إلماعات على مملكة خاوية
عبد الوهاب فقي
مهما سيقال، فإن تجربة الأربع سنوات الماضية من عهد
الملك عبد الله تجعلنا نثبّت الحقيقة التي كانت حتى وقت
قريب مكتومة لأجل غير مسمى، بانتظار ما ستسفر عنه وعود
الملك الإصلاحي زعماً، بأن الاصلاحات لم تكن في يوم ما
أولوية في أجندة النظام، فهي، أي الإصلاحات، تأتي دائماً
كرد فعل على ضغوطات داخلية أو توّترات إقليمية. في ظروف
التحوّل الإنتقالي للدولة السعودية في النصف الأول من
القرن الماضي، كانت هناك تجارب يمكن وصفها بأنها (إصلاحية)
من حيث الشكل لا المضمون، مثل إقامة مجلس شورى في الحجاز،
ولكن مالبثت التجربة أن ماتت بسكتة سياسية وطوي موضوع
(الشورى) على وجه السرعة مع استكمال الملك عبد العزيز
تدابير إحكام السيطرة على الحجاز بصورة كاملة.
ثلاثون عاماً من الوعود بالإصلاح لم تسفر سوى عن خيبة
وخواء، قدّمه النقيض مع كل ماهو صلاح وإصلاح ممثلاً في
الملك فهد في مارس 1992. جاء بثالوث من الأنظمة (الاساسي،
الشورى، المناطق)، بعد أن خاض جولات مكثّفة لتقديم صياغة
بحد الشفرة، وكما يقول أشقاؤنا المصريون (ماتخرّش الميّه)،
لتخرج مفصّلة بمقاييس دقيقة على جسد الملك والعائلة المالكة،
وكأن الثلاثين عاماً من النضال السلمي والحراك الشعبي
تستهدف المطالبة بترسيخ أسس الاستبداد، وصون حقوق العائلة
المالكة، وضمان حريتها في أن تحكم العباد والبلاد حتى
القبر.
* * *
في عهده الميمون المصحوب بموجات عالية من الآمال، طمعاً
في ولادة تاريخ جديد لهذا الكيان المعتوه، غمرت الوعود
الناس حتى غرقوا فيها، وتسلّلت دابة الأرض إلى عكّازة
الأمل، ولم يقع صاحبها ولكنه اختفى فجأة من المشهد. فمنذ
أصبح ملكاً في العام 2005 قرر الإصلاحي العابر للأزمنة
والأمكنة التحرر من دعوته الاصلاحية، وعاد ليرتدي حلّة
التفرّد العائلي بالسلطة، وبدا مهجوساً بإعادة بناء صورة
المملكة عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر. فأبدع، من غير
ملكة إبداع أصيلة، مبادرات مثل مشروع السلام الذي قدّمه
في القمة العربية في بيروت العام 2002، وأعقبها بسلسلة
مبادرات حوارية بدأت بالحوار بين علماء المسلمين، وانتقل
الى الحوار بين الاديان في مدريد ونيويورك العامي 2007
و2008.
على المستوى المحلي، ودون النظر في الحملة الدعائية
التي قادتها الامبراطورية الاعلامية السعودية ووسائل إعلامية
غربية تتغذى على المال النفطي، فإن آمال الناس تبدّدت
في الاصلاحات التي تأتي على يد الملك منذ مارس 2004.
* * *
سؤال كبير يصغر ويتلاشى في آخر النهار: بماذا تميّز
عهد الملك عبد الله عن غيره؟
|
مملكة العاطلين! |
أول ما يلفت الانتباه أن ثمة ضجيجاً واسعاً رافق هذا
العهد، وسمع الناس جعجعة ولم يرو طحناً، فقد سئموا من
وعود فارغة، حتى سئم مطلقها منها فتخلى عنها، وترك لـ
(كتّاب العملة) مهمة التطبيل والتزمير لها بحسب الموجة،
فما يرفضه الملك يكون مرفوضاً بالنسبة لهم، ومايقبله يحظى
بقبولهم، فهم رهن إيماءة الملك وعلية القوم في العائلة
المالكة..
لم يتغيّر شيء في هذا البلد، لأن إرادة التغيير مفقودة
في مكان ما..
الأنكى من ذلك كله، حين يتشوّه معنى التغيير، ويصبح
تبدّل الاشكال تغييراً..
ملك يملك كل شيء الا التغيير، رغم أنه يتقن رطانة التغيير
بغير لغة..
يثير الإعجاب حقاً، مشفوعاً بجرعة حماقة مختمرة، أولئك
الذين يتحدّثون عن حكمة الملك، ونزعته الإصلاحية والتقدّمية،
وربما الحداثوية، حين تتصعّد حمى الدفاع الغرائزي، المصحوب
بمصلحة شخصية..
ليس أسهل من أن يصنع من الديكتاتور ديمقراطياً في شرقنا
البائس، ولكن من الصعوبة إقناعه بأنه قادر على لعب دور
من هذا القبيل..
* * *
ما لم يحدث تغيير جوهري في الأيديولوجية المشرعنة للدولة
السعودية، وهي أيديولوجية قائمة على المذهب الوهابي وكذلك
مزعم الحق التاريخي للعائلة المالكة بحكم البلاد، فلا
إصلاحات جوهرية متوقّعة.
وقبل الحديث عن الإصلاحات لا بد أن نثبت وجود إصلاحيين
داخل العائلة المالكة..
فقد تم تصوّير الملك عبد الله على أنه رائد الإصلاحات
في المملكة. وعلى أية حال، حين نتأمل عن قرب في الإنجازات
المزعومة التي حققها الملك عبد الله في مجال الإصلاح،
سنخرج بلا شيء حقيقي يمكن تصنيفه على أنه إصلاح.
فالمرأة لا تزال غير مسموح لها بقيادة سيارة، ولا السفر
بدون محرم ذكر من الأقارب، ولا أن تكون عضواً في مجلس
الشورى المعيّن، أو حتى في المجلس البلدي نصف المشلول
وظيفياً، والكسيح إنتخابياً. وليس لها الحق في أن تكون
قاضية، فضلاً عن أن تكون وزيراً..
وحتى الآن، ليس هناك حرية صحافة، ولا منظمات مجتمع
مدني مستقلة، ولا حرية تجمعات، ولا أحزاب سياسية..
وحتى الآن، ليست هناك انتخابات مستقلة وكاملة ونزيهة
لأعضاء مجلس الشورى، وحتى إنتخاب نصف أعضاء المجالس البلدية
قد تم تأجيلها لمدة عامين، في ظل أنباء عن إلغائها بصورة
كاملة..
وحتى الآن، فإن أوضاع حقوق الإنسان في المملكة هي الأسوأ
على مستوى العالم، وليس هناك نيّة بالسماح لمنظمات حقوقية
أهلية بالعمل بصورة رسمية..
* * *
حين تتبخّر الآمال في بزوغ فجر الإصلاح، يصبح اليأس
أول مولود على غير الفطرة، وحين يتكاثر أعداد اليائسين
تتآكل هيبة الدولة، والثقة في رجالها، والالتزام بقوانينها،
فلا يرى الناس فيها سوى كيان وهمي، يسهل خرقه، ويستهان
بوجوده، وإن حشد من (كتّاب العملة) أضعاف من سبقهم في
زمن كانت فيه الدولة قوية ومهيبة، فالهيبة لا تُصنَع بالأوهام
والأعمال الزائفة، بل بالمواقف النبيلة للطبقة الحاكمة،
شأن الولاء الذي لا يخضع للمساومة الهابطة، وليس بالبضاعة
التي تشتري مقابل ثمن، مالم يكن مصمماً لخدمة أغراض عابرة..فهل
رضخت العائلة المالكة لمنطق قديم إستخدمه عبد العزيز عن
الدولة التركية حين وصفها بـ (الدولة الراحلة)، فقبلت
بالمصير الحتمي لملكها العقيم؟
* * *
ليس كل ما ينطق في الدولة وأجهزتها يصدر عن حقيقة،
فقد تكون زيادة الأصوات دليلاً على كثرة الزيف..بل قد
تخبر عن فوضى في لحظة مخاضها الأول، وقد تتحوّل إلى عملية
تذرر غير منضبطة في ظروف أخرى حين يصبح جسد الدولة مساحة
سائبة لكل من تطالها ذارعه..هل استهدى أحدكم على جذر الإرادة
القتالية المعدومة لدى الجندي في الجيش السعودي؟ هل من
أحد يخبرنا عن عجز الضجيج الوطني الفارغ في صنع اصطفاف
حتى وإن كان شكلياً خلف الحكومة حال الأزمات المحدقة بها؟
ولماذا يصبح اللاوعي لدى غالبية الأفراد مرشداً ناشطاً
على لاجدوائية التضحية من أجل شيء يرتبط بالعائلة المالكة؟
* * *
الفوضى سمة عامة في الدولة السعودية، وفسادها معلم
رئيس على خوائها، ولا يمكن تخصيب أنوية الولاء في بيئة
|
بيت مواطن في الجنوب حيث
المعارك قائمة الآن! |
فاسدة..ومن بؤس الطبقة الحاكمة أن تعطب مؤسسات التوجيه
الأيديولوجي، المسؤولة عن صنع وعي وطني أو حتى ثقافي لتحصين
الدولة من التفكّك..حين يصبح الرأسمال الرمزي للدولة ملوّثاً
بالفساد، لا يعود هناك قيمة يمكن الدفاع عنها، ولا فرق
حينئذ بين مسؤول في الدولة، أو رجل دين، أو كاتب في صحيفة
رسمية، أو حتى حارس على بوابة مؤسسة حكومية..إن التفسير
المباشر للمواقف هذه هو أن الفساد العام لا يدع بريئاً،
ولذلك لا ينظر الناس بعين فارزة بين الفساد والنزاهة حين
يكسو الفساد جسد الدولة. ولأن الفوضى بنت شرعية للفساد،
فإن الناس تعبّر بقدر ما يسمح به الظرف القائم عن رد فعلها
على الفساد باعتماد الفوضى، الذي يأخذ شكل مشاغبات فردية
وجماعية عبر تحطيم زجاج المحلات أو لوحات الإعلانات التجارية،
والكتابة على الجدران وتخريب اللوائح الارشادية في الشوارع،
وتكسير الأبواب، وخرق قوانين المرور، والتلاعب في العقود،
وتقديم الرشى لموظفي المؤسسات الحكومية ذات الصلة بالمصالح
العامة مثل البلديات، والجوازات، والعمالة الوافدة، والمحاكم
الشرعية والتجارية.. وعلى مستوى المؤسسات الحكومية الكبرى،
ثمة أشكال فساد متشعّبة تتنزّل أصداؤها إلى المستويات
الدنيا فتحدث ارتدادات أفقية واسعة على أداء الموظفين
الصغار الذين يقتفون أثر الكبار في فسادهم..هل سيكون للجنة
النزاهة أو مكافحة الفساد دور يذكر حين يصبح الفساد قانوناً
وطنياً؟
* * *
مازال السؤال الحائر يطرح مرة بعد أخرى عن مصير المداخيل
الفلكية من بيع النفط، ولماذا لم تنعكس رفاهاً، وازدهاراً
اقتصادياً، وتحسّناً في الأوضاع المعيشية، وزوالاً لظواهر
الفقر والبطالة؟ ولماذا في عهده الميمون ظهرت قصص لجوء
العاطلين عن العمل في الداخل للبحث عن وظائف في دول مجلس
التعاون الخليجي حتى صارت مكاتب العمل في الكويت وقطر
تستقبل آلالاف من حاملي الملفات الخضر من الشقيقة الكبرى،
كما سمعنا في عهده الزاهر عن قصص مواطنات تعمل خادمات
في بيوت عائلات قطرية، بل في عهده الذهبي تزايد أعداد
مرتادي العيادات النفسية لأسباب اقتصادية..وهل من يخبرنا
عن صندوق الفقراء، ومساكن الفقراء، ومقابر الفقراء؟
قيل عنه ملك الإنسانية، فلم يغادر المعدمون خط أنين
رسمته سياسات الادقاع بإنسان وطن الفقراء. نداءات الاستغاثة
لا تتوقف الى (ملك الإنسانية) هذا، الذي لا يسمع ولا يرى
ولا يتكلم للقيام بمبادرة إعجازية أو عمل خارق لإنقاذ
المسحوقين تحت سنابك السياسة الغاشمة..ليته أوقف هدر النعوت
بلا طائل، فقد أوقدت الآمال الخاوية حريق الحسرة في قلوب
اليائسين من خروج ملك الانسانية الغائب عن صمته ولو للحظة..يبدو
أن الصمت تاج على رأس ملك الإنسانية الذي يحيط نفسه بهالة
من قدسية الصمت المهين، وعلى كتائب الدعاية المخزية أن
تعجن من صمته صورة البطل الوهمي، الذي يأتي بأوهام النصر..وهنيئاً
لملك الأوهام.
* * *
مملكة لا يرجو أحد منها خيراً، وتموت فيها الأحلام
سريعاً.. يشعر فيها الفرد وكأنه بلا كيان، بلا مستقبل،
وبلا مصير معلوم..فكل شيء ينذر بمفاجأة غير سارة، وحتى
الأمراض باتت شريكاً وطنياً بلا منازع، فانتشار الأمراض
الوبائية والنفسية والأورام ليس سوى مرآة لانتشار الفوضى
في جسد الدولة. تخلّت الأخيرة عن رعاياها في شدائدهم،
ومن المؤكّد أنهم يتخلون عنها في شدائدها، فسياسة التعامل
بالمثل وحدها المتداولة بين الحاكم والمحكوم في بلد لا
يعرف فيه المسؤول معنى المسؤولية، ولن يعرف فيه المحكوم
معنى الولاء الزائف.
|