دولة المؤامرات
لم تعد تخفي خصومتها سواء كانت موجّهة لشقيق أو صديق،
بل سمحت للآخر بأن يكشف عن خبايا مؤامراتها وما تنوي القيام
به أو ما تضمره من عداوة للآخر. حين يُهرِّب الملك عبد
الله تصريحاً لصحيفة (لوفيغارو) عبر مسؤول فرنسي حول موقفه
الخصامي من إيران يدرك تماماً بأن مثل هذا التصريح سيصل
الى حيث يجب أن يحقق انتشاره، ولربما كانت غلطة غير مقصودة
أن يقول الملك بأن دولتين ماكان يجب أن يكونا على قيد
الحياة وهما إيران و(اسرائيل)، فلعل إضافة الأخيرة تندرج
في إطار تصريحات غير منضبطة أو نيران صديقة، لأن التنسيق
بين الاسرائيليين والسعوديين في الموضوع الإيراني قد بلغ
درجة متقدّمة. تقول مصادر أميركية شبه رسمية بأن الملك
عبد الله في زيارته الأخيرة الى واشنطن كان يلحّ في السؤال
على الرئيس أوباما بضرورة التعجيل بتوجيه ضربة عسكرية
لإيران. وهي الرسالة التي تلقّفها الإسرائيليون مراراً
من قبل السعوديين في أوقات سابقة تعود الى ما بعد حرب
يوليو 2006، حين شعرت السعودية بأنها خسرت الرهان على
ضرب الدفاعات الأمامية لإيران في المنطقة.
السعودية لا تتحرك اليوم باعتبارها جزءً من منظومة
عربية أو عضواً رئيسياً في منظمة إسلامية، بل تضطلع بأدوار
ذات طابع فردي، وتنسّق مواقفها أحياناً مع الإسرائيليين
حتى دون علم الأردن ومصر، الدولتين الحليفتين لها في معسكر
الإعتدال. يقول مسؤولون أميركيون بأن السعوديين قد أعدّوا
منذ فترة بعيدة نسبياً قنوات تواصل منتظمة مع الإسرائيليين،
وبات الطرفان قادرين على إدارة شؤونهما، وهواجسهما، وأيضاً
مصالحهما بأسلوب متقن، ولا يتطلب وساطة إقليمية أو دولية.
ولأسباب عديدة، لا تكترث السعودية بأية آلية عربية،
ولم تجعل الجامعة العربية مرجعية لقراراتها، إلا من أجل
الحصول على مشروعية عربية في موضوعات تنطوي على حرج معنوي
غالباً. إن ما يجمع الكيان الإسرائيلي والدولة السعودية
ليس اتفاقية سلام، بل ما يجمعهما العداوة المشتركة لإيران،
وهذا ما يجعلهما حليفين استراتيجيين، ولذلك لا يتحرّج
السعوديون في ترتيب قائمة خصوم على أساس أن إيران هي العدو
الأول، بعد أن خرجت الدولة العبرية من قائمة الخصوم بصورة
تامة، بالرغم من أن الأخيرة لم تحدث أي تعديل في سياساتها
القائمة على التهجير، وهدم البيوت، والحصار، والتجويع،
والقتل، ومصادرة الأراضي، وصولاً الى تهديد المسجد الأقصى
بالزوال شبه التام. على أية حال، فإن العدواة مع ايران
هو ما يجعل تل أبيب والرياض، وهو ما تعكسه وسائل الإعلام
السعودية بشكل واضح حتى وقت العدوان الإسرائيلي على لبنان
في تموز 2006، وعلى قطاع غزة في ديسمبر 2008. يعلّق مسؤول
سعودي على نبأ السماح للطائرات الحربية الإسرائيلية بعبور
الأجواء السعودية لتوجيه ضربة للمنشآت النووية الإيرانية
بما نصّه: (إننا نعلم ذلك، وسنسمح لهم ـ أي الإسرائيليين
ـ بالعبور ولن نرى شيئاً).
المواقع الإيرانية المستهدفة من قبل الطائرات الحربية
الإسرائيلية تقع على بعد 2250 كيلومتراً من فلسطين المحتلة،
بما يضعها خارج مدى المقاتلات، حتى مع التزوّد الجوي بالوقود.
ولذلك، فإن فتح ممر جوي عبر شمال المملكة سيقلّص بصورة
كبيرة المسافة. إن الغارات الجوية تتطلب مشاركة موجات
متعدّدة من المقاتلات، قد تتم عبر الأردن، وشمال السعودية
والعراق.
ما يلفت أيضاً أن تصريحات الإسرائيليين جاءت متطابقة
مع تصريحات السعوديين في الموقف من إيران ومشروعها النووي،
ما يثير تساؤلاً حول درجة التنسيق التي توصّل اليها الجانبان.
فبينما رفض مسؤولون في حكومة نتنياهو التعليق على خبر
التايمز حول سماح السعودية بفتح الأجواء أمام المقاتلات
الإسرائيلية، فإن أهارون زئيفي فاركاش، الذي رأس الاستخبارات
العسكرية حتى عام 2006، وكان ضالعاً في تهيئة ظروف الهجوم
على إيران قال (أعلم بأن السعودية خائفة أكثر من إسرائيل
من القدرة النووية الإيرانية)، ونقرأ تصريحات مشابهة لمصدر
مسؤول سعودي في السياق نفسه.
يشعر الإسرائيليون هذه المرة بأنهم قد حرّكوا كرة اللهب
باتجاه آخر، وأن فصلاً من التاريخ يكتب بطريقة مختلفة
بعد أن اشتغلت السعودية على استبدال الخصوم، ووضع إيران
مكان الكيان الإسرائيلي. ولذلك، لا يتحدّث الاسرائيليون
هذه الأيام عن خطر منفرد، فغالباً ما يرددوا أسماء دول
مثل مصر والسعودية والأردن في أي حديث عن تهديدات، أو
حلول، أو مشاريع أو حتى تحالفات. وكما فعلت المؤامرة السعودية
الإسرائيلية فعلها الكارثي على مصر عبد الناصر، وعلى العراق
لاحقاً وكادت تحقق نتائج مماثلة على سورية بعد حرب الخليج
الثانية سنة 1991، فإن خيوط المؤامرة تحاك من الرياض وتل
أبيب لنفس الأهداف.
لقد مرّ خبر مرور بارجة عسكرية إسرائيلية تحمل رؤوساً
نووية عبر قناة السويس باتجاه الخليج وكأنه أمر اعتيادي،
في وقت لا تحتفظ أي دولة من الدول التي تمرّ البارجة بالقرب
من مياهها الإقليمية بإتفاقية سلام من أي نوع، باستثناء
مصر. ثمة شيء، بل أشياء، تدور خلف الكواليس تكاد تضاهي
أكبر الإتفاقيات الثنائية بين الدول، فاللقاءات التي جرت
بين إيهود أولمرت رئيس الوزراء السابق ومسؤولين سعوديين
كبار في سبتمبر 2006 لم تكن عادية. وقد كشف لقاء رئيس
الموساد مائير داغان ومسؤولين استخباريين سعوديين العام
الماضي عن هدف محدد وهو الحصول على تطمينات من الرياض
بأنها ستغمض عينها أمام الطائرات الإسرائيلية التي ستنتهك
المجال الجوي السعودي خلال الهجوم على المواقع النووية
الإيرانية.
حين نشرت صحف إسرائيلية وبغربية قبل شهور نبأ اتفاق
سعودي إسرائيلي على السماح للطائرات الحربية الإسرائيلية
باستعمال المجال الجوي السعودي، لم يصدر رد فعل من الجانب
السعودي. من المرات النادرة، أن يأتي رد الفعل السعودي
متأخراً كثيراً، وأن يأتي بطريقة غير مهنية بل ينطوي على
إقرار غير مباشر بجدوى الخيار العسكري عبر سرد مبرراته.
في 12 يونيو الماضي نفى مصدر في وزارة الدفاع السعودية
موافقة المملكة على فتح أجوائها أمام الطيران الإسرائيلي
في حال توجيه ضربة جوية للمفاعلات النووية الإيرانية،
مؤكدا أن بلاده ليست طرفا في النزاع بين إيران وأي دولة
أخرى..وحقيقة الأمر أن السعودية ليست طرفاً مباشراً في
المواجهة العسكرية ولكنها بالتأكيد طرف مباشر في كل ماعدا
ذلك، ما يجعلها دولة مؤامرات.
|