المساومة على فلسطين تسقط الدولة العثمانية وتقيم
الدولة السعودية
الفارق بين أردوغان وعبد الله.. موقف تاريخي
عمر المالكي
لمع رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان كشهاب مباغت
في سماء العرب، فكان بداية انكسار الصورة النمطية عن تركيا
العلمانية الحليفة للكيان الإسرائيلي في الشرق الأوسط،
فجاء بروزه تعبيراً احتجاجياً في لحظة كرامة مطلوبة وملحّة.
تعرّف عليه العرب والعالم في مشهد نادر في منتدى دافوس
حول غزة في فبراير 2009، حين عارض بقوة تصفيق بعض الحضور
لكلمة الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز التي برّر فيها العدوان
على غزة، فخطابهم قائلاً: عار عليكم أن تصفقوا لهذا الخطاب،
بعد أن قُتل آلاف الأطفال والنساء على يد الجيش الإسرائيلي
في غزة. ثم توجّه بانتقادات مباشرة إلى الرئيس الإسرائيلي
قائلاً (لقد قتلتم الأطفال في غزة). وقبل أن يكمل بيريز
ردّه وتبريره، لملم أردوغان أوراقه وغادر الجلسة إحتجاجاً
على منح رئيسها وقتاً أطول لرئيس الكيان الإسرائيلي.
المشهد الاحتجاجي ذاك تثبّت في الاعلام العربي الممانع،
فيما بدا الاعتدال العربي الذي تقوده السعودية واهناً
ومشبوهاً، بفعل ما اقترفته الإمبراطورية الإعلامية السعودية
من جرائم في أيام العدوان بتحميلها الضحايا مسؤولية العدوان،
وتحريض الجنود الإسرائيليين على مواصلة جرائمهم بكل الأسلحة
الفتّاكة ضد سكان القطاع، في وقت قاد فيه حكّام آل سعود
حملة سياسية لمنع انعقاد قمة عربية استثنائية لتوحيد الموقف
من العدوان الصهيوني على القطاع، وإبلاغ رسالة احتجاجية
إجماعية للمجتمع الدولي الذي وقف متفرّجاً على مشاهد العدوان
المبثوثة على الفضائيات العربية والعالمية.
أعاد أردوغان عقارب الساعة الى الوراء، وكأنه طوى تسعة
عقود على بدء الحكم العلماني في تركيا، منبهّاً الى تركة
أسلافه العثمانيين الذين عارضوا مشروع الدولة اليهودية
في فلسطين. موقف أردوغان في دافوس لم يكن سورة غضب عابرة،
فقد جاءت مواقف لاحقة له لتؤكّد بأن حكومته تسير نحو سياسة
مختلفة عن الحكومات العلمانية السالفة، وكان آخرها موقف
أردوغان الصريح للقناة التركية تي آر تي في في 5 إبريل
الجاري بما نصّه (لن نسكت إذا حاولوا إعادة حرق غزة)،
وأكّد بمناسبة افتتاح قناة تركية ناطقة باللغة العربية
على أن الأتراك والعرب يمتلكون ثقافة وتاريخاً ومشاعر
مشتركة.
تلك هي الصورة التي رسمها أردوغان خلال عام، وقلبت
الصورة النمطية عن تركيا العلمانية، في وقت بدت فيه السعودية
التي تحاول تزّعم العالم العربي والإسلامي هزيلة وهامشية،
في ظل خطوات تطبيعية متواصلة مع الكيان العبري، بما يثير
السؤال الكبير عن الفارق بين أردوغان القادم من تركيا
العلمانية، والملك عبد الله المتزّعم لدولة دينية.
في المقارنة الأولية بدا الفارق بين أردوغان وعبد الله
كالفارق بين السلطان عبد الحميد الثاني والملك عبد العزيز،
خصوصاً فيما يرتبط بمشروع الدولة اليهودية على فلسطين
التاريخية. هذه المقارنة بدت واضحة حين وقف رئيس الوزراء
التركي رجب طيب أردوغان أمام القمة العربية في مدينة سرت
الليبية يوم السبت (27 مارس الماضي)، وأطلق موقفاً بحجم
القمة إزاء (الإستهتار) الصهيوني بالمقدسات الدينية في
القدس الشريف، وكان حينذاك يستحضر مواقف آبائه وأجداده
من السلاطين العثمانيين الذين رفضوا المساومة على فلسطين،
وإن أعطوا مال الدنيا. ما قاله أردوغان إذن لم يكن طفرة
سياسية أو صحوة عثمانية متأخرة، بل هو الموقف التاريخي
والديني الذي التزموه.
ونقرأ في رسالة بعث بها السلطان عبد الحميد الثاني
الى شيخ الطريقة الشاذلية محمود أفندي أبي الشامات، رداً
على رسالة بعث بها إلى السلطان في 22 مايو 1909، فكتب
له جواباً في 29 سبتمبر 1909 جاء فيها:
(إنني لم أتخل عن الخلافة الإسلامية لسبب ما، سوى أنني
ـ بسبب المضايقة من رؤساء جمعية الاتحاد المعروفة باسم
(جون تورك) وتهديدهم ـ إضطررت وأجبرت على ترك الخلافة.
إن هؤلاء الإتحاديين قد أصرّوا وأصرّوا علي بأن أصادق
على تأسيس وطن قومي لليهود في الأرض المقدسة (فلسطين)،
ورغم إصرارهم فلم أقبل بصورة قطعية هذا التكليف، وأخيرًا
وعدوا بتقديم 150 مائة وخمسين مليون ليرة إنجليزية ذهباً،
فرفضت هذا التكليف بصورة قطعية أيضاً، وأجبتهم بهذا الجواب
القطعي الآتي: (إنكم لو دفعتم ملء الأرض ذهبا - فضلاً
عن 150 مائة وخمسين مليون ليرة إنجليزية ذهباً فلن أقبل
بتكليفكم هذا بوجه قطعي، لقد خدمت الملة الإسلامية والمحمدية
ما يزيد عن ثلاثين سنة فلم أسود صحائف المسلمين آبائي
وأجدادي من السلاطين والخلفاء العثمانيين، لهذا لن أقبل
تكليفكم بوجه قطعي أيضا). وبعد جوابي القطعي اتفقوا على
خلعي، وأبلغوني أنهم سيبعدونني إلى (سلانيك) فقبلت بهذا
التكليف الأخير. هذا وحمدت المولى وأحمده أنني لم أقبل
بأن ألطخ الدولة العثمانية والعالم الإسلامي بهذا العار
الأبدي الناشئ عن تكليفهم بإقامة دولة يهودية في الأراضي
المقدسة فلسطين… وقد كان بعد ذلك ما كان).
|
وبعد مائة عام من تلك الرسالة، عاد أردوغان ليذكّر
القادة العرب بل والعالم بأنه أمين على إرث آبائه وأجداده،
حين قال بأن اعتبار وزراء إسرائيليين أن (القدس الموحّدة
عاصمة لإسرائيل) بأن هذا (جنون وهذا لا يلزمنا إطلاقاً)
وأضاف بأن (القدس هي قرّة عين كل العالم الإسلامي ولا
يمكن قبول اعتداء إسرائيل على القدس والأماكن الإسلامية
إطلاقاً)، وختم بالقول (إن احتراق القدس يعني احتراق فلسطين
واحتراق فلسطين يعني احتراق الشرق الأوسط).
قال أردوغان ما لم يقله أي قائد عربي، رغم أن بلاده
مرتبطة باتفاقيات سياسية أمنية واستخبارية بالكيان الإسرائيلي،
ولو ترك وشأنه لما دخلت حيز التنفيذ.
الفارق بين أردوغان وعبد الله أن الأول يعتمد على سجّل
صلب من المواقف التاريخية التي رغم علمنة الدولة فإن انتمائه
إلى حركة دينية تستلهم جزئياً على الأقل من تراثها الإسلامي
العثماني، بما يفرض عليه اقتفاء سيرة أسلافه، ولذلك نظر
الى فلسطين باعتبارها أمانة ومسؤولية تاريخية ورثها من
أجداده وتعامل معها على هذا الأساس.
في المقابل، لا تجد من بين الملوك السعوديين من حمل
بصدق قضية فلسطين. لورانس العرب أفاد بأن إسقاط الشريف
حسين عن الحكم في الحجاز كان بسبب رفضه قيام دولة يهودية
على أرض فلسطين، بما يفيد أن ذلك دفع الإنجليز لرفع الغطاء
عنه والسماح لابن سعود بأن يقضي على حكمه، ويدفعه شريداً
لم يقبل الإنجليز أن يبقى عند أحد من ولديه الحاكمين في
الأردن أو العراق، وإنما بعثوا به منفياً الى قبرص الى
أن مات! لم يكن الإنجليز ليسمحوا لابن سعود أن يحتل الحجاز
لولا أنه كان موافقاً على إعطاء فلسطين لليهود، وقد وقف
الملك السعودي مع الإنجليز الى النهاية، كما تثبت ذلك
الوثائق البريطانية المتعلقة بفلسطين خاصة في فترة الثورة
الكبرى (1936-1939) والتي أخمدها ابن سعود، الى حد أن
تلك الوثائق وضعت في قسم السعودية، وليس في قسم فلسطين،
ما يدلّ على حجم الدور السعودي المشبوه!
لا ننسَ هنا أن آل سعود من أصول يهودية، فلا هم من
قبيلة عنزة كما يزعمون، ولا من فرعها (المساليخ)، ولم
تعترف لهم عنزة بذلك الإرتباط، وكتب شعراء شعبيون قصائد
عديدة تكشف عن ذلك الجذر اليهودي. هذا وقد أعدّ السعوديون
شجرة نسبهم وأوصلوها الى الرسول صلى الله عليه وسلم، ما
يشير الى عقدتهم في هذا الجانب. بل أن الملك فيصل شكل
لجنة للكشف عن نسب عائلته، وقد أكد أعضاء اللجنة بأن النسب
يعود الى اليهود، فألغى اللجنة!
لقد فبركت العائلة المالكة رسائل منسوبة لعبد العزيز
بعث بها الى الرئيس الأميركي ترومان سنة 1948 ويبدي فيها
إبن سعود استيائه من طلب ترومان له بتأييد الوطن القومي
لليهود في فلسطين، واستعمال نفوذه لوقف الاحتجاجات الشعبية
في فلسطين. ولكن نقرأ في كتاب جون فلبي (40 عاما في البحرية)
مانصّه:
(إن قضية فلسطين لم تكن تبدو (لآل سعود) بأنها تستحق
تعريض العلاقات الممتازة التى تربطهم مع بريطانيا وأميركا..
وكان أساس الإتفاق لإنشاء الوجود السعودي أن تقوم سياسة
آل سعود على عدم تدخلهم بأي شكل من الأشكال ضد مصالح بريطانيا
وأميركا واليهود في البلاد العربية والإسلامية وأهمها
فلسطين). ويضيف فلبي (والحق لابد أن يقال فقد حزن عبد
العزيز حزناً شديداً في أعقاب هزيمة الجيوش العربية في
فلسطين)، وكشف فيلبي سر هذا الحزن الشديد قائلاً: (كان
انتقال الجزء الغربي الذى احتفظ به من فلسطين إلى مملكة
الأردن أمراً أكثر مما يستطيع عبد العزيز استساغته...لأنه
كان يريد ضمّه إليه أو إلى الكيان الصهيونى..ولانها إرادة
الإنجليز فلم يستطع معارضتها، ولكنّه عارض بشدة إنشاء
حكومة عموم فلسطين في غزة التى كانت تحت سيطرة الحكومة
المصرية).
من جهته كتب حاييم وايزمان، أول رئيس للدولة العبرية
في فلسطين المحتلة العام 1949 في مذكراته:
(إنشاء الكيان السعودى هو مشروع بريطانيا الأول.. والمشروع
الثانى من بعده إنشاء الكيان الصهيونى بواسطته)، ويضيف
نقلاً عن تشرشل الرئيس الأسبق للحكومة البريطانية، والذى
كان له دورٌ أساسي وبارز في قيام الكيان الوهابي السعودى
والكيان العنصري الصهيونى:
(في 11/3/1932 قال تشرشل: أريدك أن تعلم يا وايزمان
إننى وضعت مشروعاً لكم ينفّذ بعد نهاية الحرب ـ العالمية
الثانية ـ يبدأ بأن أرى إبن سعود سيداً على الشرق الاوسط
وكبير كبرائه، على شرط أن يتفق معكم أولاً، ومتى قام هذا
المشروع، عليكم أن تاخذوا منه ما أمكن وسنساعدكم في ذلك،
وعليك كتمان هذا السر، ولكن إنقله إلى روزفلت، وليس هناك
شيء يستحيل تحقيقه عندما أعمل لأجله أنا ووزفلت رئيس الولايات
المتحدة الأميركية).
هاتان صورتان متقابلتان نجدهما اليوم حاضرتين وتستندان
على ذاكرة تاريخية مشبّعة بكل الفوارق بين كيانين، سقط
أحدهما بفعل، من بين عوامل أخرى ذاتية وموضوعية، موقف
تاريخي وشرعي وأخلاقي من قيام دولة يهودية على أرض فلسطين
التاريخية، وكيان آخر قام بفعل، أيضاً من بين عوامل أخرى
ذاتية وموضوعية، موقف متواطيء مع مشروع غربي أوروبي وأميركي
لدعم قيام دولة يهودية في فلسطين.
ومن المفارقات المدهشة، أن يعاد تجسيد الصورتين المتقابلتين
في الوقت الراهن، حيث يطوي أردوغان عقوداً تسعة من تركيا
العلمانية مستعيداً السيرة العثمانية التي مثّلت رمزية
الشرق الأسلامي والعربي، فلم يغفل التزامات الآباء والأجداد
حيال المقدّس الإسلامي، وفي المقابل تتوارى المزاعم الدينية
لآل سعود في قضية فلسطين والأقصى، حتى بتنا قاب قوسين
أو أدنى من عملية هدر كرامة غير مسبوقة تتم عبر الإمبراطورية
الاعلامية السعودية التي باتت ممالأة الكيان العبري من
علاماته الفارقة، فصار نقل بعض الصحف العربية وخصوصاً
الصادرة في الخارج عن مصادر إسرائيلية وأحياناً استخبارية
جزءً من تغطية الأخبار اليومية.
كانت أيضاً مشهداً لافتاً تلك المصافحة غير المسبوقة
بين مدير الاستخبارات السعودية السابق والسفير السعودي
في واشنطن سابقاً الأمير تركي الفيصل ونائب وزير الخارجية
الإسرائيلي داني آيالون في 6 فبراير الماضي خلال مؤتمر
ميونيخ الدولي للسياسات الأمنية. المثير في المشهد أن
آيالون نفسه الذي تعمّد إهانة السفير التركي لدى الكيان
الإسرائيلي وتسبب ذلك في اندلاع أزمة دبلوماسية بين الحكومتين،
والمثير أيضاً أن المصافحة بين تركي الفيصل وآيالون تمّت
في ظل رفض مشاركة مسؤول تركي في الجلسة التي حضرها آيالون.
هذا كله يعني، ليس فقط أن السعودية لم تقدّر المشاعر التركية
الغاضبة من آيالون، بل أنها تخطّت كل ذلك ومارست تطبيعاً
علنياً متقدّماً حتى على تركيا نفسها التي لها علاقات
طبيعية مع الكيان الإسرائيلي.
أردوغان كان واضحاً في قضية المقدّسات الإسلامية في
فلسطين، بخلاف الملك عبد الله الذي رغم الضجيج الدعائي
الذي يحاول تصويره كمدافع عن قضايا العرب وثوابتهم، فإنه
لم يجهر بموقف واحد لافت في قضية الحفريات الاسرائيلية
حول المسجد الاقصى وضم بعض المساجد والآثار الاسلامية
الى التراث اليهودي، وكأن ثمة تناغماً بين ما يقوم به
الإسرائيليون في القدس وحول المسجد الأقصى بما يقوم به
السعوديون والوهابيون حول الحرمين الشريفين من محو للآثار
الاسلامية والتاريخية.
مواقف أردوغان تنطلق من موقف عقدي وتاريخي إضافة إلى
المنطلقات الأخلاقية والإنسانية غير المغفولة، ولكن السؤال
يبقى عن المنطلقات السعودية، لأن الإصرار على التمسّك
بمبادرة الملك عبد الله في السلام مع الكيان العبري في
وقت يتم فيه اختزال التسوية الى مجرد وقف أو بالأحرى تجميد
الإستيطان لا يعني سوى أن السعودية لم تعد تكترث الى ما
يصيب المقدّسات الإسلامية في فلسطين من عمليات محو متواصلة،
وقد يؤكّد ذلك ما قاله مسؤول إسرائيلي بأن الدولة العبرية
كانت فيما مضى تسعى الى السلام مع العرب، ولكن في الوقت
الراهن فإن العرب هم من يسعون الى السلام مع الدولة العبرية...
فهل وضح الفرق الآن بين أردوغان والملك عبد الله؟!
|