إنسداد الأفق السياسي
معالم في طريق الإصلاح
فريد أيهم
حالة الجمود وإن شئتم الترقب التي يعيشها سكّان هذا
البلد بانتظار فرج قادم من أي جهة في الكون، تشكّل إحدى
تعبيرات اليأس من بزوغ فجر الإصلاح السياسي، فالأصوات
الراشدة في هذا البلد والمطالبة بوضع الأجندة الاصلاحية
كما صاغتها عرائض صادرة من مختلف الطيف السياسي والاجتماعي
حيز التنفيذ، خبت رغم أنها أكّدت بأن الاصلاح السياسي
خيار الضرورة والحاجة، يجمع على ذلك القطاع الواسع من
السكان.
وهناك من يجادل اليوم بأن الجدل الاصلاحي تمخّض عن
لا شيء، فالبلاد لم تعد قابلة بالاحتفاظ بخط سير تراكمي
في التغيير، فإن الظروف الداخلية بكل تفجّراتها المعلنة
والكامنة لا تمنح الزمن الكافي للدخول في عملية إصلاحية
بطيئة ومتدرِّجة، فإن المشاكل الحادة التي تعصف بالمجتمع
تسقط خيار الوقت، وتجعل من الإنتظار والصبر من أجل تقديم
حلول مقطّرة ومبتسرة وأحياناً كثيرة مخيبة للآمال رهاناً
مدمّراً، خصوصاً وأن أوضاع البلاد مرشحة للتدهور والانفلات
في ظل إنسداد آفاق الأمل والخروج من النفق. هذا مع ملاحظة
أن الظروف السياسية الاقليمية والدولية التي لا تقل خطورة
تسير في الوقت الراهن على الضد من رغبة شعوب ودول المنطقة.
بمعنى آخر، إن مجمل الاوضاع الداخلية والخارجية تفرض ضغوطاً
شديدة على الدولة كيما تبدأ تغييرات جوهرية بصرف النظر
عن تداعياتها المستقبلية، فهي مهما بلغت من الخطورة ستكون
أقل مما هي عليه المكاسب المرجوَّة من الاصلاح، إن لم
تكن الاضرار المتوقعة مبالغة وخصوصاً في جانبها السياسي.
فالانشغال بهاجس الانعكاسات السلبية للاصلاح، والمخاطر
الناجمة عنها ومن ثم التفكير في كيفية التحكم والسيطرة
على العملية الاصلاحية قد يفضي بمرور الوقت إلى سلب إرادة
القيادة السياسية، وحينئذ تصبح الأخيرة غير قادرة عملياً
على التحكم بالدولة نفسها. فالوهن الذي أصاب القيادة السياسية
هو بفعل التردد المزمن في خوض غمار العملية الاصلاحية
المتوازنة والمتوافقة مع روح العصر وحاجات السكّان ومطالبهم،
وهو ذات السبب ـ أي التردد المزمن ـ الذي ساعد على بروز
قوى سياسية شبه منظمة وهكذا ظهور إتجاه راديكالي يتوسّل
العنف طريقة في التغيير بقوة السلاح والشاحنات المفخخة.
إن مصداقية العائلة المالكة وجديتها في الشروع بالاصلاح
الشامل والجذري سيما مع كثرة الوعود وهزالة مضامين القرارات
الخاصة بالاصلاح تصدّعت ولم يعد هناك من سبيل لترميمها،
وهي تترك تأثيرات سلبية على الموقف الشعبي من الاسرة المالكة،
بالنظر الى التدهور المتواصل في أوضاع السكان الاقتصادية
والأمنية، وتفشي الفساد في صور شتى داخل الدولة. بكلمات
أخرى، أن العائلة المالكة فقدت رصيدها المعنوي والرمزي،
ما لم تتداركه بقرار عاجل في الاصلاح يوقف مسيرة تدهور
الأوضاع الداخلية ويحفظ جزءً من المكانة المتآكلة بوتيرة
متسارعة.
هناك حالياً شيء من الممارسة بطابع عصري وتعددي، ولكن
يجب أن نضع هذه الممارسة ونحدّدها في إطار التكيف مع قوانين
التغيير الاجتماعي. فبين نبرة الحنين الى الماضي والنزعة
الحداثوية المسلوبة نقف على قارعة خيارات حائرة، بين إعادة
إنتاج المعاصرة لفترات منتقاة من الماضي، وبين التماهي
مع نموذج الدولة العالمية كما بشّرت به دول غربية وخصوصاً
الولايات المتحدة وبريطانيا.
ورغم وجود اجراءات أكثر كفاءة من الناحية التقنية حالياً
في الاتصال بالجماهير، إلا أن ذلك لا يعني سهولة نقل المجتمعات
من حال الى آخر، فالسياجات العازلة للمجتمعات قد جرفتها
سيول العولمة بنزوعها الكولونيالي، ولم يعد هناك سيطرة
تامة على داخل يهب عليه الاعصار من كافة الأرجاء، ولنا
في سيول جدّة خير مثال على عجز الدولة على احتكار مصادر
المعلومات، فقد بات السكّان شركاء منافسين في صنع الخبر
وتعميمه.
تكويناتنا المعقّدة اثنياً وأيديولوجياً تهدي الى درجات
الاستجابة المتفاوتة لنداء الاصلاح، ولكنها لا تنفصل بحال
عن قوى وظروف التغيير في الداخل والخارج. فنحن هنا لا
ندير عالمنا بصورة منفردة ومستقلة عما يجري حوله من خضّات
ثقافية وسياسية. فالتكييف المريح لعالمنا مع خارجه بات
تطلعاً محفوفاً بالاخفاق الذريع، خصوصاً حين يكون حجم
استثمارنا في المشروع الاصلاحي متوقفاً على الفائض الاضافي
من الوقت والجهد.
من جهة ثانية، إن الدول كما المجتمعات لا تتحول بعريضة
ومقالة حذرة، فيما الانجرافات العنيفة تهدم كل حدودنا
وسدودنا. وتكفينا تجارب الجوار مؤونة التدليل على الاستثمارات
الضخمة التي أودعها دعاة الاصلاح في مشاريع التغيير..
من أمنهم، ومالهم، وأحياناً مصيرهم. فماذا أودعنا نحن
في مشروع اصلاحنا؟
فيما يتعلق بالهم الإصلاحي، أن ثمة هدماً بين حدود
الداخل والخارج ضروري حتى لا نخضع لامتحان النوايا وكشوفات
الحساب السياسي. فنحن نتحاور داخل حدود الإقليم الذي نعيش
جميعاً على ترابه وليس خارجه، بالمعنى الايديولوجي والجيوبوليتيكي،
وهذا يمنحنا العذر في أن نقول عن هذا الإقليم مقولتنا
دونما ابتذال ومزايدة.
نتفق مع القائلين بأن هناك غياباً لثقافة اصلاحية متجذرة
بتعبيراتها الجامعة. والسبب في تقديرنا يعود الى أن الوطن
ظل غائباً في السياسة فغاب تبعاً له في الفكر، والأدب،
والشعر.. فالوطن منتج أمة والدولة مولود منها، وحين تشكل
المولود خارج رحمه أضعف معه الإحساس بأصول نشاته. ولكن
هل بتنا الآن جاهزين لاعادة تشكيل وطن يحمل صفاتنا الوراثية،
وينقلنا الى الدولة الوطنية المكتملة التكوين؟ نعتقد بأن
ذلك ممكن بشرط أن نكون مؤهلين ثقافياً ونفسياً للقبول
بمتطلبات الوطن بكل شروطه وخصائصه كما يخبرنا بها فلاسفة
السياسة وعلماء الاجتماع السياسي.
|
جنازة الإصلاح! |
الكل يبحث عن وطن تسري فيه روح عامة، يتقاسم فيه الرغيف
والهم والمصير، ويقع فيه الأفراد متوحدين على أرضه، ويشترك
الجميع في غنمه وغرمه، ويتبادل فرحته وحزنه. ما كتب حتى
الآن عن الوطن هو النزر اليسير، لأن الاحساس به ضيئل،
ولكن حين يكثر الباحثون عنه سيزداد الحديث عنه. فالوطن
يؤسس بنيانه في المشاعر قبل التراب. ولا بد أن يفصل الوطن
عن مترادفاته في البيان السياسي الرسمي، لأن الوطن لم
يستكمل البناء في المشاعر حتى يتحول الى سلوك، وأجندة
سياسية، واستراتيجية عمل وطني. فقد خاب مهندسو الخطاب
الوطني عن تقديم وصفة جامعة ومغرية للسكّان، فزهد الغالبية
في تبنيه أو الشعور بوجوده.
هناك مهمة منتظرة من النخبة الاصلاحية كيما تؤسس لثقافة
وطنية قادرة على تعميق الوعي بالوطن لا كما يراد منه أن
يتحوّل الى وثيقة إتهام في الولاءات، بل كما ينبغي أن
يتحول الى قاعدة إجماع وانطلاق للمشروع الاصلاحي.
ولا يمكن أن لثقافة وطنية أن تتولّد ما لم تكن هناك
آليات حيوية قادرة على نقلها الى الأفراد، وهذا يستوجب
وجود الأحزاب السياسية المرخصة لمزاولة نشاطات سياسية
سلمية، وقادرة على طرح برامج بديلة عن برنامج الحكومة
للرأي العام، أو تتولد من المؤسسات التمثيلية مثل البرلمانات
بما يسبقها ويصاحبها من تحرك شعبي خلال الحملات الانتخابية.
رغم أن الفترة الممتدة من 1932 وحتى الآن شهدت ظهور
أحزاب سياسية وحركات إحتجاج معارضة للحكومة سواء كانت
محلية أو خارج الحدود، الا أن الحكومة مازلت ترفض الاعتراف
بهذه الأحزاب كواقع يجب التعامل معه والسماح له بالنشاطً.
ولذلك فإن الادبيات الحزبية الموجّهة في الأصل لتثقيف
الجمهور يتم تداولها بالسر، كما الحال بالنسبة لتنظيم
الأفراد.
وفي ظل إنعدام تجارب حزبية علنية أو مجالس برلمانية
حرة وديمقراطية، فإن مصادر الثقافة السياسية غالباً ما
تكون خارجية سواءً تكويناً ونشاطاً أو حتى توجيهاً. وبلا
شك فإن الثقافة السياسية في جانبها النظري بالنسبة للغالبية
العظمى من السكان تأتي عن طريق وسائل الاتصال الجماهيري،
حيث تمثل الاخيرة مصادر توجيه ثقافي لقطاع كبير من السكان،
ففي عام 2002 كان هناك 8 ملايين مستقبلاً للبرامج الاذاعية
و 5,8 مليون للتلفزيون، وقد تزايدت هذه النسبة بوتيرة
عالية، فيما دخل الانترنت كوسيلة اتصالية متقدمة تجتذب
نحو 7 ملايين زائر يومياً في المملكة. وليس ثمة حاجة للقول
بأن المواد السياسية المبثوثة عبر وسائل الاتصال هذه كفيلة
بخلق مناخات احتجاجية واسعة النطاق. وللتمثيل فقط، فقد
تنجح قناة مثل (الجزيرة) في تأجيج المشاعر القومية والدينية
لدى أغلبية السكان في المملكة ضد العدوان الاسرائيلي على
قطاع غزة، حيث وقعت خضّات شعبية متفرقة في مناطق متفرّقة
من المملكة. وهذا يثبت بأن الثقافة السياسية لدى السكّان
قد بلغ درجة من النضج تجعله مؤهلاً لممارسة الديمقراطية.
وفي سياق بناء ثقافة سياسية حيوية، يتفق منظرو الديمقراطية
على أن مؤسسات المجتمع المدني وحدها الكفيلة بتهيئة ظروف
نشأة وصناعة الديمقراطية وهي الضمانة الأكيدة القادرة
على حمايتها وصيانتها من غدر الدولة وأعداء الديمقراطية.
قدرة المجتمع على تخليق مؤسساته الأهلية بوظائفها المختلفة،
البعيدة عن سلطان الدولة، تؤهلها لامتلاك المبادرة في
تصنيع الديمقراطية وفرضها على الدولة بصورة تدريجية. ورغم
أن مؤسسات المجتمع المدني الحالية لم تستكمل بعد تشكيلاتها
النهائية، بحيث تأخذ أبعاداً ثقافية وسياسية واجتماعية
أفقية وعمودية، الا أن المؤسسات الحالية في هيئة نوادي
أدبية وثقافية ونسوية ورياضية وتجمعات شبابية أو لجان
حقوقية في شكلها الأولي وحتى مؤسسات دينية ومساجد ومسارح
وغيرها تؤكد الميول المتنامية لدى السكان نحو الانضواء
في مناشط جماعية قابلة تدريجياً للتمأسس، ولعب أدوار تتجاوز
الحدود الوظيفية المرسومة لها. وتكشف العرائض المطالبة
بالاصلاح من جماعات مختلفة، ومنتديات الحوار التي تعقد
في المجالس الخاصة أو حتى على شبكات الأنترنت، وكذلك الاشكال
الجماعية الاخرى مثل المظاهرات والتجمهر، هذه وغيرها من
أشكال التعبير الجماعية تكشف عن أن مؤسسات المجتمع المدني
قد تشكلت في مكان ما خارج الأطر الرسمية وهي تعبير صادق
عن ميول السكان، وأن ما يقف عائقاً أمامها هو الحكومة.
يبقى أن تحقيق التوازن الداخلي إجتماعياً وثقافياً
ضروري لناحية تحقيق أهداف السلطة والسكان سواء بسواء،
فالحكومة يجب أن تسعى للمحاربة ضد كافة أنواع إحتكار الفكر.
وقد كانت، وربما لازالت، أمام فرصة تاريخية لتطوير نظام
تعليمي قادر على تلبية حاجات العصر ومجابهة تحدياته، وهكذا
تشجيع حرية الصحافة وزيادة حقوق المرأة، وإطلاق المؤسسات
الأهلية نحو المساهمة الفاعلة في بناء المجتمع المدني،
إضافة الى موضوعات أخرى ضاغطة. فبإمكان العائلة المالكة
الآن أن تقرر منح الكفاءات الشابة المتعلمة فرصة المشاركة
السياسية، وهذا من شأنه وضع حد للمناطقية، والتي تعطي
إمتيازات أكبر لبعض العوائل من مناطق محددة في هذا البلد.
وهذا بدوره يمثل إجراءً احترازياً ضد الصراعات القبلية
المستقبلية، فالأفضلية المناطقية على المستويين الاقتصادي
والسياسي ماتزال سياسة حاكمة في السعودية. ومن شان هذا
الاجراء أن يساعد على إنهاء الحرب الأهلية الباردة التي
يعيشها هذا البلد بأشكال متعدّدة ثقافية واجتماعية وطائفية.
السكّان يجب أيضاً أن يبدأوا في إصلاحات راديكالية
على المستوى الاجتماعي الى جانب الاصلاح السياسي. فلا
بد أن يصبح الكتّاب والمفكرون جزءً من الحوار الاجتماعي
العام، والذي يقوم على التسامح إزاء الأفكار المختلفة.
كما أن الجامعات بحاجة الى أن تفتح ألأبواب أمام طلابها
للقيام بنشاطات سياسية واجتماعية، وفي الحد الأدنى يفترض
أن يمتلك الطلاب الحق في تشكيل إتحادات طلابية. فهذه من
شأنها أن تعلمهم فكرة (الفعالية الاجتماعية) وكيفية تنظيم
نشاطات حضارية سلمية داخل الجامعات. أفكار كهذه من شأنها
أن تساعد الجيل القادم على خلق وهكذا المشاركة في مجتمع
أهلي سلمي ومنتج، بدلاً من الموت في أفغانستان أو العراق
أو أي مكان آخر من أجل أهداف لا يدرك أغلبهم خلفياتها
الكاملة.
إنهاء التعصب الديني والسياسي يعتبر قضية حاسمة وحيوية
بالنسبة للسكان في السعودية، وهكذا الحال أيضاً للقيادة
السياسية. الخروج من هذه الازمة يجب أن يتم وفق شروط تحوّل
داخلي، وقرارات جريئة يقدم عليها النخب السياسية والفكرية،
من أجل الانتقال الى مرحلة يحقّق فيها الجميع ذواتهم،
فالديمقراطية قبل أن تحقق نجاحاً في الرأس يجب أن تبدأ
فعلها في المجتمع، فالديمقراطية الاجتماعية مدخل جبري
لنجاح الديمقراطية السياسية.
ولذلك، لا يمكن الانتقال الى الديمقراطية بدون تغييرات
نفسية وثقافية في المجتمع والسلطة، فالمجتمع مازال يخضع
لقيود ثقافية وإجتماعية تحول دون امتصاصه لقيم الديمقراطية
وشروط الانتقال اليها، والسلطة أيضاً مسؤولة مسؤولية مباشرة
عن تأخر وصول الديمقراطية الى هذه المنطقة من العالم،
فالثقافات السائدة تمارس دوراً تعويقياً في تحوّل المجتمعات،
ما لم تنكشف هذه الثقافات على موجات التحوّل الجارية في
الثقافات الأكثر تقدّماً. تماماً كما أن السلطة لا يمكن
لها أن تبقى قوة محتكرة للسلطة للأبد، فلابد أن يأتي يوم
يضطر فيها رجالها إلى تخفيف قبضتهم على السلطة من أجل
سلامة المركب قبل الركاب.
|
القمع لا الإصلاح! |
فثمة مسؤولية مشتركة تملي على المجتمع تحويل السلطة،
وتملي على السلطة تحويل المجتمع من أجل الوصول الى مساحة
مشتركة تؤسس لانطلاقة حقيقية وفاعلة نحو الإنتقال الى
الديمقراطية بموجب اتفاقات تسوية وترضية عادلة بين أطياف
المجتمع كافة وأركان السلطة كافة.
مسار التحوّل الديمقراطي لم يعد مجهولاً لدى السلطة،
وإن مازالت فئات إجتماعية تجهل بعض أبعاده بسبب غياب ثقافة
سياسية مؤّصلة ومشاعة، فمازال تداول الأفكار الديمقراطية
في مرحلة أولى، ولم يصل الى مرحلة يكون السكان قادرين
على الافصاح عن تطلعاتهم المنشودة في عبارات دقيقة وواضحة.
تعميم الثقافة الديمقراطية مازال أمراً شديد الإلحاح من
أجل رفع مستوى الطلب الشعبي على الديمقراطية، فلا يكفي
وجود نخبة سياسية تناضل حتى الإنهاك من أجل هدف عام، ولا
يكفي أن يصل حدود تطلّع النخبة إلى مستوى إيصال الصوت
المطلبي، فالعمل السياسي الجاد يتجاوز حدود إبلاغ الرسالة
لأهل الحكم، بل يتطلّب فيما يتطلب تعميماً أفقياً وعمودياً،
أي السعي الى دعوة المجتمع بكاملة للعمل المطلبي لمزاولة
الضغط من أسفل، مع مواصلة الضغط من أجل تحقيق التغيير
من أعلى.
في مستوى آخر، فقدت المجادلة القائمة على الاقتران
الوثيق بين الديمقراطية والنمو الاقتصادي جزءً جوهرياً
من جدواها في المملكة، فهذا النمط من التحليل الذي يربط
بين التحديث الاقتصادي والانتقال الى الديمقراطية، لا
يبدو قد أنجز وعده كما يحلو لأنصار هذا التحليل. فقد شهد
هذا البلد فيما مضى من السنوات نمواً إقتصادياً مفاجئاً
وخضع لبرامج تحديث كانت كفيلة بتخريب نظام القيم التقليدية
وبالتالي خوض غمار التحوّل الاجتماعي والثقافي وصولاً
الى الديمقراطية في شكلها الراسخ، ولكن هذا التحديث لم
ينتج دولة ديمقراطية. وبقي السؤال المركزي قائماً: هل
الخلل كامن في التحديث نفسه أم أن هناك عوامل أخرى أشد
تأثيراً وأهمية من عامل النمو منفرداً. يعتقد فريق من
المنظّرين بأن المشكلة تكمن في سيادة الواحد، سواء كان
هذا الواحد ديناً، أو سلطة مطلقة، أو ثقافة مصممة لمناوئة
الثقافات الأخرى، فهذه الواحدية تسدي خدمة مطلقة للدولة
وليس للمجتمع المتعدد ثقافياً وإجتماعياً ودينياً. في
المقابل تمارس الواحدية عملية إفقار منظمة للقوى الاجتماعية
في حصولها على فرص المشاركة في عملية الدمقرطة.
لقد ثبت بأن الديمقراطية قد تنتشر في الدول الأكثر
نمواً والأقل نمواً على حد سواء حين تكتمل عناصرها، أي
وعي الحقوق والصفة التمثيلية للقوى السياسية والوطنية،
وهكذا الحال بالنسبة للاندماج الحاصل في بعض المجتمعات
بسبب التطور الاقتصادي المتقدم في مقابل المجتمعات المنقسمة
الى طوائف وأعراف لأسباب متعارضة مع الاندماج، كالاحتلال
والأنظمة الفئوية والعشائرية.
فالواحدية بجميع أشكالها تقضي على تعدد الفاعلين الاجتماعيين،
وتحرم المجتمع من التعبير عن تنوعه في هيئة نشاطات سياسية
وثقافية وإجتماعية تدحض نزوع الدولة الى الإستئثار الكامل
بالسلطة والإنفراد بالقرارات المصيرية المتصلة بالمجتمع.
فالمناخات المناسبة لانتشار الديمقراطية لا تتوقف دائماً
على اعتبارات النمو الاقتصادي، بل على وعي المجتمع أو
قطاع كبير منه بحقوقه. فالعامل التحديثي يكون فاعلاَ في
المجتمعات حين يقترن بهذا الوعي الحقوقي، وإلا فإن غيابه
سيبقي على النمو خادماً للنظام الشمولي الذي سيفيد منه
في ترسيخ قوته المادية، وتوسيع سلطة أجهزته الأمنية والقمعية.
ولذلك يبدو وجيهاً الرأي القائل بأن الديمقراطية تصبح
غير ممكنة حين يكون المطالبون بها قلة في ظل نظام ديكتاتوري
شمولي، إذ لابد من وعي ديمقراطي مقاوم لوسائل الأجهزة
القمعية.
الخيار الديمقراطي في المملكة يسوّق حالياً عبر قوى
ثقافية واجتماعية تناضل من أجل فرضه على الدولة، إذ تكشفت
في حاجات الأفراد للتعبير عن أنفسهم بعد أن أيقضتهم نزعة
البحث عن الحقوق في أبعادها المختلفة. فالمطالبة بالديمقراطية
تتغذى في الوقت الراهن على ارتدادات فشل الدولة في التحول
الى دولة القانون والديمقراطية، وهذا بحد ذاته يوفّر أكبر
مبرر للتعبئة من جانب القوى الاجتماعية والسياسية من أجل
دفع الدولة الى تبني خيار ديمقراطي مكرهة على قبوله.
إن الثقافة الحقوقية التي تنتشر بصورة واسعة بين السكان
يصعب حرفها لصالح خيارات غير ديمقراطية، لأنها ناتجة عن
الاحساس بغيابها، كما أن الميول المتنامية للأفراد نحو
الحصول على صفة تمثيلية داخل الدولة هي غير قابلة للإخماد
لأنها حصيلة شعور بالنبذ، فالدولة لا تملك إلا أن تستجيب
لارادة شعبها حين تكون إرادتها مشلولة.
فأزمات الدولة الراهنة قدّمت من الحجج ما يكفي لنمو
ثقافة إعتراضية يحرّكها التوق الى رؤية مرحلة تكون فيها
الحقوق والحريات مكفولة، فالإختناق الداخلي مع بقاء الأزمات
بل وتفاقمها لا يجتمعان لفترة طويلة، ولابد من يوم يأتي
بتفجّر الأوضاع بطريقة غير مدركة حتى بالنسبة للقوى الاجتماعية
والسياسية نفسها التي تجهل أحياناً الغليانات الكامنة
داخل الجمهور الذي يستجيب تلقائياً لخطابها الاحتجاجي،
فدرجات الشعور بالإختناق متفاوتة وتبعاً لها تكون أشكال
التعبير عنها وردود الفعل إزائها.
إن التوق لنظام ديمقراطي بما هو إختيار شعبي حر يمثل
العنصر الأكثر إشعاعاً في ثقافة السكان هذه الأيام، وأن
قوى الكبح الداخلية غير قادرة على إضعاف هذا العنصر، فالوعي
الديمقراطي يتزايد بدرجة ملحوظة وهناك إجماع غير مسبوق
على أن تسوية مشكلات الدولة والمجتمع تكمن في التبني الجماعي
لخيار الاصلاح السياسي الشامل والجذري.
إن محاولات الدولة اليائسة والبائسة من أجل إحداث عطب
في وعي السكان وتعطيل مسيرة الاصلاح غير مجدية في ظل محفزات
هائلة تشجّع مجتمعة على السير الحثيث نحو التغيير، مهما
كانت الكلفة، فالضابط الآن ليس في جرعة الاصلاح وشكله،
بل يمكن الزعم بأن قدرة الضبط باتت ضعيفة الى حد أن الدولة
تدرك حالياً بأنها عاجزة عن إتخاذ قرار بالتغيير يؤدي
في نهاية المطاف الى إنهيار الدولة وتفككها.
ومهما يكن، فإن النقطة الجوهرية هنا أن نشر ثقافة ديمقراطية
بين السكان يتم الآن بفعل الوعي الحقوقي والرغبة الجامحة
في المشاركة في القرارات المصيرية التي ترتبط بالسكان
أنفسهم، فالفصل الذي مارسته العائلة المالكة بين ما هو
خاص بها وبين ما هو عام لم يعد موجوداً، لأنه فصل كارثي،
وليس هناك خاص وعام بعد اليوم، فالأزمات التي صنعتها الدولة
خلخلت أسس استقرار المجتمع، بدءا بمستوياته المعيشية وانتهاءً
بحقوقه السياسية والثقافية.
تماماً كما أن الواحدية اليوم غير ممكنة، لأن التنوع
الثقافي والديني والاجتماعي كشف عن نفسه كرد فعل على أزمات
وليدة من تلك الواحدية، وبالتالي فإن الجميع يرى بأنه
شريك وله حق الحصول على حصة عادلة في هذا البلد..حصة في
التمثيل السياسي، والتعبير الثقافي، والتشكّل الاجتماعي،
وإذا فشلت الدولة في تحقيق مفهوم الاندماج الشامل والعادل
بين الفئات الاجتماعية فإن المجتمع يتكفل حالياً بمهمة
تنظيم الصفوف بوحي من وعيه الحقوقي وإحساسه العميق بأن
الديمقراطية ستتكفل بتسوية أخطاء الماضي.
|