الدولة الخياليّة
تعجب أحياناً لماذا يبني الأمراء تصوّراتهم ومواقفهم
السياسية على أساس (خيالات) و(أساطير)، وكيف يتحوّل ما
يتوهمه الأمراء الى حقائق تحكم سلوكهم، وعلاقتهم مع الآخر.
يرى بعض المقرّبين من العائلة المالكة بأن الخصومة مع
الآخر هي المسؤولة عن فتح باب لتسرّب كل ما يعزّزها، سواء
كان ما يتسرّب حقيقة أم زيف.. وقد أفاد كثرٌممن يطمعون
في الحصول على المال والشرهات من وجود هذه الخصومة، فيغذّونها
بأوهام وقصص لو تمّ التأمل في محتوياتها خارج تأثير ضغوطات
الخصومة، لسخر من يستمع إليها. فالخصومة هي المنظار التي
يرى من خلالها الأمراء العالم من حولهم، ولذلك يصبح الريب
مرشداً دائماً لمواقف الأمراء وسلوكهم، فكل ما يقال عن
الخصم يغدو حقيقياً، ويبنى عليه. في مثل هذه الحال، لا
يسع الملك أو أحد الأمراء الكبار سوى تصديق أن يكون هناك
ثلاثة ملايين إيراني يحتشدون داخل العراق على الحدود الشمالية
من المملكة، وكذلك وجود مليون إيراني في مدينة الزبير
العراقية، أو حتى دخول أربعة ملايين إيراني من الحدود
السورية الى العراق..وكل هذه القصص سمعها مسؤولون عراقيون
وعرب من الملك عبد الله والأمير نايف وسبّبت ذهولاً لدى
زوّار المملكة، وعادوا الى بلدانهم وهم بين مصدّقين ومكذّبين
ما سمعوه من أفواه قادة دولة يفترض أن يكون لديهم الحد
الأدنى من المعرفة بالحقائق السياسية والجغرافية عن الدول
المجاورة.
ولا نعجب، والحال هذه، أن يكون تدخّل القوات السعودية
في اليمن على أساس تقارير صادرة عن الرئيس علي عبد الله
صالح، الذي أوهم السعوديين بأنهم يحاربون جيشاً إيرانياً
في صعدة، وأن إيران باتت على مقربة من الرياض، وهي تحيط
الجزيرة العربية من كل أطرافها، وأن لها أذرع في كل منافذ
المنطقة، وهي من يدير غرف العمليات في العراق وفلسطين
ولبنان واليمن وربما في مناطق الخليج برمتها. وليس مستبعداً
أن يأتي يوم يعتقد فيه الأمراء بأن لإيران قواعد عسكرية
في دول خليجية متخاصمة مع السعودية.
حين نعود الى الكتابات والخطب الدينية الوهابية منذ
بدء التدخل العسكري السعودي في اليمن في بدايات نوفمبر
من العام المنصرم، نعثر على نشاطية غير مسبوقة لفايروس
البارانويا، الذي يجعل الأوهام حقائق، والهواجس وقائع،
فيرى البعض منهم ما لايراه الشاهد والمراقب، لأنها أشياء
لا تُرَى في عالم الشهود، بل هي مجرد (خيالات) تصبح في
لحظة اشتداد الخصومة حقائق غير قابلة للنكران. حين يطلق
بعض القادة العسكريين بمن فيهم الجنرال خالد بن سلطان
تصريحات من قبيل أنهم فرضوا سيطرة تامة على الحدود واسترجعوا
المناطق الواقعة التي كانت تحت سيطرة الحوثيين، وقتلوا
قادتهم، فإنهم لا يعتقدوا بأنهم يكذبون، تماماً كما لا
يعتقد الشيخ الوهابي الذي يزور الجبهة ويعود وفي جعبته
قصص أسطورية حول بسالة الجنود، واستشراسهم في مواجهة الأعداء
(الحوثيين) بأنه يخبر كذباً، فهو في أحسن الأحوال يضع
(الكذب) في خانة تكتيكات الحرب، ولكن ثمة حالة يعيشها
السياسي والديني وفق ما يسمعه من الجنود، أو لربما أتقن
الأخير فن ما يجب أن يقوله، فيخرج القائد العسكري ورجل
الدين بانطباع وهمي بأن ثمة بطولات يعجز الإعلام المحلي
والدولي عن تغطيتها، لعظم ما تحمله من دلالات ميسيائية.
رغم أنك لا تسمع شيئاً من تلك القصص في البيانات العسكرية
أو حتى التقارير الصحافية. هل لذلك صلة بالتعبئة العسكرية
والإعلام الحربي؟ ربما، ولكن حين ينبري الشيخ العريفي
ويردّد في خطبة صلاة الجمعة، التي هي جزء من الصلاة، ويحلف
مراراً بأن ما شاهده هو عين الحقيقة، وما أصابه ليس سوى
كبدها، هل يمكن بعد ذلك التفكير في ماهو إعلام حربي وماهو
فارط في وهميته، وماهو حقيقي لا يصح تجاهله؟
وحين نفتح أفق الجدل على مجمل الأدبيات السياسية والدينية،
نجد بأن ثمة أزمة عميقة مرتبطة بمصدرية المعلومات، فالذين
يردّدون عبارة (نقل لي ممن أثق به)، و(قيل لي)، حين يتعلّق
الأمر بخصوم سياسيين أو عقديين، ينشق أخدود واسع وعميق
بين الحقيقة والوهم، وينفتح باب واسع أمام من يريد التكسّب
أو التقرّب من السياسي أو الديني. ونقرأ في تراث الوهابية
قصصاً منقولة بدون مصادر عن الخصوم، ويتم التعامل معها
على أنها (مسلّمات)، وتشكّل أساس رؤية، وموقف، وسلوك،
وما تلبث أن تندمج في الثقافة الشعبية لدى الجمهور المناصر.
الخصومة الجامحة أفقدت السياسي والديني التوازن في
نظرتهما، ومواقفهما، وسلوكهما، ولعبت دوراً كارثياً في
تشكيل وعي مشوّه، يفقد صاحبه القدرة على التعامل العقلاني
مع الوقائع، والناس، والظواهر. ونشأ في ظل مناخ موارب
مفتوح فضاء واسع تسبح فيه الأوهام والهواجس، ويتأهّب الواقعون
تحت تأثيراته لخوض غمار معارك وهمية ضد خصوم وهميين. لا
عجب إذاً أن ترى دولة تكتنز كل فرص الإنفتاح واستيعاب
علوم الأرض وقادتها يستمدون من الأوهام التي يصنعها أصحاب
الأهواء والشهوات معارفهم.
والأعجب من ذلك كله، كيف يمكن لدولة تزعم بأنها وطن
يحتضن أطيافاً متنوعة وهي تقسّمهم إلى مسلمين ومشركين،
وموالين وعملاء، وحلفاء وخصوم، كل ذلك لأن مصّنعي الأوهام
جعلوا الأراجيف حائلاً أمام رؤية الواقع كما هو دون رتوش
وتشوّهات. وإذا ما واصلت عقلية (الخيالات) في شحن الشارع،
فإنها تمارس دور مفرمة لبذور الوطن المأمول.
|