المال السياسي والاعلام والعنف
سدنة الإستبداد السعودي ينظّرون للانتخابات العراقية
يحي مفتي
أسوأ مشهد يمكن للمرء أن يراه في العملية الديمقراطية
أن تستمع لسدنة الاستبداد وهم ينظّرون في الديمقراطية
ويعطون دروساً في نزاهة الانتخابات، هذا ما يفعله بعض
الكتّاب السعوديين مثل عبد الرحمن الراشد وهو يكتب عن
(ضجيج الانتخابات العراقية) في 28 فبراير الماضي، أو المقالات
الباعثة على الشفقة والإعياء التي يكتبها طارق الحميد
عن العراق. والأكثر سوءا أن تجنّد دول مستبدة فرق مراقبة
لسير العملية الانتخابية في العراق، وما هو أسوأ من ذلك
كله أن يتدخل المال الانتخابي السعودي لشراء أصوات الناخبين
وتزوير إرادة الشعب العراقي في لحظة حاسمة.
ومنذ بدأ العد العكسي لموعد الإنتخابات البرلمانية
العراقية في السابع من مارس، وانطلاق الحملات الدعائية
للمرشّحين، تأهبّت بعض الدول المجاورة للعراق لاستغلال
فرصة الانتخابات لتحقيق مآربها السياسية الخاصة عن طريق
تزوير إرادة الناخب العراقي بعد أن عجزت عن تخريب العملية
السياسية. بمعنى آخر، أرادت أن تحصل عن طريق صناديق الإقتراع
ما لم تستطع الحصول عليه عن طريق المفخّخات، والأحزمة
الناسفة.
السعودية كانت من أبرز دول الجوار العراقي التي سهّلت
مهمة إحتلال العراق من قبل القوات الأميركية في إبريل
2003، ولكنّها رفضت سير العملية السياسية لأنها أنتجت
قوى غير متحالفة معها، وعملت طيلة السنوات الماضية على
خطّين رئيسيين: خط العنف بتمويل الجماعات الإرهابية وتشجيع
عناصر القاعدة لنقل عملياتها من داخل السعودية الى العراق،
وخط الحصار والمقاطعة حيث رفضت التعامل مع الحكومة العراقية
وامتنعت حتى عن مجرد إعادة فتح سفارتها في بغداد.
أدركت السعودية على مدى السنوات الماضية بأنها غير
قادرة على تغيير الخارطة السياسية، ولذلك اكتفت بمقاطعة
الحكومة العراقية من جهة، والتخطيط مع أطراف عراقية على
غير وفاق مع حكومة المالكي للقيام بكل ما من شأنه إقناع
المواطن العراقي بفشل الحكومة العراقية في النهوض بقضايا
الأمن والأوضاع المعيشية والإعمار من خلال تشجيع عمليات
العنف وتمويلها، وتضخيم حالات الفساد في مؤسسات الدولة،
أو حتى فبركة قصص عن مسؤولين في الحكومة العراقية.
حققت السعودية وبعض حلفائها في الداخل العراقية نجاحات
نسبية ولكنها لم تصل الى حد إفشال العملية السياسية، ولم
يعد هناك من فرصة سانحة سوى العملية الانتخابية التي يمكن
من خلالها تعطيل مفاعيل التجربة الديمقراطية العراقية،
وصد تداعياتها الخارجية. وتكفّل رئيس جهاز الاستخبارات
العامة الأمير مقرن بن عبد العزيز بملف الانتخابات العراقية
بالتعاون مع أطراف عراقية باتت معروفة ومنها رئيس وزير
العراق الأسبق إياد علاوي، ونائب رئيس الجمهورية طارق
الهامشي، وبعض الشخصيات العراقية الصغيرة مثل رئيس قائمة
أحرار إياد جمال الدين وغيرهم.
من نافلة القول، عمل الأمير مقرن مع إياد علاوي طيلة
سنوات خلت على تنسيق الجهود من أجل تخريب إحداث فوضى عارمة
في الداخل العراقي، وقد تكشّفت لدى أجهزة الأمن العراقية
أدلة على ضلوع مقرن ـ علاوي في حوادث مثل الزرقه في مدينة
النجف جنوب العراق، والتي كانت تستهدف إيقاع أكبر عدد
من الضحايا في عملية أمنية تم التخطيط لها بعناية فائقة،
ورصدت لها مبالغ طائلة، ولكن العملية أخفقت بعد أن نجح
الأمن العراقي في المدينة في الكشف عن خيوطها الأولى،
وتدخّلت قوات عراقية بأعداد كبيرة لاحقاً لإحباط مخططها.
وتكررت المحاولات في مناطق أخرى مثل البصرة والناصرية
قبل أن يصرف النظر عنها بعد أن تكشّفت خيوطها قبل بلوغها
مرحلة التنفيذ.
في العملية الانتخابية الأخيرة، بدا لافتاً أن الحكومة
السعودية سعت وبصورة علنية، على خلاف كل الدول العربية
والأجنبية، من أجل دعم كيانات سياسية محدّدة، من خلال
العمل على ثلاث مسارات:
ـ الاعلام: خصّصت قناة (العربية) السعودية برامج موجّهة
وإعلانات دعائية لعدد من المرشّحين من المحسوبين على حلفائها،
مثل إياد علاوي وإياد جمال الدين وغيرهم. وفيما اختارت
تعريفات كيدية للكيانات والشخصيات المصنّفة في خانة الخصوم
من قبيل تعريف المالكي بأن في عهده تدهور الوضع الأمني،
أو أن العراق لم يشهد استقراراً سياسياً، فيما تعرّف علاوي
على أنه قضى على المتمرّدين في النجف والفلوجة، وكذا بقية
الشخصيات والكيانات التي جرى تعريفها بحسب روابطها مع
الرياض. أما الإعلانات الدعائية لبعض الكيانات فكانت واضحة
بجلاء، حيث تكشف عن هوية حلفاء السعودية في الانتخابات
العراقية.
ـ المال الانتخابي: يتذكّر الناشطون السياسيون والمراقبون
الإعلاميون، فضلاً عن المرشّحين للانتخابات البرلمانية
بدايات الحديث عن دخول المال السياسي السعودي الى العراق،
في إطار معلومات عن أن الرياض بدأت برصد ما يربو عن مليار
دولار لتمويل حملات إنتخابية لبعض الكيانات السياسية وشراء
أصوات الناخبين العراقيين. ونقل مرشّح عراقي في قائمة
(تيار العدالة والحرية ـ تجديد العراق) الذي يرأسه الدكتور
نبيل ياسين في شهر أكتوبر من العام الماضي بأن ثمة (معلومات
لدينا عن أموال طائلة رصدتها السعودية تصل الى مليار دولار
لشراء أصوات العراقيين).
|
المال السعودي.. يا مرحبا!
|
وقبل أيام قلائل من موعد الانتخابات العراقية، حذّر
أكثر من مسؤول عراقي رفيع المستوى، بمن فيهم رئيس الوزراء
نوري المالكي من دور المال السياسي في تزوير إرادة الناخب
العراقي، وكان أغلب التلميحات تتجه الى الحكومة السعودية.
ـ اللقاءات المباشرة واستقبال رؤساء إئتلافات إنتخابية
حليفة: جرت العادة أن يطوف المرشّحون في المناطق الداخلية
لشرح برامجهم الانتخابية من أجل إقناع الناخبين بجدوى
ترشيحهم، وكسب أصواتهم. ولكن أن يقوم المرشّحون بجولات
خارجية في فترة تعتبر حرجة إنتخابياً، والتي تتطلب من
المرشّحين إبداء أقصى درجات النزاهة والاستقلالية.
مع ارتفاع حرارة الحملات الانتخابية في العراق، تحرّك
أقطاب من إئتلاف القائمة العراقية برئاسة إياد علاوي على
كسب الدعم الخارجي وتحديداً السعودية ومصر، حيث التقى
علاوي الملك عبد الله ورئيس الاستخبارات العامة الأمير
مقرن بن عبد العزيز فيما التقى طارق الهاشمي الرئيس المصري
حسني مبارك، في جولة شملت عدة دول عربية.
في زيارة علاوي الى الرياض التي تمّت في 20 فبراير
الماضي، ثمة رسالة واضحة أن السعودية تريد تغيير الخارطة
السياسية، على خلفية رفضها لأية حكومة شيعية تدير العراق،
وتفضّل عودة البعثيين الى الحكم بحجة أن ذلك سيحد من نفوذ
إيران في العراق، وسيمنع من تقوية العامل الشيعي.
حضور رئيس الاستخبارات العامة الأمير مقرن المحادثات
بين علاوي والملك عبد الله حمل دلالة واضحة بأن مقرن ليس
فقط على علاقة وثيقة مع علاوي، وإنما دلّل أيضاً على أن
التنسيق الثنائي بين علاوي ومقرن راسخ وقديم، ويؤكّد ما
كشفت عنه تقارير أمنية عراقية منذ سنوات.
في مقابلة مع صحيفة (الرياض) في 22 فبراير الماضي أطرى
مرشح القائمة العراقية، والكاتب المعروف حسن العلوي، الذي
كان على علاقة وثيقة بالرئيس العراقي السابق صدام حسين،
والذي يحمل جواز سفر سعودي، على السعودية التي اعتبرها
(عقل العرب وحكمته) وأنها (جمجمة العرب ورأس الإسلام ولا
بد لأي خلاف عربي الا ان يمر على رأس الإسلام). وأشار
الى حساسية توقيت الزيارة وقال بأن (الزيارة في مثل هذا
التوقيت قد تكون سرية بسبب الظروف الحالية إلا أنني كنت
مُصراً على أن تكون علنية لأن زيارتنا للمملكة مفخرة لنا
ونحن نلتقي بخادم الحرمين..). في إشارة الى أنه هو من
جعل الزيارة علنيّة، ولعله أراد إيصال رسالة ما إلى داخل
العراقي وخارجه من أن قائمة العراقية هي الأقدر على ما
أفصح عنه لاحقاً في المقابلة (للخروج من العزلة السابقة
التي حالت دون أن تأخذ الدبلوماسية العراقرية مداها العربي،
وهي ايضاً رسالة واضحة ان العراق القادم مفتوح على دول
الجوار على خلاف العزلة التي فرضها الجانب الحكومي العراقي
على الجانب العربي في الفترة الماضية).
زيارة علاوي والوفد المرافق له من (قائمة العراقية)
والتي شملت سبع دول دول عربية وامتدّت لتشمل تركيا، كانت
تستهدف بدرجة أساسية الحصول على دعم مادي وسياسي في الإنتخابات
العراقية التي جرت في 7 مارس الجاري، وهو ما دفع بها الى
رفع سقف توقّعاتها الى حد الإيحاء بأنها ستسيطر على النسبة
الأكبر من أصوات الناخبين العراقيين، وقد ذهبت إحدى المرشّحات
في قائمة العراقية في مقابلة مع قناة (الجزيرة) القطرية
وبعد أقل من ساعة على إغلاق صناديق الإقتراع بأن القائمة
ستحصد 90 مقعداً من أصل 325 مقعداً في البرلمان العراقي
العتيد، بناء على معطيات زعمت بأنها مستمدة من مزاج الناخب
العراقي، والمراقبين للعملية الإنتخابية، والمشرفين على
صناديق الإقتراع. الغريب أن قائمة علاوي هي أول من بدأت
بالتحذير من عمليات تزوير في الانتخابات البرلمانية، قبل
أكثر من إسبوع من موعد التصويت، بل ذهب طارق الهاشمي الى
حد رفض النتائج في حال ثبت لدى قائمته بوقوع تزوير، بما
يشير الى أن ثمة نوايا مبيّتة لدى القائمة بخوض معركة
سياسية وأمنية بعد الانتخابات في حال لم تحقق (القائمة
العراقية) النتائج التي تريدها، أو في حال الخسارة، وبالتأكيد
ستعبّر عن نزاهة الانتخابات في حال الفوز.
لعبت قائمة (العراقية) على الورقة الطائفية، رغم أنها
في العلن حاربت ما تعارف عليه عراقياً (المحاصصة الطائفية)،
وزعمت بأنها حققت أكبر انسجام في قائمتها على اساس استيعاب
الأطياف كافة، ودخلت حسب العلوي (بقائمة موحدة سنّية وشيعية
كشراكة حقيقية وليس ديكوراً كما حصل لغيرها..)، ونتوقف
هنا عند (لغيرها) التي تومىء، دون ريب، الى الإئتلافين
الآخرين: دولة القانون برئاسة المالكي، والإئتلاف الوطني
برئاسة عمار الحكيم، وهذا من شأنه أن يستجلب دعماً من
الحكومة السعودية وعدد آخر من الحكومات العربية مثل مصر
والأردن وغيرها.
لم تخلُ زيارة علاوي الى السعودية من طرافة أيضاً،
ففي ردّه على انتقادات السياسيين العراقيين الذين شكّكوا
في أهداف زيارته الى الرياض واعتبروها محاولة للحصول على
دعم من أطراف خارجية في الانتخابات، قال علاوي في تصريح
له نشر في 23 فبراير الماضي بأن الزيارة (كانت للتباحث
حول أوضاع المنطقة ومناقشة خطر تنظيم القاعدة المتزايد).
وقال (لقد أثيرت ضجة مفتعلة من قبل بعض العناصر الحاكمة
حول زياراتي إلى عدد من الدول العربية للتباحث عن الاوضاع
العامة في المنطقة). وأضاف أن (اللقاء الذي جمعه مع العاهل
السعودي يتعلق بالإرهاب والارهابيين وتحديدا تنظيم القاعدة
الذي بات يهدد ليس العراق وحسب وانما كلا من الصومال والسودان
واليمن). مناقشة موضوع القاعدة يتناسب مع حضور الأمير
مقرن في لقاء الملك وعلاوي باعتبار القضية أمنية، ولكن
المصيبة أين يضع علاوي نفسه من ذلك كله؟
وفي هذه التصريحات مايفتقر الى الدبلوماسية الرصينة،
إذ لم يكن يتوقّع من علاوي الذي لا يعدو أن يكون نائباً
في البرلمان العراقي أن يناقش موضوعات هي من اختصاص السلطة
التنفيذية التي يرأسها نوري المالكي. ومهما بلغت درجات
التنسيق بين علاوي والسعودية ورئيس جهاز مخابراتها العامة
مقرن بن عبد العزيز، فإن ذلك لا يخوّله الحديث عن موضوعات
أمنية هي من صلب عمل الحكومة العراقية، ما لم يكن قد حصل
على تفويض منها لمناقشة هذا الملف، أما أن يكون يناقش
في أوضاع المنطقة وامتدادات الإرهاب الممتدة من اليمن
الى الصومال، فذاك موضوع يعتبر فارطاً في طرافته.
على أية حال، فإن رئيس الماكينة الإعلامية لقائمة (العراقية)
حسن العلوي هو من حدّد في مقابلته مع صحيفة (الرياض) هدف
الزيارة، قبل أن يفصح السياسيون العراقيون عن شكوكهم منها.
وبالتالي فإن من وصفهم علاوي بالعقول المريضة التي (أرادت
ان تربط ذهابي بالانتخابات..)، تصيب أقطاب قائمته أولاً.
خلاصة الكلام، أن السعودية دخلت على خط الانتخابات
العراقية عبر إمبراطوريتها الاعلامية، ومالها السياسي،
وأخيراً لقاءاتها العلنية والمباشرة مع رؤساء كيانات إنتخابية.
وفيما يستحضر المراقبون ما جرى في الانتخابات البرلمانية
اللبنانية في يونيو من العام الماضي، فإن النتائج التي
ترجو الرياض تحقيقها ستصيبها بخيبة أمل أخرى، لأن مياه
الأنهار، كما التاريخ، لا تعود الى مصابها مرة أخرى.
|