السعودية متأخرة.. الى العراق
الإنتخابات ونهاية الوهم السعودي
خالد شبكشي
فتحت الإنتخابات العراقية الأخيرة ـ أياً كان رئيس
الوزراء القادم ـ الباب واسعاً لفكّ الحصار السياسي عن
العراق من قبل الدول العربية، المعتدلة والممانعة على
حدّ سواء.
حتى الآن، فإن معظم دول المشرق العربي فتحت سفاراتها
في بغداد، بما فيها مصر وجميع دول الخليج عدا قطر.
لكن من فتح سفارته هناك، كالأردن، فإنما تحت ضغط الحاجة
الى المال العراقي. وعادة ما يوصف الأردن، بأن تطوره قام
على أساس تدمير العراق. ويصف السياسيون الحكم في الأردن
بأنه منشار، يأكل في العراق وقت السلم ووقت الحرب، دون
أن يقدّم اليه سوى احتضان البعثيين، وأصحاب الملايين الذين
منحوا إقامات في الأردن، ومنعوا الضعفاء والفقراء من ذلك.
النفط العراقي المجاني أو الرخيص لازال يتدفق على الأردن،
كما كان في عهد صدام حسين، وكل ذلك بضغوط من أميركا، في
حين لا يقدّم الأردن الى العراق سوى المفجّرين، والإعلام
المضاد المحرّض على العنف، والمؤيد للزرقاوي الى أن أخطأ
هذا الأخير، ففجّر فنادق عمان، فكان مصيره القتل، عبر
المخابرات الأردنية التي سلمت المعلومات التي لديها عنه
الى القوات الأميركية.
سوريا، الخائفة من تكرار سيناريو الإحتلال الأميركي،
كانت بوابة معظم العنف للداخل العراقي. فعبرها دخل السعوديون
الوهابيون والبعثيون الى العراق؛ وعبرها دخلت الشاحنات
المفخخة لتفجّر في الأسواق وأماكن العبادة، ومنها كانت
الخوّات على المال السعودي الذاهب الى الداخل العراقي
لتخريب الوضع الجديد، أو الذي كان جديداً.
سوريا، كما السعودية، كما إيران، كانت تعمل بجهد لتخريب
الوضع العراقي الداخلي، حتى لا يفكر المحتلون في التمدد
اليها. وللحق كانت مساهمة السوريين في العنف العراقي كبيرة
للغاية وإن كان برجال من غيرهم، وإنما وهابيين سعوديين.
وحين انفجر الوضع، وظهر عوار الوجود الأميركي وضعفه، وانخفضت
المخاوف لدى تلك الأنظمة المحيطة بالعراق، انخفضت معها
حدّة العنف المحلّي، وإن لم تنته.
على الأرجح، فإن سوريا التي فتحت سفارتها في العراق
قبل نحو عامين، لا تزال تراهن على عودة البعث العراقي
الى الحكم، وهي لا تخفي اصرارها على استخدام أوراقها بما
فيها العنف في التفاوض مع النظام الجديد الذي اتهمها (المالكي)
بأنها رعت التفجيرات السوداء في العراق قبل نحو أربعة
أشهر.
أيضاً، فإن السعودية تعتبر أكثر الدول العربية تخوّفاً
من العراق. فحتى مع غياب الخطر العنفي القادم من المؤسسة
العسكرية العراقية، أو من الأميركي المقيم من العراق،
فإن العراق يمثل خطرين للسعودية: أولهما ديمقراطية العراق
غير مريحة له، مثلما هي غير مريحة لنظام البعث السوري.
وثانيهما له علاقة بالميزان الطائفي؛ فمنذ البداية لم
تقبل السعودية وجود حكام شيعة للعراق، سواء جاؤوا بالإنتخاب
او بالقوة، وسواء كان هؤلاء أكثرية أم أقليّة. وهوس السعودية
بالموضوع الطائفي، وفي ظل تزايد النفوذ الإيراني في العراق،
جعلها تنافس إيران بصورة معاكسة. إيران تبحث عن حلفاء
عراقيين من كل الأشكال والألوان السياسية، والسعودية تبحث
سبل تخريب العملية السياسية من أساسها. لا عجب أن يطلب
سعود الفيصل من أوباما بعيد انتخابه، بأن يصلح ما أفسده
بوش، في إشارة الى تغيير نظام الحكم في العراق، متجاهلاً
حقيقة أن الشعب العراقي صعب المراس، وأن اميركا وإيران
لا تستطيعان إعادة عقارب الساعة الى الوراء. وهو ما أوضحته
الإنتخابات العراقية الأخيرة، والتي أثبتت أن العملية
السياسية رغم تدخل العامل الأجنبي لم يغيّر في مساراتها
إلا بشكل طفيف للغاية.
العراق كان محاصراً سياسياً على الصعيد العربي طيلة
السنين الماضية. لم تقم الجامعة العربية او الدول المجاورة
حتى بإدانة القتل الجماعي في التفجيرات التي تحدث. وحتى
تلك الدول التي فتحت سفاراتها في بغداد، مثل مصر، واستلمت
خمسة مليارات عقود من حكومة بغداد، مع وعد بخمسة مليارات
أخرى، لم تكن إلا أداة بيد السعودية المحاصرة للحكم القائم.
لم تكن أمريكا قادرة على إقناع السعودية ومصر والأردن
على تغيير نهجها بشأن الوضع في العراق، وقد اعتاد حلف
الاعتدال الأميركي الإستجابة بشأن كل القضايا السياسية
تقريباً، إلا في الموضوع العراقي، فإن الدول العربية المعتدلة
ظهرت لها أنياب ورفضت الإنصياع، وفي مقدمها السعودية التي
رأت أن ليس لها مهمّة في الكون إلا مكافحة الشيعة وإيران،
وقد رأتهما شيئاً واحداً، ووضعت الجميع في سلّة واحدة.
كان موقف المعتدلين العرب أفضل هدية قدّمت لإيران،
فقد استفردت بالوضع العراقي، وكان الأميركي يريد الحضور
العربي لموازنة النفوذ الإيراني، ولكن لا العين ترى، ولا
الأذن تسمع.
النظام العراقي في عهد المالكي حقق نجاحات على مستوى
الأمن، فتم في عهده تصفية رؤوس القاعدة وفي مقدمهم الزرقاوي
بالتعاون مع الصحوات السنيّة، كما استطاع المالكي وبصورة
كبيرة تدمير القوة الأساسية لمقتدى الصدر وأرسله منفياً
للخارج، بعد معارك مفتوحة شملت المحافظات الجنوبية العراقية
خاصة محافظة البصرة. وقد اكتسب المالكي سمعة حسنة في نظافة
اليد، وفي بناء الدولة، وكرئيس وزراء حازم.
وفي الوقت الذي تخوّفت فيه السعودية من الانسحاب الأميركي
من العراق، وكانت تصرّ على بقاء القوات الأميركية، كرادع
لنظام الحكم هناك، أو كضاغط لتغيير معادلة السياسة المحلية،
أو ككابح للنفوذ الإيراني، فإن القرار بالإنسحاب قد اتخذ
منذ عهد بوش، وكان ذلك الانسحاب ونجاحه معلقاً على مجريات
الإنتخابات العراقية التي تمت في السابع من مارس الجاري.
معنى هذا، أن على السعودية أن تقلع شوكها بنفسها. فالأميركيون
كانوا ولازالوا غير معنيين بموقف الحكم السعودي أو المصري،
وبالتالي فإن الحضور السعودي بشحمه ولحمه لا بد أن يكون
في بغداد، بدل النيابة الأميركية!
لكن السعودية إنما تأتي متأخرة الى ساحة لم يكن لها
في سابق التاريخ أي نفوذ أو تواجد. هي ساحة جديدة على
السعوديين، بل كانت ساحة معادية لهم مذهبياً وسياسياً
منذ فجر تأسيس الدولة العراقية عام 1921م. ويأتي السعوديون
بعد أن أضاعوا أوراقهم وصداقاتهم الممكنة والمحتملة، وبعد
أن وضعوا التصنيف الطائفي والعرقي حادّاً مانعاً لهم من
الإلتقاء مع الآخرين، بل كانوا في واقع الحال قد أظهروا
سخريتهم وتقزّزهم وعدم احترامهم وفجاجتهم من القيادات
العراقية بشكل عام.
تأتي السعودية الى العراق، ولا صديق لديها واضح بين
الأكراد (السنّة، الذين تناستهم في عنصرية بغيظة)!
وتأتي ولا صديق لها بين القيادات الشيعية، فقد صفعت
علاوي من قبل على وجهه!، ورأت نفسها وخيلائها غير قادرين
على أن يسمحا لها بفتح علاقة طيبة مع الجعفري، ثم مع المالكي
الذي قام بأول زيارة له بعد انتخابه اليها.
كان كل الرهان، أن يحدث الإنقلاب المعجزة، فيعيد انقلاب
عسكري أو تعيد القوة العسكرية، أو الإرهاب عقارب الساعة
الى الوراء فتصبح الأكثرية الشيعية والكردية محكومة لنحو
15% من السنّة العرب، أكثرهم يتهم السعودية بتدمير العراق!،
وكان ذلك حلماً مستحيلاً.
أيضاً لم تقم السعودية علاقات طيبة مع القيادات السنيّة
الأساسية، كقيادات الحزب الإسلامي، ولم تعمد الى تجميع
القوى، بل الى اقتناص بعض الأفراد القياديين للقيام بمهمات
يعجز عنها أولو العزم! اللهم إلا التخريب والتدمير. كان
المال السعودي يتدفق، وكذا وهابيو التطرف والتفجير والإنتحاريين،
ولكن كل ذلك لم يصنع مكانة للسعودية، بل انقلب الى سخط
شعبي عارم ضدّها، الى حدّ يمكن معه القول اليوم انه لا
يوجد نظام عربي مكروه بين العراقيين مثل النظام السعودي.
لكن السعوديين، الذين لم يقبلوا بعلاّوي، البعثي الشيعي
رئيساً للوزراء، تألموا لخسارته بعد أن فات الوقت وأصبح
المالكي مكانه. ومنذ نحو عامين، اقتنع السعوديون بأن إعادة
التاريخ الى الوراء يتطلب استخدام علاوي. وقد استخدم فعلاً
بادئ الأمر في تخريب العملية السياسية وإفشال مهمة المالكي،
كما كشفت عن ذلك أحداث الزركة التي تواطأت في اشعالها
المخابرات السعودية وعلاوي، والتي أدت الى مقتل المئات.
فلما تبيّن للسعودية ان العنف لن يغير المعادلة السياسية،
صار الرهان على علاوي كقطب سياسي تتجمع حوله القوى السنيّة
العربية، والشيعية النافرة من الأحزاب الشيعية الدينية،
ويقبل به البعثيون، وهكذا كان.
لكن يبدو أن السعوديين ليس أمامهم بعد أن جرت الإنتخابات
إلا القبول بنتائجها. ونقصد بـ (القبول بنتائجها) القبول
بالعراق كما هو الآن، لا كما يتخيّله السعوديون. أي القبول
بديمقراطيته، رغم نواقصها، والقبول بالتعددية فيه، والقبول
برموزه وتاريخه. وأهم معاني القبول: الكفّ عن الحرب الإعلامية،
والإرهابية الموجهة إليه، والكفّ عن مضايقته اقتصادياً
عبر ديون حروب صدام، وايضاً الكف عن الحصار السياسي، خاصة
وأنه تحوّل الى حصار دعاة الحصار أنفسهم (السعوديون والمصريون).
يمكن للسعودية ومصر أن تأتيا الى العراق وتعمدا الى
بناء نفوذهما الشرعي فيه، وأن تربحا العراق اقتصادياً
وسياسياً.. أما سياسة ليّ الذراع فلا تفيد وهي لم تفد
النظامين.
غير أنه ينبغي الإنتباه الى حقيقة أن السعودية حين
تأتي الى العراق، فإنها تأتيه والعراق في أوج قوته منذ
سقوط صدام حسين، بينما هي في أدنى حالات ضعفها السياسي
إقليمياً ومحلياً منذ ذلك السقوط.
العراق، ثالث أكبر مخزون نفطي في العالم، بثلاثين مليون
نسمة، وبتراث استقلالي عريق، يعجز الأميركيون والإيرانيون
من التحكّم فيه. هذه الدولة الواعدة، تضم بين جنباتها
سفارات كل دول العالم، وهي ليست بحاجة ماسّة الى سفارة
سعودية تفتتح، ولا الى شهادة سعودية في الإستقلال والكرامة
والتنمية، فضلاً عن الديمقراطية، فهذه كلها لا يملكها
السعوديون، فضلاً عن أن يمنحوا شهادات فيها.
|