دولة المرضى
ليس بالمعنى الكلينيكي المحض فحسب، رغم ابتلاء الكبار
والصغار في العائلة المالكة بأمراض بعضها عائد الى إساءة
استعمال الثروة، وأخرى بفعل تفجّر نزوات الغطرسة والزهو
والخيلاء المنبعثة من أنبوب السلطة، ولكن أيضاً بالمعنى
الاجتماع ـ سياسي. فالأمراء يتصرفون وكأنهم كائنات مهجّنة،
أو لربما ألبست أرواحهم ومنابع التفكير لديهم نفحات لاتنتمي
إلى التراث الروحي والفكري الآدمي.
ليس في الأمر غرابة أن يكونوا أكبر صانع للنفاق السياسي
والاجتماعي، الذي بات يدير النشاط اليومي أفقياً على مستوى
العلاقات الاجتماعية وعمودياً أي في علاقة المجتمع بالدولة.
لم يعد يشعر أحد من علية القوم بأي نوبة لوم من تفشي المرض،
أي النفاق، في جسد الدولة من كبرى مؤسساتها إلى صغراها..فالكل
يمارس النفاق على طريقته، حتى أصبح هو القانون الفعلي..
ترتدي القيم الفاسدة حللاً زاهية، حتى تصبح هي المقدّمة
على ما سواها..أضحك بحنق حين أستمع بعض الزعماء أو الوزراء
أو حتى السفراء، وهم من العرب بطبيعة الحال، يرددون المقولة
الخائبة بأنهم نالوا وسام العمودية، فأصبح أحدهم يفاخر
بأنه عميد الرؤوساء والملوك العرب.. وكان سفير خليجي يقول
في التسعينيات بأنه أصبح عميد السفراء العرب في لندن.
واليوم لدينا وزير خارجية، الأمير سعود الفيصل، تولى وزارة
الخارجية منذ سنة 1975 حتى اليوم. ورغم أن أمراضه لا تعدّ
ولا تحصى، وتداهمه من كل الاتجاهات ومن بينها رقبته التي
تحوّلت الى ما يشبه بندول الساعة. الرجل أجرى عدداً من
العمليات الجراحية في العمود الفقري، وتكشف حالته الصحية
عن ضعف شديد في القيام بمهام وزارة ناشطة كوزارة الخارجية،
ولكنه مع ذلك بقي وزيراً يزاول مهامه، وإن طالت (فترة
النقاهة)..
عقلية مرضى تلك التي تجعل الأمراء في مناصبهم إلى أن
يزورهم عزرائيل عليه السلام للمرة الأولى والأخيرة..فكم
من أمير زاول مهامه من ثلاجة الموتى، لأن الإجماع كان
منعقداً داخل العائلة المالكة على تأجيل إعلان الوفاة
الى حين يتم ترتيب أمور (التوريث والتنصيب والمحاصصة)..
مشهد، لاريب، يثير المقت ذلك الذي حكم البلاد ما يقرب
من عقد كامل (1996 ـ 2005)..ملك مقعد مثل فهد، فاقد للحواس،
لا يعقل من أمره شيئاً، يتصرف كالأطفال ويعيش أوضاعهم،
ومع ذلك فإنه يدير شؤون البلاد والعباد دونما إحساس بوجود
ثمة خطأ..فماذا يجري لو أن مجنوناً حكم الناس؟! ماهو مستهجن
ذوقاً، وعقلاً، وقيماً، يراد له قهرياً أن يكون مألوفاً
بل وطبيعياً، طالما أن شؤون البلاد موكولة الى أهل الحكم.
المرض ليس عائقاً للسلطة، فقد كان عبد العزيز يدير
الدولة من على كرسيه المتحرّك، وسنّ بذلك عرفاً في العائلة
المالكة بأن المرض مهما بلغ مبلغه في جسد الملك والأمراء
الكبار، فليس لأحد سوى عزرائيل أن يحسم الموقف..ومن الطريف
أن الملك فهد كان يتبادل من ثلاجة الموتى رسائل مع الأحياء،
وقد هدّد شقيقه الأكبر سلطان ولي العهد الحالي ووزير الدفاع
والطيران والمفتش العام حفظه الله في أيامه الأخيرة، بنات
أخيه فهد بعد أن فارق الحياة بأن لا تهرب دمعة من عيونهن
فيراها الناس في الخارج فينتشر خبر وفاته، فبقي سر الوفاة
مكتوماً لمدة أسبوع، وجلالة الميت يواصل الرد على رسائل
الزعماء والرؤساء في العالم لتهنئتهم بمناسبة اليوم الوطني
لبلادهم، والتأكيد على العلاقة الأخوية والانسانية مع
الدول الصديقة والشقيقة..
الامير سلطان، أبو الكلام والأسوار والمال الحرام..
والسلام، ذهب للفحوصات الطبية الروتينية، كما هي عادة
مرضى العائلة المالكة من الكبار، وتبيّن بعد شهر واحد
أن الفحص الطبي مكافىء للسرطان، فالرجل عانى مراراً وطويلاً
من هذا المرض. ولكن رحلته الأخيرة التي بدأت قبل أكثر
من عام، كانت مختلفة، بعد تسرّب أنباء عن تبدّد أمل شفائه
التام من المرض، وعجزت مستشفيات جنيف وأخيراً مايو كلينيك
الأميركية الذي وعد أطباؤها بعملية جراحية تأتي بمعجزة
الشفاء، ثم لما وصل الأمير سلطان الى العيادة تغيّر قرار
الطبيب المشرف على العلاج، وقرّر أن يعطيه جرعات ملطّفة
من العلاج الكيماوي ومن ثم الاشعاعي الى حين يتأهل لعملية
جراحية..شكوك كثيرة تحوم حول نبأ العملية الجراحية، لأن
تقارير سابقة ذكرت بأن الرجل غير قادر على تحمّل الجراحة،
وليس هناك من خيار أمامه سوى المسكنّات. وعاد الأمير مصحوباً
بالحشم والخدم الى أغادير المغربية في إبريل الماضي، من
أجل (الراحة والاستجمام)، وحال العباد أي حال! منذ عام
تقريباً، والحديث يدور داخل العائلة المالكة بأن سلطان
لم يعد قادراً على مزاولة السلطة، وسيبقى في منصبه حتى
الموت، ومن حسن حظ الأمراء أن السرطان يبعث كثيراً من
المصابين به الى القبر على جناح السرعة، وإلا لكان حاله
مثل شقيقه فهد.
كان تعيين الأمير نايف نائباً ثانياً للملك قد فهم
بأنه إخبار عن قرب رحيل سلطان عن دار الدنيا، ولكن هل
من يخبرنا عن صحة الأمير نايف؟ من ينظر إلى ساقيه ورجليه
يصاب بالذعر لتورّمهما، يضاف اليها أمراض السن، والأمراض
الوراثية مثل الركبة، والقلب، الذي قيل بأنه يعمل بجهاز
منّظم.
المشكلة لا تقتصر على المرض الجسدي، بل في الرؤى المريضة
التي تتعاطى حتى مع الأمراض بعقلية مختلفة. فلو كانت عائلة
متصالحة مع ذاتها لما تطلّب الأمر مثلاً ان يحكم فهد عقداً
كاملاً وهو فاقد لأهلية الحكم، ولو كانت عائلة منسجمة
مع نفسها لما أبقت الأمراء المرضى في مناصبهم بدءً من
ولي العهد الحالي ووزير الخارجية، دع عنك من أزكم فساده
أنوف الفاسدين من أمراء وأتباع..عقلية مريضة تحكم العائلة
المالكة، التي تحوّلت الى كيان مرضي، فأقامت دولة المرضى.
|