تحوّلات المملكة بين دعاية الأمراء وحقائق الناس
سعد الشريف
من تنتدبهم السعودية للخارج للترويج للتطوّر المزعم
في المملكة، أشبه ما يكونوا بالفواكه المصدّرة للخارج،
التي عادة ما تكون متميّزة كونها خاضعة لشروط التصدير،
فيما لا تجد أثراً لها أو نظير في الأسواق المحلية. أو
هي أشبه بمعامل تابعة لشركات أجنبية يعمل فيها موظّفون
محليون ولكن منتجاتها مخصصة للأسواق الخارجية، والسبب
هو ببساطة أن الأيدي العاملة في بعض البلدان رخيصة بالمقارنة
مع الشركة في بلد المنشأ.
كل الذين يتحدثون في منتديات عالمية وخصوصاً أوروبية
وأميركية عن تحوّلات تقودها الدولة السعودية ممثلة في
الملك عبد الله لا تجد أصداء لهم في الأوساط الاجتماعية
وليس الاعلامية في الداخل، لأنها بمثابة شهادات زور على
واقع لم يتحقق، أو هي مجرد قائمة تمنيات يراد تسويقها
على أنها وقائع. والحال، أن الهدف ليس أكثر من تلميع صورة
دولة باتت عاجزة عن تسويق نفسها، بفعل الاقترافات التي
ترتكبها في الداخل والخارج وتقدّم الصورة الحقيقية عن
السعودية، بوصفها مصدراً للتطرف الديني، والاستبداد السياسي،
وأبرز من يصدق عليه نظام قمعي مصادر للحريات الفردية والعامة،
ومناهض للإصلاح السياسي.
نصدّق أن ثمة تحولات كبيرة ولافتة في المجتمع، ونصدّق
أنها تلعب دوراً الآن في قيادة الدولة الى قرارات هامة
في الفترة القريبة المقلبة..ونصدّق كل ذلك وأكثر منه،
ولكن حين نستمع إلى وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل
وهو يتحدث لوسائل إعلام أجنبية عن صورة السعودية، يصيبنا
اليأس ونقرر التراجع عن إقرارات سابقة. لم ننس وقتئذ تصريحه
بعد يوم من اعتقال الاصلاحيين في منتصف مارس 2004، حين
قال (الآن بدأ الاصلاح)، في قلب لحقائق كثيرة منها أن
اعتقال الاصلاحيين أجهض فرصة الإصلاح، ووضع حداً حتى للحديث
عنه. ويذكّرنا بكلام لأخيه الأمير تركي الفيصل بعد تعيينه
سفيراً في لندن في مقابلة مع اذاعة بي بي سي القناة الخامسة،
حين اعتبر أن ما يحول دون تقدّم الدولة وتحوّلها السياسي
بوتيرة متسارعة هو المجتمع نفسه، على أساس أن العائلة
المالكة لديها من الأفكار الإصلاحية والتحرّرية أكثر مالدى
أي جهة أخرى، وأنها متقدّمة على المجتمع.. ليته صدق ولم
يخيّب هو وأخوه آمال غالبية الناس التي كان ينتظر منهما
تأييد الاصلاح السياسي بدلاً من التحوّل الى بوق وهمي.
من المفارقات المثيرة أن يضطلع أبناء الملك فيصل (سعود
وتركي وخالد وأخيراً لؤلؤة) مهمة إعادة طلاء صورة الدولة
السعودية في الخارج. قد ينظر المراقبون الى ذلك من جهة
أن هؤلاء هم الأكثر تعليماً من بين أحفاد عبد العزيز،
والأقرب الى ذهنية الغرب، فهم يحظون، أكثر من غيرهم، باحترام
وتقدير الدوائر السياسية والإعلامية والثقافية الغربية،
إلى جانب اتقانهم اللغة الانجليزية. بيد أن هذا الدور
بات مكلفاً في الداخل، فقد تسبب في إحداث تشويه للدور
الافتراضي الذي يمكن أن يلعبه هؤلاء في الحراك السياسي
والثقافي الداخلي عوضاً عن الانغماس في أدوار فادحة الأثر
والنتيجة. فهل يعقل أن يتحوّل سعود وتركي الى جبهة التشدد
في العائلة المالكة، وإن بدا المشهد موارباً من حيث أن
سعود الفيصل يقود السياسة المتشدّدة ضد إيران فيما يضطلع
تركي الفيصل بمهمة خلق مناخ التطبيع مع الدولة العبرية.
في حديث وزير الخارجية سعود الفيصل مع صحيفة (نيويورك
تايمز) في 3 مارس عن وتيرة التحوّلات الداخلية في السعودية،
بدا وكأنه يحاول فصل المؤسسة الدينية الرسمية عن الدولة،
في محاولة لإعادة تركيب المشهد السعودي، وتقديمه على أنه
يشهد تحوّلات تاريخية بما يوحي وكأن الدولة هي من تقف
وراء ذلك، وليس قوى الاصلاح المحلية التي تخوض معركة مع
الدولة من خلال المنازلة مع حليفها الديني.
لدى سعود الفيصل مفهوم مختلف عن الليبرالية، فهو حين
يقول بأن (عجلة التقدم والانفتاح لا رجعة عنها وان جهود
بناء مجتمع ليبرالي بدأت) وضع ذلك في سياق مختلف، حين
عقد مقارنة بين السعودية والدولة العبرية، على أساس انفتاح
الأولى وتشدّد الثانية. قد يحمل البعض هذه المقارنة على
نفي المقولة السائدة بأن اسرائيل دولة ديمقراطية في محيط
استبدادي، ولكن كلماته واضحة فهو يتحدث عن انفتاح وتشدّد،
وكأنه يلمح الى قضية سياسية أكثر من كونها إجتماعية أو
ثقافية، إذ لا يمكن مهما قيل عن طغيان وعدوانية الدولة
العبرية، فهي بلا شك أكثر انفتاحاً على مستويات إجتماعية
وثقافية وإعلامية من السعودية، بل لا قياس بينهما في هذا
الشأن.
ربما تكون النقطة المفصلية في كلامه للصحيفة الأميركية
قوله (أن المطاوعة ورجال الدين الذين ينفثون فتاويهم بين
فترة واخرى يعبرون عن احباط ولا قدرة لهم لاعادة عقارب
الساعة للوراء). وهذا صحيح، لولا أنه يصح صدوره عن مثقف
إصلاحي عانى من ويلات فتاوى التكفير، التي في الغالب تصدر
بغطاء من الدولة التي يمثّلها سعود الفيصل، وبالتالي فكلامه
ليس أكثر من مصادرة ثقافية لنضال الاصلاحيين طيلة عقود،
وتصاعد في السنوات الأخيرة، فهو لم يكن أكثر من ناقل لحقيقة
لم يكن هو من صنعها وليست الدولة وإنما هي حصاد المعاناة
التي عاشها المثقفون والإصلاحيون، وهم وحدهم من صمد في
وجه الذين عكفوا لفترة طويلة على استصدار فتاوى التهويل
حتى أصابهم الإحباط بفعل صمود التيار الإصلاحي العريض
في المجتمع.
ينسحب الأمر أيضاً على كلامه في موضوعة قيادة المرأة
للسيارة، حين صادر نضال مئات النساء اللاتي ناضلن من أجل
إرغام الدولة على الاقرار بأبسط حقوقهن في الحياة، ومنها
الحق في استعمال وسائل المواصلات والاتصال بما يحقق حاجاتهن
ويحول دون تعريضهن للإبتزاز من قبل الغير. في سؤال الكاتبة
والمعلقّة في صحيفة (نيويورك تايمز) مورين دوود التي أمضت
عشرة أيام في السعودية لرصد ظواهر التحول في الداخل، عن
موعد السماح لهن بقيادة السيارة وهل هو قريب، وبإمكان
المرء أن يضع السؤال أيضاً في مقارنة سعود الفيصل بين
دولته والكيان العبري، أجاب بالقول (آمل ذلك)، ولكنه تنبّه
إلى أن الإجابة تنطوي على أمد مجهول، كيف وهو يتحدث عن
وتيرة متسارعة في التحوّل الداخلي فخاطب الصحافية قائلاً
(في الزيارة القادمة إحضري معك رخصة سياقة دولية). نتمنى
أن لا يوضع إسم الصحافية في قائمة الممنوعين من دخول المملكة،
أو أن يطول غيابها لسنوات قبل أن يسمح لها بالدخول الى
المملكة حتى لا يتأخر موعد السماح للنساء بقيادة السيارة
في الحد الأدنى، قبل أن يسمح لهن بالمشاركة في صنع القرار
السياسي.
كانت الصحافية متشائلة من كلام سعود الفيصل، وهذا طبيعي،
لأنه اعتاد أن ينقل صورة وردية عما يجري في الداخل، إضافة
الى خبرته الطويلة مع الصحافة الأميركية ما يجعله قادراً
على (الخداع). ومع ذلك، خرجت مورين دوود من المقابلة بانطباع
موارب، وأشارت الى ما وصفه موجة تنوير جديدة في البلاد،
ودائماً في مقابل النزعة اليمينية المتطرّفة في اسرائيل،
ولا نعرف سبباً للإصرار على استحضار النموذج الاسرائيلي
في كل مرة، هل لذلك علاقة بالمشتركات بين الدولتين أو
بالتطبيع؟ ربما. الصحافية استعادت الصورة الأوليّة لكل
من الكيانين، السعودي والاسرائيلي، وقالت بأن (المثير
في حديث الوزير الأمير أن بلده دولة حكم ملكي مطلق تحكم
أكثر دولة تديناً وتعصباً على وجه البسيطة، أما الدولة
الدينية والإضطهادية اسرائيل فهي دولة ديمقراطية). وكأنها،
بموجب هذا التصوير، تريد القول بأن مقارنة الأمير سعود
الفيصل باطلة ولا معنى لها.
ماجاء في تفاصيل المقارنة هو ما استوقف الصحافية، حين
قال الأمير بأن البلاد تعيش مرحلة (تحلل من قيود الماضي)
وتتحرك ناحية (إنشاء مجتمع ليبرالي)، أما في المشهد الاسرائيلي،
حسب قوله، فإن ثمة تحرّكاً (نحو مجتمع يحدد ثقافته وسياسته
الدين مما يشكل له حسا متطرفا بالهوية الوطنية وأن هذا
المجتمع يتحرك نحو حافة الغليان). وهنا لفتة هامة أوردها
الأمير دون شعور، فكأنه يقارن بين نزعتين دينيتين متطرفتين
في كيانين ينظر مراقبون الى وجود مشتركات بينهما، ومنها
أن كلاً منهما يستمد مشروعيته من دعوى دينية تنزيهية وفي
نفس الوقت إقتلاعية.
|
آل الفيصل (سعود، تركي، خالد،
لولوة): بوق السعودية الدعائي في الخارج |
كل ما شغل ذهن الأمير سعود الفيصل أن المؤسسة الدينية
الاسرائيلية تقوم بإحباط كل محاولة للسلام، وهذا صحيح،
لكونها تتمتّع باستقلالية الى حد كبير، على العكس من المؤسسة
الدينية السعودية، التي صدرت عنها فتاوى متضاربة بحسب
السياسات المتنباة من قبل الحكومة السعودية، لأنها مؤسسة
تابعة وخاضعة لإملاءات الدولة، فبعد أن كانت هناك فتوى
تحرّم الصلح مع اليهود في اسرائيل، تبدّلت الفتوى الى
الجواز بحسب المصلحة.
على أية حال، فإن الصحافية دوود استحضرت مفاهيم وردت
في كلام الأمير سعود الفيصل لتضعه في نصابه الفكري والسياسي،
فكلامه عن التقدّم في المملكة لم تأخذه على عواهنه، بل
وضعته على محك مارصدته من مشاهداتها اليومية، فقد لاحظت،
مثلاً (أن السعوديين يتحركون بعيداً عن التمييز العنصري
ضد المرأة والاضطهاد وإن كان تحركاً بطيئاً بمقاييس حركة
مجرة جليدية). وتمضي في تعليقها بما نصه (فلا زالت القوانين
الصارمة ومحاولات تقييد الحريات)، وتسجّل ملاحظة هنا يوم
وصولها الى الرياض حيث (ترافق مع محاولات هيئة الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكربمنع الاحتفال بعيد الحب)، حيث وصفتها
بأنها (مجزرة عيد الحب)، إذ قام المطاوعة بمنع الورود
الحمراء والدمى وداهموا المحلات التي وضعت مصابيح مشعة.
وأشارت إلى تصريحات علماء قالوا بأن الإحتفال بالعيد صورة
آثمة لأنه يشجّع العلاقات غير السويّة أخلاقياً بين الرجال
والنساء.
ترصد إرهاصات تحوّل مثل السماح للمحاميات بممارسة مهنة
المحاماة عبر الظهور في المحاكم للدفاع عن قضايا تتعلق
بشؤون المرأة وبموكلات من النساء، وكذلك افتتاح جامعة
كاوست للعلوم والتكنولوجيا، ومشاريع الاسكان المفتوحة
التي تسمح بالتواصل الاجتماعي بحرية. ولكنّها تعلق بالقول
(وتظل الانجازات والتحولات خطوات تشبه خطوات الطفل الاولى
ومع ذلك تعتبر محفزات للتغيير). وتستدرك دوود للقول بأن
الخطوات الصغيرة في المملكة بالمقارنة مع العالم الخارجي،
تعتبر في هذا المكان بالذات تغيّرات إجتماعية (كارثية).
هذه الصورة الخلافية، تكرّرت في كلمة الأمير لولوة
الفيصل، شقيقة الأمير سعود الفيصل، في مجلس الشيوخ الفرنسي
في 11 مارس الجاري، وبحضور شقيقها الأمير خالد الفيصل،
أمير منطقة مكة المكرمة ونخبة من السعوديات والسعوديين.
الكلمة بعنوان (نظرات في المجتمع السعودي)، جاءت استعراضية
بكل مافي الكلمة من معنى، من خلال الحديث عن المنجزات
(حتى لا نخطأ ونقول الاصلاحات) السياسية والاقتصادية والاجتماعية
والثقافية.
هذه الفعالية حدثت تحت رعاية رئيس مجلس الشيوخ الفرنسي،
جيرار لارشيه، و بمبادرة من (معهد إستراتيجيات التنمية
الثقافية) و(المجموعة البرلمانية للصداقة بين فرنسا- السعودية
- دول الخليج)، التي يرأسها عضو مجلس الشيوخ، السناتور
فيليب ماريني. وجاء في بيان المجموعة البرلمانية الفرنسية
بأن السعودية مكوّن رئيسي في منطقة الشرق الأوسط، وأنها
(كثيراً ما تتناول من الناحية الجيوسياسية أو من الزاوية
النفطية، لكن معرفة المجتمع لدى الفرنسيين من حيث تطور
المجتمع السعودي لا تزال مجهولة أو سيئة المعرفة). فالهدف
بحسب البيان (تحسين معرفة المجتمع السعودي، من خلال الاستفادة
من شهادة مسؤولين سعوديين و إلقاء الضوء على التغييرات
والإصلاحات التي شهدتها المملكة)، خاصة منذ تسلم الملك
عبد الله مقاليد الحكم في أغسطس 2005.
خالد الفيصل كان أحد المشاركين وكان، شأن الأمير سعود
الفيصل، مبالغاً بإسراف في تصوير التحولات الاجتماعية
والثقافية والسياسية في المملكة، وكأنها (هبات) من الملك
والعائلة المالكة للشعب، وليست حصيلة نضالات قوى إصلاحية
بدرجة أساسية. تحدّثت الأميرة لولوة عن مسيرة تعليم البنات
والتحوّلات التي مرت بها، وتحدّثت الدكتورة إلهام دانيش،
موظفة في وزارة الخارجية السعودية، عن (دور المرأة في
المجتمع المدني)، فيما تحدثت الصحافية لينا المعينة عن
(المرأة والرياضة)، و تناولت سمر فطاني، التي تعمل في
إذاعة جدة، موضوع (المرأة والإعلام)، بينما خصّصت الدكتورة
أفنان الشعيبي، الأمين العام للغرفة التجارية العربية
- البريطانية، كلمتها للحديث (دور المرأة في الاقتصاد
السعودي). بكلمة أخرى، أن الكلمات تندرج في إطار حفلة
دعائية عن المملكة. وهي كما أشارت دوود الى أن الجزء الحقيقي
منها قليل والباقي يتراوح بين تمنيات أو شهادات زور لواقع
لم يتحقق على الأرض، سوى في الصور الافتراضية التي ينقلها
المنتدبون والمنتدبات الى الخارج.
صورة أخرى عن المجتمع
في مقالته في صحيفة (الوطن) في 5 مارس الجاري، بعنوان
(الاحتقان العام في المجتمع السعودي) كتب سعود البلوي:
المجتمع السعودي مجتمع شابّ، إذ يشكّل الشباب نسبة
كبيرة من مجموع المواطنين بحسب بعض الإحصائيات، كما أن
متوسط أعمار السعوديين زاد عن الماضي، فأصبحت فرص الشباب
في بناء الوطن أكثر من آبائهم، وخاصة أن السعوديين بشكل
عام باتوا أكثر وعياً بذواتهم، وبالعالم من حولهم، وخاصة
بعد الثورة الهائلة في وسائل الاتصال والتواصل التقني
التي فرضت ظروفاً جديدة في عالم متشابك، يختلط فيه الواقعي
بالافتراضي، فكان لزاماً على الفرد التعبير عن نفسه والتفكير
بما يدور حوله.
ولكن هذا المجتمع يعيش احتقاناً فرضته ظروف سابقة،
وبعد الانفتاح الذي أصبح يعيشه أصبح هناك حاجة إلى بعض
أشكال (التفريغ)، إذ يمكننا ملاحظة مدى تأثير الاحتقان
العام في المجتمع السعودي على سلوكيات بعض الأفراد، سواء
في الأماكن العامة التي غالباً ما يلجأ الأفراد فيها إلى
الانضباط، إلا أن الجو العام يوحي بهذا الاحتقان الذي
يمكن أن نقرأه، ليس من خلال الحوادث الفردية التي نراها
في الشارع أو في الأماكن، بل من خلال بعض الحوادث التي
تأخذ طابع الرأي العام، كمحاولات الإنتحار علناً، أو الاعتداء
على الممتلكات العامة- كما حدث في الخبر- أو تعبير زوجين
عن خلافهما من خلال لافتات تعلق في المرافق العامة، ويمكن
للراصد أن يتتبع صوراً مختلفة عبر مواقع الإنترنت والقنوات
الفضائية الشعبية...
أما في اجتماعات الناس ولقاءاتهم الخاصة فإن الأحاديث
غالباً ما تأخذ شكل الحوار والاختلاف في الرؤى التي لا
تتمحور حول أوضاعهم الخاصة، بقدر ما تعبر عن الوضع العام،
ليس فقط على المستوى الاجتماعي أو الاقتصادي الذي أصبح
يفرض نفسه كواقع يؤثر على الحالة النفسية للفرد والمجتمع
على السواء، وإنما أيضاً على المستوى السياسي والوطني
في ظل الظروف الإقليمية والدولية الراهنة، وأصبح السعوديون
أقل تحفظاً من التعبير عن آرائهم، إذ غالباً ما يتحدثون
بشفافية أكثر عن أمورهم الداخلية، يحللون الأوضاع ويحاولون
قراءة المستقبل، وربما تحدثوا عن البحث عن فرص أفضل للعيش
والعمل والدراسة في الخارج، وغالباً ما تكون الأسباب الاقتصادية
والاجتماعية والثقافية المحرك الرئيس لذلك، ولكننا في
كثير من الأحيان نستشف تذمراً من الفساد، وشعوراً بضرورة
فرض الإصلاح من خلال التغيير الإيجابي، خصوصاً بعد أن
بلغت بعض الخطط الحكومية السابقة معالم غير واضحة رغم
كل الجهود التي بذلت.
فبعد سيول جدة وأحداثها كان من الضرورة بمكان إتاحة
الفرصة للإعلام كي يجسد سلطته، فلعب الإعلام الرسمي وغير
الرسمي دوراً في تتبع الفساد ومحاولة الكشف عنه، مع وجود
قناعة بأن بؤر الفساد قد لا تنتهي بسهولة، فآخر المؤشرات
السيئة ما نُشر عن فضيحة إحدى الشركات التي قامت بسرقة
النفط وتهريبه خارج مصفاة ينبع على مدى 11 سنة! وهذا ما
يعطي انطباعاً لدى الرأي العام السعودي بأن بؤر الفساد
تعمل كـ"مافياوات" لنهب مقدرات هذا الوطن وتغادر؛ ليشعر
المواطنون البسطاء بأن ثمة من يسرق أحلامهم ويصادر وسائل
قوتهم، مما يكرّس الحديث عن الفساد.
وما يظهر على السطح الاجتماعي العام، يبدو أكثر تعبيراً
عن واقع المجتمع السعودي مما تظهره الصحافة والإعلام الرسمي،
فنتيجة للوعي بالذات والعالم الخارجي لا أحد منا يرى بأساً
من مقارنة واقعنا، كمجتمع، بواقع مجتمعات أخرى قد نصفها
بأنها أفضل، فكثير من السعوديين باتوا يقارنون واقعهم
بالواقع الأفضل لغيرهم، ويأملون أن تكون حياتهم في حاضرهم
ومستقبلهم أفضل مما هي عليه.
وحين نتعمق قليلاً في الوضع، نجد أن هذا الاحتقان قد
يتحول إلى مرض خطير ما لم يتم تداركه، فكثير من الشباب
أصبحوا خطراً على مجتمعاتهم، ليس فقط على مستوى الذين
يسلكون مسلكاً دينياً متطرفاً فتحولوا إلى الانخراط في
الخلايا الإرهابية، وإنما على مستوى أولئك الغاضبين والمحتقنين
الذين يعمدون إلى الانتقام من المجتمع بممارسة الجرائم
المختلفة الخارجة عن القانون، ومنها ما يحدث على الساحة
الثقافية، حيث يمارس البعض (إرهاباً) ثقافياً منذ عدة
سنوات باسم الدين والأخلاق، ومن آخر ما تداولته الصحافة،
إحراق مبنى نادي الجوف الأدبي للمرة الثانية وتهديد رئيس
النادي بالقتل!
في السابق كان الاعتراض يتم بشكل مباشر على إقامة فعالية
أو نشاط، أما الآن فإن التدمير والتهديد بالقتل هو اللغة
المستخدمة في التعبير عن هذا النوع من التشنج والاحتقان.
والأمر ليس أكثر من اعتراض عنيف على مسيرة الإصلاح التي
نتمنى أن تتسارع خطواتها حتى ا يتم فتح المجال أكثر ليتحرك
الجميع في إطار الالتزام الوطني القانوني، وفقاً لرغباتهم
ومتطلباتهم، دون عنف أو احتقان يقع ما بين تدمير المرافق
وقمع الرأي الآخر.
|