دولة المفترين
الثنائية في السياسة ليست استثناءً في هذه المملكة،
فقد تتحوّل الى ثلاثية ورباعية وربما أكثر من ذلك، ولا
تقتصر على رجال السياسة وإن بدأت بهم، بل تنسحب على من
شايعهم وعاشرهم لمصلحة مرجوّة..فقد نسمع تصريحاً اليوم
نجد نقائض له بعد ساعات أو أيام، وقد يأتي من ينفي صدوره
في الأصل. فالتكاذب، كما يقول أحد الخبراء في شؤون العائلة
المالكة، بات خبزاً يومياً في حياة الأمراء، فهذا يكذب
وذاك يردّ عليه بكذبة أقوى، ثم ينعقد سوق الكذب الذي لا
حدّ له حتى يغمر الكذب أجواء العلاقات الداخلية وتسري
في شرايين الدولة، ثم يتحوّل الكذب الى مؤامرات، وصراع
نفوذ، وقرارات متقابلة، وغمز ولمز في المجالس المغلقة
وبين الحواشي. ولأن الكذب البوابة الرئيسية لكل رذيلة،
فقد أدمن الأمراء الكذب لتحقيق مآرب خاصة لا يمكن بسواها
أن يديروا مصالحهم.
في داخل القصر، كل الكذب المتداول بات مكشوفاً للأمراء،
فهم أعرف بشؤون افتراءاتهم، ولذلك من الصعب أن تجد أميراً
وخصوصاً من الكبار الذين أدمنوا العادة يحيد عن جادة الكذب،
وكل جولاتهم كذب..فإذا ما أوحى أحد الأمراء لغريمه الأمير
الآخر بأنه أقلع عن الكذب، ازداد الريب حوله، إذ لا يعقل
لمن ينغمس في لعبة سياسة القصر أن يكون صادقاً ولو استعان
بأنبياء بني إسرائيل لإثبات دعواه.
بالنسبة لمن هم خارج القصر، أي للشعب، المهم ليس في
كذب الأمراء، ولسان حالهم يقول (نار تأكل حطبها)، فليكذبوا
ما شاؤوا وليبشروا ببيعهم الذي بايعوا به، شريطة ألا تصيب
نار افتراءاتهم مصائر الناس وكرامتهم..ولكن أبى الأمراء
إلا أن يعمّموا رذيلة الكذب على مؤسسات الدولة، ولو قدّر
لهم لجعلوا من الإفتراء ثقافة وطنية وشرطاً لتسنّم الوظائف
ما علا منها وما دنى.
كل ما سبق يمكن تحمّله، خصوصاً في مملكة بدأت بكذبة
وعاشت عليها ومازالت تأكل من ثمارها، ولكن ما لا يمكن
تحمّله أن يتم تثمير افتراء الكذب في قضايا مقدّسة مثل
فلسطين والمسجد الأقصى، فذلك يصيب بآثامه ضمير العرب والمسلمين.
بالنسبة للعائلة المالكة تبدو مساحة المقدّس ضيقة للغاية،
فليس في عقل أي من أفرادها شيء يمكن أن يكون مقدّساً إلا
المصلحة الذاتية، بل كل شيء يخضع للعبة المصالح بما فيها
المقدّسات.
قضية فلسطين، على سبيل المثال، لم تكن في يوم ما مقدّسة
لدى العائلة المالكة، ولذلك كان الملوك السعوديون وحدهم
من يقودون مبادرات التسوية دون بقية رؤوساء وملوك وأمراء
العرب. بدأ ذلك منذ عهد الملك المؤسس عبد العزيز، الذي
استعان بالكذب على قضاء حوائجه حتى أصبح خبيراً في الإفتراء،
إلى حد البكاء المفتعل حزناً على ضياع فلسطين. هو من قاد
مبادرة إجهاض الإنتفاضة الفلسطينية سنة 1936، حين بعث
بإبنه سعود لمطالبة قادة الانتفاضة بوقف الإضراب، على
أساس وعد مفترى بحل المشكلة مع بريطانيا، التي كانت تدير
حينذاك الشأن الفلسطيني وفق مبدأ الانتداب، فانتهى الحال
الى إعلان الدولة اليهودية سنة 1948، والذي أطلق عليها
عام النكبة. وجاءت مذكرات مسؤولين اسرائيليين وبريطانيين
لتؤكّد بأن عبد العزيز لم يكن يكترث لضياع فلسطين، بقدر
اكتراثه بتوسيع مملكته تحت رعاية بريطانيا والولايات المتحدة.
أما الحديث عن رسائل متبادلة بين عبد العزيز والرئيس الأميركي
الأسبق روزفلت فمكانها حقل الافتراءات الناعمة بهدف تغطية
المخازي المشينة التي التصقت بآل سعود في ضياع فلسطين.
لم يكن من جاء بعد عبد العزيز من أبنائه بأحسن حال
منه في الإفتراء، ولعل أسوأ ما فيها مشروع فهد في فاس
للسلام العام 1981، حين بشّر بتطبيع شامل مع الدولة العبرية
على أساس العودة الى حدود 1967. في ذلك اليوم الذي أعلن
فيه عن المشروع، انتشرت شائعات واسعة النطاق في البلاد،
وتناقلها الصبية الصغار وصار حديث الناس بأن الملك فهد
أعلن (الجهاد المقدّس) ضد العدو الإسرائيلي. وحين دلع
الصباح لسانه، وذاب الثلج وبان المرج أصبح الجهاد تسوية.
الحال نفسه تكرر مع مبادرة عبد الله في بيروت في مايو
2002 حين قدّم نسخة معدّلة لمبادرة فهد، مصحوبة بعبارة
(التطبيع الشامل مع اسرائيل). وتزامن طرح المبادرة مع
إطلاق أوصاف غريبة مثل (صقر العروبة) و(فارس العرب) على
عبد الله. يبدو أن أوسمة الشرف جزء من حزمة الافتراءات
التي تصبح صالحة للإستعمال في مثل هذه المناسبات، فقد
ينال وسام الشجاعة من يدعو للتسوية، وينال وسام البطولة
من يخلو وحده في الصحراء.
ليت افتراء الكذب كان مقتصراً على الملوك والأمراء،
فقد جاء من المشايخ ورجال الدين من أتقن (صنعة) افتراء
الكذب دون حياء، وإن كان الدليل عليه صوتاً وصورة، كما
في مثال الشيخ يوسف الأحمد الذي دعا الى هدم المسجد الحرام
منعاً للإختلاط، وحين واجه عاصفة انتقادات في الداخل والخارج،
تراجع عن تصريحاته وزعم بأن الصحافة (حرّفت كلامه) وأنه
سيقاضي كل من افترى عليه.
وقبل أن تهدأ عاصفة الأحمد، انبرى الشيخ محمد العريفي
بنبأ صادم آخر حين أعلن من قناة (إقرأ) الفضائية بأنه
سيبثّ حلقة من المسجد الأقصى. كل العالم بمن فيهم الاسرائيليون
فهموا الرسالة واضحة، حتى أن مسؤولاً إسرائيلياً طلب من
سفارات دولته تسهيل إجراءات حصول العريفي على تأشيرة لدخول
القدس عبر الكيان العبري.
فجّر كلام العريفي موجة انتقادات واسعة محلياً وخارجياً،
ووضعت خطوته في سياق تطبيعي مع الكيان الاسرائيلي. وكما
يبدو فإن العريفي الذي كان يأمل في أن تلقى بشارته لجمهوره
تأييداً واسعاً، شعر بخيبة أمل مرة أخرى بعد خيبة خطبة
الجمعة غير العظيمة ذائعة الصيت، وقرر التراجع عن افترائه،
وشرّق وغرب في إعادة تفسير كلامه بأنه لم يقصد الدخول
الى فلسطين عبر الكيان الإسرائيلي، وإنما تصوير حلقة من
أعلى سطح في منزل في العاصمة الأردنية عمان. ونسي الشيخ
حقائق غير قابلة للجدل، من بينها أن المسافة بين القدس
وعمّان هي 71 كيلو متر أو 44 ميلاً بحسب غوغل أي على أساس
خط مستقيم، فإذا ما أضيف لها حقيقة طبوغرافية المنطقة
الممتدة بين عمّان والقدس المعروفة بكونها جبلية، فهذا
يعني أن أدق كاميرا في الكون لن تقدر على التقاط المسجد
الأقصى بحيث يكون المشهد الخلفي في برنامج تلفزيوني، ولو
أمكن ذلك، لما تردّد العريفي في فعله، ولكّنها (بصمة)
إفتراء وضعها في مسار التطبيع.
إنها دولة المفترين يا صاحبي.
|