إقالة الشثري تكشف:
انقسامات حادّة في المؤسستين السياسية والدينية
عبد الوهاب فقي
لعلها حالة نادرة أن يظهر فيها صراع ونقد علني من المؤسسة
الدينية المعروفة بطواعيتها للنظام الحاكم الى رأس السلطة
السياسية (الملك) أو لأي من أمراء الأسرة الحاكمة الكبار.
ولعلها أيضاً حادثة نادرة أن يظهر الخلاف بين رجال
دين وهابيين كبار في الرأي فيما يتعلق بقضية فقهية/ سياسية
تحولت الى ما يشبه قضية رأي عام.
عضو هيئة كبار العلماء الشيخ سعد الشثري، أيّد جامعة
الملك عبدالله التي افتتحت مؤخراً، ولكنه بيّن رأيه في
موضوع اختلاط الدراسة، والمناهج. الموقف من الإختلاط والمناهج
معروف في التراث الوهابي، ولكن انتقاد الجامعة كان يعني
انتقاداً للملك عبدالله بالذات، الذي لا يكنّ له الوهابيون
الودّ كثيراً، ويفضلون الجناح السديري عليه. ولأن الجامعة
التكنولوجية تعتبر درّة التاج في إنجازات الملك، أو هكذا
سوّقت إعلامياً، لم يكن من الممكن السماح لأحدٍ بنقدها،
خاصة وأن موضوع الإختلاط سوّقه آل سعود مبكّراً لدى حلفائهم
الغربيين قبل البدء بإنشاءات الجامعة، وكأن الملك سيقود
البلاد باتجاه الحداثة والتحديث والتخفيف من إرث الدين
بطبعته السلفية الوهابية المتشددة.
كان يمكن قبول نقد المناهج، أو الدعوة الى الإطلاع
عليها ومراقبتها كما أراد الشيخ الشثري، مع أنها ـ أي
المناهج ـ في معظمها علميّة، ولا يعتقد أن بها مخالفات
عقدية من ذلك النوع الذي يستثير الوهابيين. لكن مسألة
الإختلاط في حرم الجامعة والسماح به قضية كبيرة في بلد
كالسعودية، وهناك حملات نقد مكثفة وكثيرة ضد هذا المفهوم
في التراث الوهابي الحديث كما القديم، وهو مفهوم مشحون
بالسلبية يقارب في معناه لدى الوهابيين معنى (الإباحية
الجنسية). ولذا كان من الصعب على مشايخ المؤسسة الدينية
أن لا ينقدوه، رغم أنهم في الجملة كفّوا لسانهم عن نقده،
اللهم إلا بعض المشايخ الثانويين. خاصة وأن النقد لم يكن
مغطّىً سياسياً بقوة من جناح السديريين، الذين صعب عليهم
أن يحموا شيخاً غضب عليه (خادم الحرمين) وإن كانوا يريدون
الذهاب أبعد مما ذهب اليه الملك، ولكن دون أن يتحملوا
تبعات ذلك، بل يستثمرون الأمر ضد الملك نفسه وتقليص صلاحياته
بضغط من المشايخ أنفسهم!
|
المطلق: عليكم بالسمع والطاعة
والدعاء! |
من المؤكد أن مشايخ المؤسسة الرسمية قد عبّروا للملك
عن رفضهم للإختلاط مبكراً، عبر مناصحته (سرّاً) كما تقتضي
الحكمة، وكما كان يريدها الملوك السعوديون، الذين يسمعون،
ولا يستجيبون. وهنا ينتهي الأمر، فقد أدّوا دورهم، وعليهم
تبعات السمع والطاعة بعد أن (نصحوا أئمة المسلمين)!
لكن نصيحة الشيخ الشثري كانت علنيّة في محطة المجد
الفضائية السلفية، وآل سعود، شأنهم شأن كل الطغاة، لا
يحبّون الناصحين، في العلن على الأقل، لأن فيه تهييج للعامّة
برأيهم، رغم أن فيه تبرئة للمشايخ بأنهم رفضوا الأمر.
ولذا طالب سائل الشيخ الشثري على الفضائية السلفية بأن
ينوّر الجمهور برأيه، وأن يعلن عن موقفه الصريح، وهو ما
دفعه لذلك، ودفع مقابله الثمن: تهجّم من الصحف عليه في
مقالات عديدة، ومنع وزارة الداخلية من الحديث عن الأمر
في الصحافة والإعلام، والإقالة للشيخ بسرعة البرق! ما
أبقى خبر الإقالة وتداعياتها حيّاً الى الآن، ولازال عدد
من المشايخ السلفيين يتحدثون علناً من منابر المساجد ضد
الإختلاط وضدّ العصبة الليبرالية العلمانية الفاجرة التي
زيّنت ـ برأيهم ـ لولي الأمر فعل ما فعل!!
ولأنّ الجدل لم يتوقّف حول الإقالة والإختلاط معاً،
رأى الشيخ عبدالله المطلق، عضو هيئة كبار العلماء، وضع
حدّ للأمر، وكأنه قادر على ذلك، فصرّح (الوطن، 10/10/2009)
مجيباً على سؤال حول الإختلاط ودور العلماء والناس: (دورنا
نحن نعرفه.. دوركم هو السمع والطاعة والدعاء للملك)! أما
الشيخ السديس، إمام الحرم المكي، والمقرّب من العائلة
المالكة، فقد امتدح جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية،
وبالغ بأنها ستعيد للأمة سالف مجدها!، ونصح نظراءه: (بأن
واجب القادة والعلماء ورجال الصحافة أن يباركوا هذه الجهود
الخيرة)، وحذرهم من أن يخوضوا في ما لم يتبين لهم أمره،
ومن ان ينساقوا خلف ما أسماه بالشائعات المغرضة.
مؤسسة دينية منقسمة كما العائلة
المالكة
وتأتي إقالة الشثري وليس استقالته في ظرف صعب تمرّ
به المؤسسة الدينية الرسمية، التي فقدت الكثير من رصيدها
منذ نحو عقدين، خاصة بعد وفاة الشخصيات الكبيرة مثل المفتي
الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين، اللذين استطاعا المحافظة
على قدر معقول من التواصل مع الجمهور ومع العائلة المالكة
على حدّ سواء. وقد بدأ تضعضع المؤسسة الدينية في عهد ابن
باز، وبالتحديد بعد عام 1990م، وظهور تيار الصحوة، وانشقاق
المجتمع الديني النجدي الوهابي الذي بدأ جزء منه بنقد
العائلة المالكة، وأخذ على المشايخ الكبار مداهنتهم لها،
وعدم الوقوف أمام أخطائها وخطاياها، ما جعل المؤسسة تفقد
بريقها، ويتحلل الجمهور من مواقفها السياسية، لتفرز فيما
بعد مجموعات القاعدة التي رأت قتال النظام الذي عدّته
كافراً، في حين رأته المؤسسة الدينية قمّة في الإيمان،
وأفضل الأنظمة في الوجود!.
وبمجيء المفتي الجديد، انحدرت مكانة المؤسسة الدينية
أكثر، وخسرت جمهوراً عريضاً من مؤيديها، لأن المفتي الجديد
لم يكن قادراً على الحفاظ على توازن معقول بين المؤسسة
والجمهور الوهابي من جهة والعائلة المالكة من جهة أخرى،
بحيث بدت المؤسسة ورجالها ومفتيها تابعين بشكل أعمى لما
تقرره العائلة المالكة، وصارت مجرد ختم لكل قراراتها المتعارضة
مع الدين أو مصلحة المسلمين.
وما فعله الشثري مجرد محاولة من بين محاولات الحفاظ
على التوازن الحرج: أن لا يفقد الجمهور وأن لا يخسر العائلة
المالكة، ولكنه لم يستطع ففلت لسانه وكان نصيبه الإقالة.
لكن الأهم من هذا، أن تلك الإقالة كشفت عن انشقاق أوسع
داخل المؤسسة الدينية المطواعة، فهناك من هو مصطف مع العائلة
المالكة بدون حدود، كالشيخ العبيكان (يمين اليمين)، وهناك
(يمين الوسط) كالمفتي، الذي هو أقرب الى العائلة المالكة،
وهناك من يقف (يسار الوسط) مع ميل لاستعادة الجمهور وزيادة
جرعة النقد للملك بالتحديد كما هو الشيخ سعد الشثري ومن
هم على شاكلته. من المؤكد أن الشيخ سعد الشثري، شخصية
داعمة للعائلة المالكة، ومن المتوقع أن يعيّن قريباً في
منصب آخر، ليتعظ من قرصة الأذن، كما من المؤكد أن الشيخ
الشثري بخطئه ذاك، قد جلب لنفسه دعماً في محيطه المحافظ،
فعلى الأقل هو تميّز بأن جهر برأي معروف لدى كل الوهابيين
بل كل السعوديين.
|
الشثري: تراجع ولكنه أُقيل
|
ولكن المهم في القضية هو ما إذا كانت إقالة الشثري
قد سببت صدعاً في العلاقة بين العائلة المالكة والمؤسسة
الدينية المؤيدة تقليدياً لها. الظاهر أن إقالة الشثري
جاءت لترويض المؤسسة الدينية، وتطويع من ينشز منها، وإن
كان نشوزه تافهاً، واتخذ صفة الدفاع عن الذات، وإعلان
براءة من أمرٍ لا يريد أن يتحمّل مسؤوليته، كما لا يريد
أن يعارضه، كما هو الموقف من الجامعة على لسان الشثري،
الذي اكتشف أن زلّة لسانه قد تكلفه منصبه، فحاول التراجع
وأصدر بياناً توضيحياً قال فيه أنه استدرج من متصل قطري،
وخفّف من موقفه من الإختلاط، بالقول أنه لم يركّز في الحديث
عليه، وعبثاً حاول المفتي والشيخ الشثري على مدار ثلاثة
أيام من تصريحه بإقناع شخصيات في الديوان الملكي بأن ما
جرى غير مقصود وأن الشيخ يعتذر وما أشبه، إلا أن الملك
رفض كل ذلك، وكان مصرّاً على تأديبه بالعزل، وليس الإستقالة،
أو حتى الإقالة (بناء على طلبه) التي قيل أن المفتي حاول
الحصول عليها لحفظ ماء الوجه.
المفتي من جانبه ومعظم تيار المؤسسة الدينية الرسمي
اكتفوا بالصمت تجاه الجامعة وقضية الإختلاط فيها. ليس
هذا فحسب، بل أن أحداً من رجال هيئة كبار العلماء (عددهم
21) لم يناصر الشيخ الشثري أو يقول بأن ما قاله كان صحيحاً
وأنه يؤمنون به، وهو فعلاً ما يؤمنون به. ما ترك الموضوع
للمزايدات بين مشايخ الطبقة الثانية (سليمان الدويش وعبدالعزيز
الطريفي) وكتاب الأعمدة في الصحافة المحلية ومنتديات الإنترنت.
وقد تؤدي الإقالة التي اعتبرت إهانة للمؤسسة الدينية
الى واحد من أمرين أو كليهما: تأجيج نقمة المؤسسة الدينية
على الملك، واتساع الخلافات بين العلماء الكبار حول الموقف
من بعض رجال النظام وسياساتهم، وكذلك توسيع رقعة الإنشقاق
داخل العائلة المالكة نفسها، فهناك من يعتقد بأن ما قام
به الشيخ الشثري مدفوع من قبل نايف والتيار السديري.
هناك بروتوكولات تفاهم تمنع شيوخ المؤسسة الرسمية من
ملامسة القضايا التي يحسمها الملك والأمراء الكبار مثل
الإذاعة والتلفزيون ومؤسسات الانتاج الفني التي تستقطب
عشرات الفنانات والراقصات، وحفلات السفارات الأجنبية،
ومساحة الحرية التي يحظى بها الأمراء والمسؤولون والتجار،
وكذلك الانظمة المصرفية والبنوك. ومثلها الشركات الأجنبية.
لكن ما قام به الشثري هو خروج عن (تقاليد) المؤسسة الدينية
التي يعينها الملك والتي تنحصر وظيفتها في توفير المبررات
الشرعية لمشاريعه لا أن تشق عصا الطاعة وتنقض أعماله!
لقد برهنت الإقالة بأن مزاعم الحكومة أنها لا تملك
(دالة) على المشايخ السلفيين من أجل تليين مواقفهم تجاه
القضايا التي يعطلونها أو تجاه الجماعات التي يحاربونها
تارة باسم نقاء العقيدة واخرى باسم محاربة العلمانية وتغريب
المجتمع، هذه المزاعم تبين أنها (خرافة) فالحكومة قادرة
ساعة تشاء على لجم هذا التيار وتحييده ومنعه من الخروج
عن الأطر التي ترسمها.
اليوم هذا التيار السلفي التقليدي وغير التقليدي المتحفز
لمحاربة كل ما يتعلق بالمرأة سيضطر وإلى أمد بعيد أن يغلق
فمه بشأن وجود مئات الطالبات الجامعيات من كل أنحاء العالم
وبينهن سعوديات في جامعة لا تبعد سوى 200 كيلومترا عن
مكة المكرمة. بعد أن كان بالأمس يطلب بواسطة النائب الثاني
للملك ووزير الداخلية الأمير نايف اذناً باقتحام الشاليهات
والفلل في (درة العروس) في جدة على البحر الأحمر التي
لا تبعد كثيراً عن الجامعة للتأكد من ان رجال الاعمال
الميسورين هناك لا يقومون بأعمال لا تقرّها هيئة الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر.
أما ما يتعلق باستخدام مشايخ الوهابية في الصراع بين
العائلة المالكة، فالمعروف أن التيار الديني المتشدد في
السعودية يجري التحكم به وإطلاقه كلما سنحت الفرصة لوزارة
الداخلية في (تأديب) أو (ترويع) طرف ما، فتارة يجري إطلاقه
لمهاجمة الليبراليين حتى لو كانوا وزراء كما حدث بالنسبة
للهجوم على وزير الإعلام والثقافة السابق إياد مدني ووزير
العمل الحالي غازي القصيبي. كذلك الهجوم على المثقفين
والاصلاحيين وتنظيم الحملات ضد الشيعة وضد الحجازيين وضد
الصوفيين وضد المرأة، وضد الخصوم الخارجيين كسوريا وإيران
وحزب الله وحركة حماس وحركة الإخوان المسلمين في مصر.
لكن حين يجري تحويل دفة الهجوم إلى رأس الهرم في السلطة
السعودية، إذا ما ثبت ذلك، فإنه يؤشر إلى أن الخلاف المستفحل
في البيت الحاكم قد بلغ الذروة، فالملك حسب التقاليد ليس
مجرد حاكم ولكنه أيضاً يرمز الى (شيخ) القبيلة الحاكمة،
وهو يستمد سلطته من وجوده على سنام التراتبية داخل العائلة
بإعتباره (شيخاً)، وليس فقط باعتباره حاكماً يملك زمام
السلطة، فلماذا جرى خرق هذه الأعراف في الهجوم على الملك
ومحاولة إضعافه وحتى تحقيره؟.
الجديد في هذا الهجوم أنه يأتي في وقت حرج، فمحاولات
ترتيب البيت السعودي تمر في مرحلة دقيقة، فالصفّ الأول
من رجال الحكم تقريباً باتوا خارج الخدمة بسبب التقدم
في العمر أو المرض، على رأس أولئك ولي العهد الذي يتعالج
منذ سنتين من ورم سرطاني مستفحل، جعله بعيداً عن ممارسة
مهامه ومقيماً في أغادير بالمغرب، وكذلك الحال بالنسبة
لرئيس هيئة البيعة الامير مشعل بن عبد العزيز (86 عاماً)
الذي هو الآخر تتردد أنباء منذ تغيبه عن الأنظار بعد رمضان
المنصرم بإصابته بجلطة، ومثله نواف المصاب هو الآخر بجلطة،
والأمير نايف الذي تمكّن من انتزاع منصب النائب الثاني
ويطمح لازاحة الملك، وهو الآخر يبلغ من العمر نحو (78
عاماً) ويصغره بعامين أخوه الشقيق المتطلّع للعرش سلمان،
وقد تواترت أنباء عن محاولة لعزل الملك صمّمها نجل وزير
الدفاع وولي العهد الأمير بندر بن سلطان السفير السابق
في الولايات المتحدة، حيث تم فرض اقامة جبرية عليه قبل
صيف العام الحالي.
|