نشاط دبلوماسي محموم لإعادة إحياء المبادرة السعودية
السعودية تقود عربة التسوية الى ليبيا!
عمر المالكي
أشبه بنفير سياسي عام، بدأت المكائن الدبلوماسية في
عواصم عربية وغربية بالدوران وكأنها في سباق مع الزمن،
وكانت عواصم دول (الاعتدال) وخصوصاً: الرياض، القاهرة،
عمّان مراكز تخصيب عالية الكفاءة لمبادرة سعودية طرحت
أول مرة في قمة بيروت العام 2002، ثم تعدّلت في قمة الرياض
في مارس من العام 2007 قبل أن تتعثر إسرائيلياً، رغم إلحاح
دول الاعتدال في الاستجداء طيلة السنوات الماضية لناحية
إقناع الإسرائيليين بجدوى (الجلوس على الطاولة) والقبول
بمبدأ التفاوض على أساس المبادرة العربية المسعودة.
|
الفيصل مع الأسد |
وفيما تقلّص هامش المناورة لدى عواصم الإعتدال فيما
كانت الدولة العبرية ماضية في خططها، كان موضوع التوسّع
الإستيطاني في الضفة الغربية وحده الموضوع الخلافي بين
الشركاء الجدد في عملية السلام. فقد اشتعلت الجبهات العربية
والغربية ضد الدولة العبرية من أجل وقف الاستيطان، فيما
لم تسفر تلك الحرب الشعواء عن نتائج على الأرض، فقد كان
الإتفاق بين الرئيس الأميركي باراك أوباما ورئيس الوزراء
الاسرائيلي بنيامين نتنياهو على الاستمرار في التمدّد
الاستيطاني وعدم الاكتراث لما يتعرّض له الكيان الاسرائيلي
من ضغوطات ناعمة جداً في هذا الشأن.
في ظل المماحكات الهزلية، تعرّض عرّابو المبادرة العربية
المسعوّدة إلى تحدّيات جدّية جعلت من إمكانية تعبئة الأجواء
العربية لاستقبال المبادرة بالغة الصعوبة، فثمة في هذه
الأمة من لايزال يمتلك بعض الحياء من أجل دماء فلسطين
التي تهرق على معابر الاعتدال العربي. ليس في الأفق ما
يبشّر بخير، لأن الأمناء على القضية باتوا في مقلب مناقض
لها، وهم على استعداد للسير في طريق التسوية حتى لو فُني
الشعب الفلسطيني بأكمله.
ما إن أطلّ العام الميلادي برأسه حتى بدأت مروحة من
اللقاءات المكوكية بين مسؤولين في عواصم غربية وعربية
لخوض تجربة جديدة من أجل إقناع حكومة نتنياهو بقبول مبدأ
التفاوض على أساس المبادرة السعودية. بعض المسؤولين في
دول الإعتدال لم يعد لديهم مهمة فعلية سوى العمل على إنجاح
مبادرة السلام مع الكيان الاسرائيلي. فقد صمتت الجامعة
العربية وأمينها العام عمرو موسى عن كل مشكلات المنطقة
بما فيها الحروب الدائرة في اليمن، والصومال، والسودان
وغيرها من مشكلات أمتنا المنكوبة بحكّامها، ثم أفاقت الجامعة
وأمينها العام مجدداً لتبدأ نشاطاً غير مسبوق ليس لتهيئة
أجواء مصالحة عربية وحل الخلافات الداخلية أو التوسّط
لوقف الحروب المخزية في اليمن والصومال والسودان، وإنما
للقيام بدور العرّاب لمبادرة سعودية تمهّد لتطبيع شامل
مع الدولة العبرية. لقد أصبحت الأخيرة (الطفل المدلل)
لدى الحكومات العربية قبل الغربية، تصحيحاً لكلام وزير
الخارجية سعود الفيصل في 2 يناير الجاري.
على أية حال، فإن كل التحرّكات الدبلوماسية التي بدأت
في عواصم الاعتدال منذ بداية العام الجديدة مصمّمة لتهيئة
أجواء تسوية طمعاً في قبول الدولة العبرية المدلّلة بمبادرة
الملك عبد الله. ولأن ظروف النجاح متوقّفة على توفير واشنطن
غطاءً سياسياً ودبلوماسياً، وفي لحظة ما مالياً، فإن صفارة
انطلاق التحرّك جاءت من البيت الأبيض، حيث تم الإعلان
عن جولة جديدة من الدبلوماسية النشطة يقوم بها مبعوث الرئيس
الأميركي الى الشرق الأوسط جورج ميتشيل، الذي كما يبدو
مازال يراهن على الرمق الأخير من العبقرية التفاوضية التي
شارفت على النضب، رغم كل الأجواء المساعدة في الشرق الأوسط
على إنجاح مهمته.
في إشارة واضحة عن بدء التحرّك الدبلوماسي على مستوى
دولي، أعلنت إدارة الرئيس باراك أوباما عن مشروع سلام
في الشرق الأوسط يتم خلال سنتين، بحسب ما كشفت عنه صحيفة
(معاريف) الاسرائيلية في 4 يناير الجاري، وهي نفس المدة
التي عرضها نتنياهو على الرئيس المصري حسني مبارك في زيارته
الأخيرة للقاهرة قبل ذلك بيوم. ويقوم العرض الاسرائيلي
على أساس البدء بمناقشة مسألة الحدود أولاً قبل الحديث
عن الاستيطان واللاجئين. وقد أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي
نتنياهو في 4 يناير عن استعداده للمفاوضات مع رئيس السلطة
الفلسطينية محمود عباس بدون شروط مسبقة. ولا ندري إن كانت
العبارة الأخيرة تنطوي على دلالات معينة في البعدين الفلسطيني
والعربي، أي أن لا يطلب عباس وقف الاستيطان كشرط لاستئناف
المفاوضات مع الحكومة الاسرائيلية وأن لا تكون المبادرة
العربية أساساً للتفاوض. وفي كل الاحوال، فإن الشروط والشروط
المضادة لم تعد هي ما يحول دون استئناف المفاوضات بقدر
ما هو استعداد الجانب الاسرائيلي لمجرد الإنطلاق من نقطة
مشتركة، وقد حدّدتها سلفاً من سرطان المستوطنات غير القابل
للتوقف.
زيارة نتنياهو الى القاهرة وما حملته من إشارات فسّرها
قادة الإعتدال بأنها مشجّعة، أرست أساساً مشجّعاً لتحريك
المياه الراكدة في قناة السلام، وجاءت الرسالة الأميركية
واضحة بأن واشنطن ستكون حاضرة في عملية التسويّة. وتنادى
الرئيس المصري حسني مبارك والملك الأردني عبد الله الثاني
والرئيس الفلسطيني محمود عباس الى شرم الشيخ في 4 يناير
للبحث في ترتيبات عملية السلام، والتي كما يبدو أن ثمة
تنازلات جديدة يجري بحثها فيما يرتبط بموضوع اللاجئين
والقدس والتي تضعها الدولة العبرية عقبة في طريق التسوية،
ولذلك ترجّح الحديث عن الحدود ابتداءً.
|
ومع مشعل |
وكان على الرياض أن تلعب دوراً مركزياً في تحريك العملية
التسووية، ليس لأنها صاحبة مبادرة السلام مع الكيان الاسرائيلي
فحسب، بل لأنها رعت مبادرة مصالحة فلسطينية جمعت فتح وحماس
في مكة ومالبثت أن انهارت بفعل عدم توازن الوساطة السعودية.
تدرك الرياض بأن ثمة أطرافاً فلسطينية لن تقبل بأي تسوية
تأتي على الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني، الأمر الذي
يتطلب عملاً استثنائياً من أجل إقناع، أو على الأقل تحييد
هذه الأطراف للحفاظ على مناخ مؤاتٍ للتسوية في الشرق الأوسط.
زيارة خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس،
الى الرياض في 3 يناير واجتماعه مع الأمير سعود الفيصل
جاءت في سياق التحرّك الدبلوماسي السعودي لناحية الضغط
أو استيعاب القوى الفلسطينية المختلفة، وخصوصاً حركتي
فتح وحماس. كلام سعود الفيصل عن سؤال مشعل عن عروبة القضية
الفلسطينية لم يكن مقصوداً بذاته، فمصادر فلسطينية تحدّثت
عن عرض سعودي سخي لحركة حماس إن هي تخلّت عن التحالف مع
ايران في مقابل الحصول على معونات سعودية لإعادة إعمار
غزة، وإدخال الحركة كشريك أساسي في السلطة الفلسطينية.
ثمة مصدر فلسطيني آخر ذكر بأن الرياض والقاهرة لعبا دوراً
تكاملياً، فبينما تعرض الأولى المعونات المالية السخيّة،
تتولى الثانية مهمة مواصلة تضييق الخناق على قطاع غزة
لإرغام قادة حماس على القبول بالعرض السعودي، وصولاً إلى
إتمام ما يسمى بالمصالحة الفلسطينية التي ترعاها القاهرة،
فيما ترفض حركة حماس التوقيع عليها وفق الشروط الإضافية
التي تملى عليها من يوم لآخر.
ما رشح من لقاء مشعل ـ الفيصل في الرياض لا يعدّ مشجّعاً،
خصوصاً بعد تصريح خالد مشعل بأن الرياض تفهّمت موقف حركة
حماس من موضوع المصالحة الفلسطينية، ولكن التحرّكات العاجلة
التي قام بها الفيصل بعد اللقاء تنبىء عن شيء ما إيجابي
من وجهة نظر المعتدلين العرب فيما يرتبط بالمبادرة السعودية
للسلام. بدأ سعود الفيصل جولته الدبلوماسية من الكويت
باعتبارها الدولة الرئيسة للقمة العربية الحالية والتي
زارها في 4 يناير، ونقل إلى قيادتها الشيخ صباح الأحمد
رسالة شفوية من الملك عبد الله، كانت تدور حول مبادرة
السلام العربية، وتبني الكويت لها في القمة العربية المقبلة
في ليبيا يومي 27 و28 مارس المقبل.
بعدها طار سعود الفيصل الى شرم الشيخ والتقى الرئيس
المصري حسني مبارك، وسلّمه رسالة من الملك عبد الله كما
أطلعه على نتائج مشاوراته مع رئيس المكتب السياسي لحركة
حماس خالد مشعل وأمير الكويت، وأطلق سعود الفيصل في مؤتمر
صحفي عقده خلال الزيارة تصريحاً واضحاً بأن المباردة العربية
للسلام (قادرة على إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي ولصالح
الجانبين). وأضاف (إن هذه المبادرة موجودة وجاهزة للتطبيق
ونحن نأمل بأن يتم تبني هذه المبادرة من قبل كل الأطراف
المعنية بعملية السلام في الشرق الأوسط قبل أن يضيع الوقت).
ومن هناك قام بزيارة دمشق والتقى بالرئيس السوري بشار
الأسد في 5 يناير، والتي حدّد الفيصل الغرض من اللقاء
بأنها تدور حول المبادرة العربية وقال (إن زيارتي لدمشق
تأتي لهذا الغرض وليس لشىء آخر). فكل ما صدر من تصريحات
حول وقوف سورية مع السعودية في حربها ضد الجماعات الحوثية
في اليمن أو القاعدة، ليست سوى غطاء للموضوع الرئيسي وهو
محاولة إقناع الأطراف العربية الرئيسية التي لديها موقف
مختلف في مقاربة عملية السلام بالمشاركة في دعم المبادرة
العربية.
فالدفء الذي عاد الى العلاقات السعودية السورية لم
يكن مصدره مجرد التوافق على الموضوع اللبناني أو الوضع
في العراق أو غيره، بل لأن ثمة موضوعاً أشدّ إلحاحاً مطلوباً
لذاته ولغيره يراد تحقيقه. وهذا يفسّر لماذا يعود سعود
الفيصل الذي طالما شكت دمشق من صفاقته طيلة سنوات التوتّر
إلى حد السعي مع أطراف غربية لإسقاط نظام الحكم في سوريا،
وحتى حين تحرّكت الرياض صوب دمشق، زار الملك عبد الله
في أكتوبر الماضي سورية دون اصطحاب سعود الفيصل، ولم يختر
الملك عبد الله سوى إبنه كيما يكون مبعوثه الخاص الى الرئيس
الأسد بخصوص الترتيبات حول الملف اللبناني.
في نفس اليوم، أي الخامس من يناير، كانت ثمة قمة سعودية
ـ أردنية في الرياض للتشاور حول خطة (إنعاش عملية السلام
المجمّدة، وطبيعة التحرّك المستقبلي) لتسويق المبادرة
العربية.
موضوعات كثيرة تطرح في القمم الثنائية واللقاءات بين
المسؤولين السعوديين ونظرائهم العرب، ولكن ليس ثمة ما
يشغل قادة الاعتدال هذه الأيام سوى المبادرة العربية قبل
حلول موعد القمة العربية، خصوصاً وأنها ستنعقد في عاصمة
عربية ليست على وفاق مع آل سعود، الأمر الذي يتطلب جهوداً
استثنائية مضاعفة للحيلولة دون وقوع مفاجئات غير سارة
في طرابلس الغرب، التي مازالت مستبعدة من التحرّك السعودي،
وقد يتطلب من عمرو موسى لعب دور في هذا الصدد لناحية تأهيل
دور ليبي لاحتضان المبادرة العربية. ثمة من يشكّك في نجاح
مسعى من هذا القبيل، فالقيادة الليبية ستكون على قدر كبير
من الحذر في أن تكون بلادها منطلقاً لتسوية مع الدولة
العبرية، وحتى لا يسجّل التاريخ بأن قطار الاستسلام تحرّك
من الأرض اللييبية، وهو ما يحسب له الرئيس القذافي ألف
حساب، وهو الذي يحمل رؤية عميقة وراسخة حول الدولة السعودية،
باعتبارها دولة رجعية وخارج التاريخ.
في السياق نفسه، تأتي رسالة الملك عبد الله الى الرئيس
اليمني علي عبد الله صالح، الذي يعيش أياماً صعبة في ظل
تفاقم الأوضاع الامنية والاقتصادية والإجتماعية، بالرغم
من (المقويّات) التي حصل عليها من الولايات المتحدة لوقف
مسلسل الإنهيار في بلاده. مطلوب من الرئيس اليمني إنهاء
النزاع مع الحوثيين بعد أن وصلت محاولات اليمنيين والسعوديين
لكسر المقاتلين الحوثيين الى الفشل، في ظل تصدّع كبير
في جدار الثقة بقدرة القوات السعودية على خوض القتال.
رسالة الملك عبد الله الى الرئيس اليمني والتي أوصلها
الأمير خالد بن سلطان مساعد وزير الدفاع والأمير محمد
بن نايف مساعد وزير الداخلية تدور حول شروط إنهاء الحرب
ضد الحوثيين، والتي بلغت ستة شروط، بعد إضافة شرط جديد
وهو عدم التعرّض لأمن المملكة. على أية حال، تسعى الرياض
إلى رؤية نهاية سريعة لحرب اليمن من أجل تهيئة أجواء السلام
مع الدولة العبرية، قبل أن تنعقد القمة العربية في ليبيا.
الرياض باتت ناشطة للغاية في طريق التسوية، وتحاول
مهما كلّف الثمن ألا تضيع فرص التوصّل الى سلام مع الكيان
الإسرائيلي لتحقيق رغبة السلف والخلف من الملوك السعوديين.
يبقى، أن الرياض لا تملك من أوراق الضغط الدبلوماسي ما
يمكّنها من تحقيق (خرق) سياسي لافت.
|