الخوف من الإصلاح
لماذا لا تقبل السعودية بالعراق الجديد
خالد شبكشي
كانت القاعدة ولازالت، جزئياً على الأقل، أن فشل السياسة
الأميركية في العراق وهب الأنظمة الشمولية في الشرق الأوسط
إعفاءً من الضغط لجهة التحوّل نحو الديمقراطية، طالما
أنهم يموضعون أنفسهم إلى جانب الولايات المتحدة في مواجهة
خصوم الأخيرة وخصوصاً إيران وحلفائها، بعدما كانت قبل
سنوات تضم سوريا وغيرها. وفي حقيقة الأمر، أن السعودية،
إلى جانب مصر، هي من أكبر المستفيدين من تخلي الإدارة
الأميركية عن رغبة في إفراغ مستنقع النظام الشمولي منذ
أن استبدلتها برغبة مواجهة التهديدات الإيرانية وطموحاتها
النووية.
في المقابل، نجح حلفاء واشنطن، وخصوصاً السعودية ومصر
والأردن، بتبني مشروع السلام مع الدولة العبرية وتوفير
كل شروط نجاحه، في مقابل تخلي الإدارة الأميركية عن فكرة
الدمقرطة، أو حتى ممارسة الضغوط فيما يرتبط بانتهاكات
حقوق الإنسان، أو تعريض العائلة المالكة للمسائلة على
خلفية هجمات الحادي عشر من سبتمبر أو تمويل الإرهاب.
التنازل المتبادل بين واشنطن والرياض، هو ما يجعل الأخيرة
مطمئنة نسبياً الى أن رياح الديمقراطية لن تهب عليها خلال
عهد أوباما، بعد أن تلقى دروساً في الحكمة السعودية على
يد الملك عبد الله في أول زيارة له للمملكة بعد وصوله
البيت الأبيض.
تاريخياً، كانت السعودية ولا تزال شريكاً أميركياً
موثوقاً، فهي تقدّم نفطاً رخيصاً مقابل الحماية الأميركية.
أما مصر، التي حافظت على صورتها القومية الناصعة في عهد
الرئيس عبد الناصر، فقد أصبحت منذ أن زار الرئيس أنور
السادات القدس ووقّع معاهدة كامب ديفيد مع اسرائيل العام
1978 حليفاً إستراتيجياً للولايات المتحدة وأقلعت عن تراثها
القومي ودورها القيادي. لا ريب أن هذا الموقف الممالىء
للولايات المتحدة شكّل حماية لهما من النقد، واستمر ذلك
حتى هجمات الحادي عشر من سبتمبر. وخلال عشية وضحاها تحوّلت،
السعودية، إلى عدو للولايات المتحدة ووصفت بأنها (وكر
الشر) في العام 2003، وأنها الدولة المسؤولة عن تنشئة
التطرف وحرمان مواطنيها من الديمقراطية وسياسات السوق
الحرّة المولّدة للثراء. وبحسب طائفة من الباحثين فإن
التسلّطية والسياسة الإقتصادية الرديئة يفضيان الى توليد
إحباطات وكبوتات تجد في الإرهاب متنفّساً ومخرجاً لها.
ولذلك، فإن الحل المنبوذ هو الديمقراطية.
ولسنوات قليلة، وجدت السعودية، كما مصر وغيرها من الدول
الحليفة للولايات المتحدة، نفسها في وضع غير مألوف وغير
مريح كونها تصبح جزءً جوهرياً من أحاديث المسؤولين الأميركيين
عن الديمقراطية. كان آل سعود يراهنون على قدرتهم على احتواء
الضغوطات الأميركية من خلال تقديم مبادرات مغرية سواء
فيما يتعلق بالتسوية في الشرق الأوسط، أو أسعار النفط
المخفّضة، أو التسهيلات العسكرية والتجارية المميّزة للولايات
المتحدة. شيء واحد ربما كان آل سعود يخشونه، أن تتصاعد
الضغوطات الداخلية للمطالبة بإصلاحات ديمقراطية فتحظى
بدعم دولي يفضي إلى توهين آل سعود وإخراجهم ووضعهم تحت
تأثير ضغوطات مكثّفة تدفعهم لتقديم تنازلات غير محتملة،
أي وضع السلطة على سكة تؤدي تدريجاً إلى تآكلها وتقويضها.
في السنوات الثلاث الأولى لهجمات الحادي عشر من سبتمبر،
كانت الدمقرطة حلاً لمشكلة التطرف والارهاب في الشرق الأوسط
وفي العالم، من وجهة النظر الأميركية، ولذلك طرحت مبادرة
الشراكة الشرق أوسطية من قبل وزيرة الخارجية الأميركية
كونداليزا رايس لتهيئة مناخات مؤاتية للتحوّل السياسي،
فيما تعهّد الرئيس السابق جورج بوش الإبن بتصحيح خطأ أسلافه
بدعم أنظمة شمولية في الشرق الأوسط وأن الديكتاتورية هي
المسؤولة عن انتاج التطرف.
|
السعودية: الإخلال بالمعادلات
السياسية |
لقد تدخّل عامل النفط هذه المرة أيضاً فأجزل في العطاء
لجهة فتح الطريق المسدود أمام آل سعود، فكل الظروف كانت
تنذر بأن السعودية تقع في المرتبة الثانية بعد العراق
من حيث خارطة طريق التغييرات الأميركية. لقد سمع آل سعود
شيئاً من ذلك بعد شهور من سقوط النظام العراقي في إبريل
2003، ما تسبب في هلع العائلة المالكة. ولكنهم كما يبدو
قد أعّدوا العدة قبل ذلك، أي منذ سقوط حكومة طالبان في
نهاية العام 2001، وشحن المطلوبين بتهمة الإرهاب لدى الولايات
المتحدة الى معتقل غوانتانامو وكان كثيرٌ منهم سعوديين
أعضاء في تنظيم القاعدة أو شاركوا في عمليات قتالية خارج
الحدود الأفغانية. وقائع متعاقبة ساهمت في تشكيل صورة
الدولة السعودية الحقيقية التي أخفت معالمها لعقود عن
حلفائها. وجد الأمراء أنفسهم أمام مأزق خطير، وكانوا بحاجة
الى مبادرات عاجلة توقف تداعيات الصورة الجديدة عنهم على
المستوى الدولي، وفي هذه الأجواء الضاغطة ولدت مبادرة
الأمير (الملك) عبد الله للسلام التي طرحت في قمة بيروت
في مارس 2002، ثم جاءت مبادرة الحوار الوطني في يونيو
2003 وسلسلة الحوارات اللاحقة وصولاً الى حوار الأديان..
شعرت السعودية منذ ارتفاع مداخيل النفط في العام 2004
بأنها على وشك الخروج من عنق الزجاجة، وقررت شراء الصمت
الغربي عبر صفقات تسليحية فلكية، ومشاريع تجارية ضخمة،
ووجدنا بأنه كيف تبدّل الموقف الرسمي من السعودية من (وكر
الشر) سنة 2003 الى (دولة معتدلة) سنة 2006. رغم أن الموقف
الشعبي في الولايات المتحدة والغرب عموماً عن السعودية
لم يتبدّل، فقد ارتبط اسمها بأكبر عملية انتحارية بعد
الحرب العالمية الثانية.
أوقفت الإدارة الأميركية ضغوطاتها المباشرة على السعودية،
وكذلك باقي حلفائها، فيما تركت المطالبين بالإصلاح السياسي
في البلدان الحليفة للولايات المتحدة يواجهون العقوبات
بدم بارد. لم تتردد السعودية ـ الدولة المعتدلة بعد اطمئنانها
إلى ردود الفعل الأميركية في اللجوء الى كل ما يعزز سيطرتها
الكاملة، بل صدرت تصريحات صادمة من قبل وزير الداخلية
الأمير نايف بعد زيارة قام بها الى أخيه العليل ولي العهد
الأمير سلطان ونفيه الحاجة الى انتخابات أعضاء مجلس الشورى
أو مشاركة المرأة، وكان ذلك مفاجئاً كونه يأتي بعد زيارة
لواشنطن، التي يفترّض أن تمسّه بعض مبادئها الديمقراطية،
لا أن يعود وكأنه قادم من قرية معزولة في القصيم. إنه
الشعور بالاطمئنان.. ذلك الذي يدفعه لإطلاق تصريح صادم.
كان الاصلاحيون في هذا البلد على موعد في مارس 2004
مع وزارة الداخلية، التي نفّذ وزيرها تهديداته السابقة
بأنه سيأتي بهم جميعاً إن لم يكفّوا عن المطالبة بصورة
علنية بالإصلاح السياسي. وفيما يبدو، فإن قرار الاعتقال
جاء في ظروف مناسبة، تكون الدولة قد استعادت بعضاً من
قدرتها المالية التي تمكّنها من تفعيل لعبة (النفط والحماية)،
خصوصاً وقد حقّقت نتائج لافتة على صعيد مواجهة الجماعات
المسلّحة في الداخل. المشهد السياسي تبدّل بعد مارس 2004،
فقد زج بالإصلاحيين في السجون، وفرض وزير الداخلية على
وسائل الإعلام والصحافة المحلية الكف عن الحديث عن الإصلاح،
وتم استبدال كلمة (إصلاح) بكلمة (تطوير)، وحتى ولي العهد
عبد الله (الملك الحالي) بدا كما لو أنه مارس دوراً مراوغاً
في فترة سابقة، ومع نهاية الدور قرر الإنسحاب تاركاً الإصلاحيين
أو بحسب اللهجة الشعبية (أصحاب الرؤية) يواجهون قمع الأجهزة
الأمنية منفردين.
يقال، بأن الولايات المتحدة بدّلت من مقاربة مفهوم
الدمقرطة: فقد كانت ترى بأن الضغوط المباشرة وحدها الكفيلة
بإرغام الدول الديكتاتورية على تبديل سياساتها وتطويرها
أنظمة الحكم فيها، كما فعلت مع اليابان وتركيا وكوريا
الجنوبية بعد الحرب العالمية الثانية، وكذلك مع جمهوريات
الإتحاد السوفياتي في العقود الأخيرة. هذه المقاربة كما
يبدو تتطلب عزيمة قوية لتنفيذها، مصحوبة بقوة عسكرية كبيرة
لتأمينها وضمان نجاحها واستمرارها، وظروف داخلية وخارجية
مساندة لها.
تجربتا أفغانستان والعراق مصمّمتان على أساس أن تكونا
نموذجين قابلين للتكرار، رغم أن أفغانستان تتطلب عملاً
دؤوباً كيما تخرج من مشكلاتها الاقتصادية والاثنية والثقافية
الموغلة في التعقيد. ورغم أن التداخلات الاقليمية في العراق
تفوق بأضعاف نظيرتها في أفغانستان، إلا أن ثمة ما يبعث
على الإطمئنان، رغم زيادة وتيرة التفجيرات وسقوط أعداد
كبيرة من الضحايا، أن التجربة الديمقراطية قد أرست معالمها
الأولى في تاريخ العراق الجديد. صحيح أن القوى الأقليمية
التي تتدخل في العراق تحمل أجندات واستهدافات متباينة
وأحياناً متناقضة، فهناك من يخشى الديمقراطية في العراق
الجديد كونها تحيله نموذجاً قد يتمدّد ويشكّل مصدر إلهام
لدول أخرى، وهو ما أرادت دول مثل السعودية إثبات خلافه
من خلال تحريض الجماعات العنفية على تخريب العملية السياسية،
ودفع الأموال الباهظة لجماعات سياسية محددة بهدف تشوية
العملية الديمقراطية.
لاشك أن العملية السياسية في العراق لم تتحرك وفق المأمول،
وقد تعرّضت لتشويه مقصود وتخريب هائل، وغالباً ما كان
للعامل الإقليمي دور جوهري في تحقيق هذا الغرض، ولكن يبقى
أن إرادة الشعب العراقي للعيش في مناخ ديمقراطي تجعل منه
قادراً على تجاوز امتحانات صعبة في المرحلة المقبلة، وأن
تناقضات مصالح المتصارعين الإقليميين والدوليين على العراق
قد يكون منجاة له من الوقوع في مستنقع الديكتاتورية تارة
أخرى.
العراق الجديد كان يفترض أن يكون نموذجاً للشرق الأوسط
الجديد وفي الوقت نفسه مصدر تهديد لإيران. ولكن فيما يبدو،
فقد خرجت إيران من الرهان بكونها الرابح الأكبر في حرب
الولايات المتحدة. فقد أزيل النظام البعثي الخصم اللدود
للنظام في ايران، وأطيح بنظام صدام حسين الذي حاربها ثمان
سنوات، وفوق ذلك خلق سقوط النظام العراقي فراغاً هائلاً
في الداخل وليس بمقدور الأميركيين أن يملأوه، لأسباب جيوبوليتيكية،
وتاريخية، ودينية وثقافية، والذي ما لبث أن تمدّد حتى
طال كل مجالات الحياة في العراق الجديد.
صحيح أن الدول المستهدفة بالنموذج الديمقراطي خرّبت
الاستقرار الأمني في العراق طيلة السنوات الماضية، ولكن
انعكس ذلك إيجاباً بالنسبة للإيرانيين الذين تعرّضوا لضغوطات
مكثّفة فيما يخص برنامجهم النووي، فتحوّل العراق الى مصيدة
نموذجية للقوات الأميركية في حال قررت واشنطن إعلان الحرب
على طهران. تخريب الوضع الأمني أضرّ بالعراق عموماً، ولكنّه
حرم السعودية من استقرار أمني في المستقبل، فقد غرست في
الذاكرة الجماعية العراقية بذور الشقاق والكراهية والانتقام،
بفعل توظيف الأموال والأفراد في مشاريع قتل جماعي داخل
العراق.
في مقالة كتبها ديفيد كينر في 7 يناير الماضي بعنوان
(السعودية والعراق لا يلتقيان) يقول فيه بأن السعودية
وعراق ما بعد صدام لم يلتقيا قط ـ السعوديون لم يتقبّلوا
حققيقة أن حكومة شيعية هي الآن من تدير الوضع في بغداد.
ولذلك، وعبر مراقبة ليلية، أرى بأن صحيفة (الشرق الأوسط)
تقول بأن الجانب الديني لهذا الصراع ينتقل الى نطاق مفتوح.
وقد بدأ ذلك حين إتّهم رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي
علماء دين سعوديين بالتكفير. وفي رد فعل، شن ّالشيخ عبد
العزيز آل الشيخ، المفتي الأكبر للسعودية، هجوماً معاكساً
وقال بأن علماء السعودية ليسوا تكفيريين، وأن مثل هذا
الخطأ لا يجب أن يصدر ضد بلد مسلم، معروف عنه الخير والاعتدال
في كل الأمور.
وكان واضحاً، حتى بعد أن حقق العراق بعض الاستقرار
خلال السنوات العديدة الماضية، فإن علاقاته بالسعودية
بقيت رديئة. وبالرغم من التزام السعودية تجاه أميركا،
باعتبارها أهم حليف لها في الشرق الأوسط، إلا أن السعودية
لم تعيّن سفيراً لها في بغداد. مع اقتراب موعد الانتخابات
تراهن السعودية على اختلال المعادلة السياسية في بغداد
وهي تنفق حالياً مبالغ طائلة قيل بأنها أكثر مما أنفقته
في الانتخابات اللبنانية، من أجل إعادة بعض عقارب الماضي
الى الساعة العراقية الراهنة.
|