دولة التسامـ(؟)ـح!
في طريقي الى مطار هيثرو بالعاصمة البريطانية، لندن،
دار حديث عفوي مع سائق التاكسي، من أتباع الديانة الهندوسية،
ولربما كان للسحنة الشرقية التي تجمعنا دور في إشاعة جوٍ
من الألفة وسهولة التخاطب. لا أدري على وجه الدقة مقدح
شرارة الحديث في التسامح الديني، ولكنني مازالت محتفظاً
بصورة ذلك اليوم الماطر، وغالبية أيام لندن ماطرة، وكنا
مررنا بجوار معبد هندوسي، فراح يخبرني عن عدد المعابد
الهندوسية. وبدا لي أن الرجل من المواظبين على أداء الطقوس
الهندوسية، لغزارة معلوماته، واهتمامه بأوضاع الجالية
الهندوسية.
أول المفاجئات كانت معلومة ساقها لي وتحقّقت منها لاحقاً
أن في منطقة تضم جالية هندوسية هناك 11 معبداً في محيط
لا يتجاوز مساحته نصف ميل مربع، وهناك 100 معبد في لندن
وحدها، و300 معبد في بريطانيا. ثم انتقلنا الى العمال
الهندوس في بريطانيا، ولأننا كنا متوجّهين الى مطار هيثرو،
فاختاره مثالاً للحديث عن حجم العمالة الهندوسية في هذا
المطار، فقال بأن 35% من القوة العاملة في مطار هيثرو
هم من الطائفة الهندوسية.. وهنا بدأت تندلع الاسئلة في
سريرتي حول أوضاع المسلمين في بريطانيا.
سألت أحد الخبراء في مساجد المسلمين، فقال لي بأن هناك
1600 مسجداً في بريطانيا، فقلت في نفسي: ما بال بعض العلماء
يحرّمون الهجرة الى بلاد يصفونها بالكفر، بينما يتمتّع
فيها المسلمون بحرية العبادة أكثر من بلدانهم. وعادت بي
الذاكرة الى سنوات خلت، حيث استحضرت أوضاع المسلمين في
بريطانيا على مستوى المراكز الدينية والعلمية والاعلامية،
فوجدت ما يذهل.
وأول ما تذكّرت، بحكم المهنة، أنه في بداية التسعينيات
من القرن الماضي كانت هناك 12 جريدة عربية يومية، أي ما
يفوق ما تصدره أي عاصمة عربية من الجرائد اليومية في ذلك
الوقت، بما جعل لندن عاصمة للصحافة العربية، حتى أغرى
بعض الصحف العربية الكبرى بأن تفتح مكاتب لها في العاصمة
البريطانية للدخول في سباق مع الجرائد التي ولدت في لندن.
بطبيعة الحال، لم نذكر أعداداً لا تحصى من المجلات العربية.
واليوم هناك اكثر من خمس صحف عربية يومية تصدر من لندن،
دع عنك الصحف العربية بطبعات دولية أو صحف شرق أوسطية
إيرانية وتركية، وصحف باكستانية وهندية وغيرها.. هذا غير
المدارس والمراكز الاسلامية والعربية.. يضاف إليها عشرات
القنوات الفضائية التي خصّصت جزءً رئيسياً من ساعات البث،
وفتحت استوديوهات للتصوير والبث من العاصمة البريطانية.
أمام هذا الثراء الاعلامي والثقافي والديني، تذكّرت
مقولة لأحد فلاسفة حقوق الإنسان، بأنه بات لدينا فائض
من الحقوق، وقد نضطر الى التنازل عن بعضها. هناك اليوم
مئات المنظمات الحقوقية التي تغري أصغر مخلوق في هذا الكون
للمطالبة بحقوق خاصة به، ولو قدّر للحجر أن ينطق لفرض
على المشرّعين إصدار لائحة قانونية تنصّ بصورة محددة وصريحة
على احترام حقوقه.
لا نسرد ذلك على سبيل تمجيد الغرب، ولا التسليم بكل
سياساته، ويكفي ما اقترفته بريطانيا من جرائم سياسية وعسكرية
في مناطقنا، بل ونحمّلها مسؤولية تاريخية وإنسانية وأخلاقية
لما نجم عن سياساتها من ولادة أنظمة شمولية، من بينها
النظام السعودي الذي ظهر للوجود بدعم بريطاني. فهذا أمر
يجب ألا تغفله بريطانيا ولا القوى الاستعمارية التي جرّت
ويلات على مناطقنا ومازالت شعوب الشرق الأوسط تتجرع كل
يوم مرارة تلك الحقبة المظلمة، بوجود أنظمة لا تعرف غير
القمع سبيلاً للتعامل مع شعوبها.
مع ذلك كله، نقرأ في سيرة النظام السعودي منذ ولادته
سنة 1932 في مجال الحريات الدينية والفكرية والعلمية ما
يؤكّد ما قاله علماء المسلمين منذ قرون بأن الحاكم العادل
الكافر أفضل من الحاكم الظالم المسلم، رغم أننا لا نصرف
ذلك الى بلدان الغرب، لأن الكفر والايمان ليسا معيارين
ثابتين، فضلاً عن كونهما من اختصاص الخالق وليس المخلوق.
على أية حال، فإن قصص الإرهاب السعودي على قاعدة دينية
أو فكرية سمة رافقت الدولة السعودية منذ نشأتها حتى اليوم.
فكم عالم دين في الحجاز قضى نحبه غدراً أو قتلاً لأنه
رفض اعتناق المذهب الوهابي، وكم مسجد هدم في الحجاز بمعاول
التطرّف السلفي، دع عنك إغلاق المدارس الدينية في الحجاز
أو المناطق الأخرى، وكم كتاب تم منعه من الطباعة أو حتى
استقدامه من الخارج لأنه مخالف للعقيدة الرسمية.
ما حدث، في واقع الأمر، هو عملية تأميم شاملة للمساجد،
فلا مساجد رسمية إلا تابعة للمذهب الوهابي الرسمي، ولا
مدارس أو جامعات دينية إلا ما كان عليها علماء وهابيون،
وحتى خطب الجمعة، والخطابات العامة، والدروس الدينية،
والكتب، والصحف والمجلات وكل وسائل الاتصال الجماهيري،
كلها باتت خاضعة لقرار التأميم. ومن يخالف ما أجمع عليه
علماء المؤسسة الدينية ورجال السلطة السعودية تناله سياط
التكفير، والتبديع، والتخوين.. مرة بإسم الدين وأخرى بإسم
الوطن المزعوم، وقد تطاله عقوبات السجن وربما الإعدام.
هل تغيّر الحال بعد أن رفع الملك عبد الله شعار التسامح،
والحوار الوطني، والحوار بين الأديان؟ إسئلوا أهل الذكر
عن ذلك كله إن كنتم لا تعلمون الإجابة، واطلبوا من ضحايا
القمع والارهاب شهادات نزيهة عن حالهم، إن أصبحوا أحراراً
من قبضة الواحدية، أو صاروا يبنون المساجد، ويفتتحون الجامعات
والمدارس، وينعمون بحريات التعبير والنشر، ويحصلون على
وظائف وفق مبدأ الكفاءة وليس القرابة (العائلية والعقدية)؟
إسئلوهم فهم أقدر على إخباركم بما تبدّل، إن تبدّل شيء
مما ذكرنا.
|