نشرت في الصحافة السعودية بفترة مجدولة بإتقان،
ما لبث أن تسرّب الى المحيط المتفاعل غريزياً مع هذه الصحافة،
فأصبح كثير من الأنصار الالكترونيين يعكسون آراء مماثلة
في مواقع تابعة لذات الكتيبة المخصّصة لصنع اتجاهات الرأي
المخزية في المجتمع خدمة لأغراض السلطان.
يدخل المتخيّل مكان الحقيقي والفعلي، فيصبح الخطر الايراني
المتخيّل حاضراً بسطوة مكان الخطر الاسرائيلي المقرون
بجرائم القتل والتدمير للمنازل والتجريف للمزارع، والمجازر
الكبرى، وآخرها ما جرى في لبنان يوليو ـ أغسطس 2006، وغزة
ديسمبر 2008 ـ يناير 2009 وهي حقائق لم تعد مجهولة، فكيف
أهمل الاعلام السعودي ما يبيّض وجه الجزّارين في التاريخ
بفعل ما اقترفه الاسرائيليون في حربيهم الاخيرتين من جرائم
على الهواء مباشرة في لبنان وغزة، لناحية صنع صورة وهمية
عن خطر لم يثبت دليل واحد على وجوده سوى في أذهان الطائفيين
من أتباع المذهب الوهابي..فهل ثمة غير أولئك من يعبّر
عن تلك الفوبيات الوهمية؟
|
تيران وصنافير السعوديتين
المحتلتين اسرائيلياً |
تحت غمامة تصنيع وترسيخ الخطر الايراني، يراد من الرأي
العام العربي والاسلامي أن ينسى ما ارتكبه الاسرائيليون
من مجازر في الفترة ما بين 1948 وحتى 2009، وما تخللها
من تدمير لمئات المدن والقرن، وعشرات المجازر، لتصنيع
صورة الاسرائيلي المهجوس بخيار السلام، فيما تفصح كل نشاطاته
عكس ذلك، من بناء المستوطنات، إلى الاختراقات اليومية
لسيادة لبنان، والغارات الجوية على قطاع غزة، وعمليات
القرصنة المستمرة في البحار والمحيطات، واختراق القانون
الدولي وتعطيل القرارات الصادرة عن مجلس الامن..ومع ذلك،
فهي، وفق الاعلام السعودي، دولة تحب السلام، وإن مواصلة
بناء المستوطنات ليست سوى جنحة مغفورة (إن شاء الله)!
ما يندى له الجبين، أن السعودية التي تتأهب تدريجياً
للعب الدور المركزي في عملية السلام مع الدولة العبرية،
هي من تجعل اعلامها يضطلع بالعبث في اللاوعي الجمعي، من
خلال تدجيج الدورة الاعلامية اليومية بصور سلبية عن إيران
والشيعة بصورة عامة، فيما تبهت، تدريجياً أيضاً، الصورة
السلبية عن الكيان الاسرائيلي، الذي ينعم بعد دورة إجرامية
غير مسبوقة في غزة بحرية الهاربين من وجه العدالة المنتهكة.
تشعر الدولة العبرية بأنها اليوم أقرب الى عقلية وسلوك
الدولة السعودية، وهما يتقاسمان الهموم والمصالح والأٌقرب
الى واشنطن روحاً وعملاً.
من مخازي التاريخ التي لا يجب ذكرها كثيراً، ولكن سنضطر
إليها حفظاً لأمانة الكلمة والمسؤولية التاريخية: باتت
السعودية في مسيس الحاجة لتوفير سبل الاستقرار للدولة
العبرية، لأن الأخيرة أصبحت مصدر استقرارها أيضاً، وقد
تصبح في لحظة قيمة وجودية بالنسبة لها، ولذلك فإن السعودية
مضّطرة لتقديم إثباتات على أنها كذلك لدى الإميركيين والأوروبيين
وأيضاً الاسرائيليين.
كان الحديث دائماً يدور حول مكاسب ترتجى من شن الحروب
وأخرى من التنازلات الضرورية في عمليات السلام، ولكن ما
حققته الدولة العبرية الآن لاعلاقة له بحروب أو سلام،
بل هي مكاسب مجانية يحصدها الاسرائيلي أحياناً من حفلة
أوهام زائفة، أو لعبة التخويف من طرف واحد، أو هدايا مجانية
اعتاد بعض الحكام العرب على تقديمها إلتماساً لخير مرجوّ،
أو درءً لشر وهمي. ومن السخرية، أن الحكام العرب في معسكر
الاعتدال وهم يهرولون نحو خيار التطبيع مع الكيان الاسرائيلي
يعيشون الخوف والخطر منه، كما بدا واضحاً من صمت القيادة
المصرية حيال الانتهاكات الاسرائيلية للمياه الاقليمية
المصرية وكذلك ضرب قوافل المعونات لغزة القادمة من السودان
بعد اختراق أجواء مصر، ولا ننسى نفي كل من مصر والسعودية
ملكية جزيرتي تيران وصنافير في البحر الاحمر والمحتلتين
منذ حرب 1967 من قبل الكيان العبري.
وما هو طريف للغاية، أن السعودية تقدّمت بشكوى الى
مجلس الأمن في إبريل 1968 تشكو فيها من أن جزيرة صنافير
هي الأخرى، أي بعد جزيرة تيران، قد تكون عرضة للإحتلال
الاسرائيلي، فكانت المفاجئة أن سنافير قد مضى على احتلالها
عشرة أشهر قبل تقديم الشكوى السعودية.
لم تكن علاقة السعودية بفلسطين حميمية في يوم ما، باستثناء
ما يتناقله كتّاب وصحافيون مقرّبون من القصر السعودي عن
الملك فيصل. ولكن مبادرتي فهد التي قدّمها في مؤتمر القمة
العربية في فاس في نوفمبر 1981 (وهي قمة لم يسفر عنها
ما يستحق الذكر سوى خلافات استحال التوفيق بينها حول مشروع
الملك فهد للسلام مع الدولة العبرية)، ومبادرة الملك عبد
الله (ولي العهد آنذاك) التي قدّمها في مؤتمر القمة العربية
في بيروت في مايو 2002، والتي أرست أساساً للتطبيع مع
الدولة العبرية..وكل ماجاء بعد ذلك من تعديلات على بنود
المبادرة، وحوار أديان، ولقاءات سرية بين بندر ومائير
داغان، وتحالفات خفيّة خلال العدوانين الاسرائيليين على
لبنان وغزة لم تخرج من سياق المساعي الجادة للتطبيع العربي
الشامل مع الكيان الاسرائيلي بقيادة سعودية، بحسب ما يطلبه
الإسرائيليون والأميركيون والى حد ما الأوروبيين.
في مثل هذه السياقات، يعاد موضعة القضية الفلسطينية
ليس في التفكير السياسي الرسمي العربي بل وفي قائمة أولوياتنا
الثقافية وجدول القضايا العامة مورد الاهتمام المشترك
بين الشعوب العربية. لأول مرة تثبت الليبرالية السعودية
بأنها مجرد عربة رخيصة مثبّتة على حصان السلطة، فقد تكفّل
فريق من (المترلبرلين) مهمة نزع رداء القداسة عن القضية
الفلسطينية، وسحبها من التداول الاعلامي والثقافي، بل
وإخراجها من نظام القيم الكبرى في عالمنا العربي والاسلامي.
إن الاشتغال الكثيف على نقد حركات المقاومة في فلسطين
مثل حماس والجهاد لم يكن يستهدف سوى القضية الفلسطينية
من خلال ضرب رموزها..من الأممي إلى القومي، ثم القطري
وصولاً الى الاقليمي الضيق، هي مراحل نحر القضية الفلسطينية،
وإن أولئك الذين قرروا أن يجعلوها قضية شعب يكون في لحظة
ما منقسم على ذاته، فيصبح قطاعاً وضفة يريدون أن يقنعوا
الرأي العام المحلي بأن القسمة تلك فعلة فلسطينية خالصة..
نصدّق نيتشه هذه المرة بقوله (أحياناً لا نقيس قيمة
قضية ما بما نحققه من خلالها، بل بالثمن الذي تكلفنا إياه)،
ويسوق مثالاً المؤسسات الليبرالية التي لا تعود متحررة
حين تصبح مكتسبة، إذ بعد ذلك تصبح خطراً قاتلاً للحرية.
هكذا هي الليبرالية في ديارنا التي تخلت عن تاج الحرية،
وبدأت تعمم ما أسماه نيتشه بـ (الانحطاط القطيعي)، لأن
الليبرالية لم تعد قادرة على تحقيق ما خلقت من أجله: إرادة
التحرر من سلطة الآخرين، ولا الحفاظ على مسافة فاصلة عنهم.
لقد تحوّلت الليبرالية السعودية إلى مجرد مسحوق عتيق لوجه
السلطة القبيح.
ولابد أن يسجّل هنا أن الليبرالية، قبل أي اتجاه ايديولوجي
أو سياسي أو اجتماعي آخر، كانت المسؤولة عن هتك حرمة القضية
الفلسطينية عبر كتابات لم يجرؤ أحد من المحيط الى الخليج
على اعتناق معشارها في وقت لاحق. ومن المفارقات المثيرة
للدهشة أن كل الذين كتبوا عن فلسطين من ليبراليي السعودية
وبلغة تهكمية، ساخرة، وتخفيضية، اختزالية، كانوا من منطقة
نجد، أي من مركز السلطة..
لقد بتنا أمام شكلين لليبرالية: ليبرالية سلطوية وليبرالية
شعبوية، وهما وإن التقيا في العلن فإنهما يخوضان حرباً
شرسة في السر، وفي كل الاحوال فإن أي ليبرالية سلطوية
تخون هويتها ووظيفتها، ولسوء الحظ فإن ذلك ما يجري دائماً
على يد متقمّصين للفكرة الليبرالية، وإن كانت الليبرالية
لا تعني بالنسبة لهم سوى تحرراً سلوكياً ماجناً، ولكنهم
جنود أشاوس في الدفاع عن الاستبداد السياسي الذي يجنون
منه أرباحاً برائحة نتنة.
لم يعمل الليبراليون النجديون بوحي من قناعات مستقلة،
أو مراجعة شاملة لمسيرة النضال العربي في ميدان الدفاع
عن القضية الفلسطينية، ولكن ثمة فاتورة جاهزة للدفع لهم
من قبل السلطة التي تملك آليات متطورة في تنسيق الأعمال
مدفوعة السبق. لو لم يكن لدينا كذابون فبالتأكيد لدى السلطة
سبل الوصول اليهم في الداخل والخارج، لأنها مركز الكذب
كله، وحين يوحي الأخير الى كتيبة الصحافيين والكتّاب والمرتزقة
أجمعين بأن اسرائيل لم تعد عدوّاً وأنها قاب قوسين أو
أدنى من خط الاخوة الانسانية والشرق أوسطية، فإن ذلك يعني
عبثاً متسلسلاً بشبكة العواطف النبيلة التي حملها العرب
وحتى حملة القيم الانسانية في العالم الذين ينكرون كل
ما هو منافٍ للإخلاق، والحق الثابت، وتقرير المصير.
|