نهاية (فتح الإسلام) بيدٍ سعودية!
عبد الوهاب فقي
تنظيم (فتح الاسلام) إسم ارتبط منذ تفجّر المواجهات
مع الجيش اللبناني في مخيم نهر البارد في الشمال اللبناني
في العام 2007 بالسعودية، وبالأمير بندر بن سلطان ومغامراته
الخاسرة. فقد تقاطر أعضاء التنظيم من السعوديين الى لبنان
عبر معابر جوية محدّدة وخصوصاً (المنامة، ودبي) في أزمنة
متقاربة، وتجمّعوا أول مرة في مخيم عين الحلوة قبل أن
ينتقلوا في مرحلة لاحقة الى مخيم نهر البارد لتنفيذ مخطط
ما قد رسم في مطبخ المحافظين الجدد وتحديداً من قبل فريق
نائب الرئيس الأميركي السابق ديك تشيني. رغم القضاء على
تنظيم (فتح الاسلام) بعد معارك شرسة دامت نحو مائة يوم،
إلا أن الستار لم يسدل بصورة كاملة على قصة هذا التنظيم،
خصوصاً بعد انكشاف معطيات جديدة حول ظهور عناصر قيادية
من التنظيم في مواقع أخرى، وكذلك أدوار عناصره في عمليات
اغتيال داخلية. كان يمكن أن يلعب الزمن دور الساتر لأسرار
التنظيم، وقد يغلق الملف الى الأبد لولا أن معطى جديداً
برز في الشهور الأخيرة، حيث فتح مقتل القيادي في تنظيم
(فتح الاسلام) عبد الرحمن عوض في كمين للجيش اللبناني
ملف التنظيم وأعاد تسليط الضوء على مجموعة فتح الإسلام،
خصوصاً وأن مقتل عوض قد أخفى معه فيضاً من أسرار التنظيم.
ولكن السؤال الكبير بقي: كيف نشأ (فتح الاسلام)، وما هي
الظروف التي أدّت الى إن تتخذ السعودية قراراً بتصفية
قيادات التنظيم ودفن أسراره بصورة نهائية؟
من المعطيات المثيرة للإنتباه في الأسابيع الأولى للمواجهات
بين مقاتلي تنظيم (فتح الإسلام) والجيش اللبناني، أن الأخير
لم يكن يواجه ميليشيا عادية بل كان يواجه قوة قتالية كبيرة
العدد وعالية التدريب والكفاءة والجهوزية العسكرية. حينذاك،
كان الحديث يدور حول قوات جرى اعدادها وتدريبها في العراق،
وهي مؤلّفة من عدّة مئات، فيما قدّر البعض قوام القوة
أكثر من 500 مقاتل محترف، وأشار بعض آخر الى ما يزيد على
ألف مقاتل. شاهين شاهين، الشخصية القيادية والمريبة في
التنظيم ذكر بأن المجموعات الموجودة في المخيم هي عبارة
عن 500 مقاتل.
عملية انتقال عناصر التنظيم من مواقع متعددة الى داخل
لبنان تبدو متقنة ومثيرة وتسترعي اهتماماً خاصاً، لأنها
تكشف ملامح المشروع الكبير الذي كان يرسم للبنان ولمعسكر
الممانعة بصورة عامة. وبحسب المتابعين، فإن العناصر الذين
احتشدوا في مخيم نهر البارد قد جاءوا من مناطق متفرقة
في زمن متقارب، لم يكن من السهل توحيدهم بسرعة لولا وجود
جهة تنظيمية وراء ذلك. فقد جاء بعضهم الى لبنان عبر مطار
رفيق الحريري الدولي، بجوازات سفر حقيقية وسمات دخول بصفة
سائح. وجاء آخرون تهريباً عبر الحدود اللبنانية ـ السورية،
وأتى قسم ثالث من داخل الأراضي اللبنانية، وانتقل من مخيم
إلى آخر، أو من بيروت إلى طرابلس، أو من القبة أو عكار
أو القلمون إلى داخل مخيم نهر البارد، وبعضهم متّهم بجنح
وجرائم عادية، تحوّل مع الفرار من العدالة إلى السلفية
الجهادية، ومات أو اعتُقل وهو يدافع عن معتقداته الجديدة.
القسم الرابع أُبعِد من الأردن بعدما اعتُقل هناك ضمن
مجموعات، وبقي في السجون الأردنية لفترة. أمّا القسم الأخير،
فأُرسل من المملكة العربية السعودية. وكل دولة كانت ترى
أنها بذلك تنفذ مجموعة من مصالحها في آن واحد. وكان على
الجيش اللبناني أن يخضع في النهاية، وفي يوم من أيام مايو
2007 لمصالح خارجية بالقضاء على التنظيم، وعلى مصالح داخلية
بتدمير المخيم فوق رأس هذه المجموعات القتالية العقائدية
العنيدة.
|
العبسي: صناعة أردنية/ سعودية
معارك نهر البارد |
لقد توافق كثير من المراقبين حينذاك على أن (فتح الإسلام)
لم تكن سوى أداة في مشروع فتنة كبير، جرى تجهيزها بعد
فشل أهداف حرب تموز 2006، فقد كانت المرحلة حينذاك هي
مرحلة رعاية الفتنة وريّها لتزهر في وقت لاحق حرباً أهلية،
وبالتالي توفير مجموعة من العوامل القادرة على الصمود
إن قام حزب الله بالانقلاب على السلطة، أو آن أوان ضربه.
وكان على الدول العربية المعتدلة وخصوصاً السعودية والأردن
بمساعدة واشنطن وتل أبيب توفير العوامل الميدانية المؤاتية.
فحُشد المقاتلون من أنحاء الأرض في بعض المناطق، وخاصة
في مخيّمَي البداوي ونهر البارد، وأقيم تحالف على عجل
بين القوى السلفية في لبنان (وخاصة تلك التابعة للمملكة
السعودية) وقوات شاكر العبسي. وكان يكفي أن تلتزم القوى
السلفية بما تعهدت به في مايو 2007 حتى يتغيّر وجه لبنان
الذي نعرفه، إلا أنها التزمت بقرار الدول الراعية لها.
وحين وقعت الواقعة، انسلّت من تعهداتها دون تردّد، أو
نظرة إلى الخلف.
يصف فداء عيتاني المجموعات السلفية الجهادية، وخاصة
التنظيمات الكبيرة منها (القاعدة وفتح الإسلام ودولة العراق
الإسلامية وغيرها)، بـ (كرات الأطفال الملوّنة)، حيث كل
جزء منها يحمل لوناً مختلفاً، وباتحادها تؤلّف كرة كبيرة
منفوخة بألوان متعددة وشكل جذاب. إلا أنها في النهاية
تبقى تجميعاً لألوان مختلفة، لن تتحول إلى لون واحد إلا
في حال تدوير الكرة بسرعة كبيرة بحيث تخدع الناظر وتعطيه
اللون الأبيض.
ربما كانت هذه أمثولة لم يتعلّمها الجميع مما حصل في
العراق. ولكنّ أسامة بن لادن وأيمن الظواهري يعرفان تماماً
ما تعنيه. وقد علّمهما الأمر أمير بلاد الرافدين أبو مصعب
الزرقاوي، بالطريقة الصعبة، حين حاولا إقحام نفسيهما في
أعماله الخاصة.
وفي لبنان، كان يمكن رؤية الألوان المختلفة لحركة فتح
الإسلام التي أنشئت بقرار سعودي، ودعمتها مجموعات سلفية
مموّلة من المملكة في لبنان. كذلك حصلت الحركة على مباركة
ودعم من تيار المستقبل، وارتحل إليها أبو هريرة من جند
الله في مخيم عين الحلوة ليقف خلف شاكر العبسي في نهر
البارد. ثم جيء لها بمجموعات قتالية مطرودة من هنا وهناك،
قبل أن يكتشف الجميع أن تجميع الألوان لن يعطي اللون المرتجى.
وكانت سوريا في ذلك الحين تغضّ البصر عن هذه الحركة، وتسمح
حيناً بمرور عشرات المقاتلين، أو تنصب لهم الكمائن ضاربة
الرؤوس المطلوبة والشخصيات المعروفة بتخريبها أمنها، ولكن
لم تمانع ولم تكبح حركة إنشاء فتح الإسلام، بل سمحت بتسلّح
هذه الحركة على أنقاض حركة فتح الانتفاضة.
في مارس وإبريل 2007، وبعد أشهر من العمل الجدي والمتابعة،
وبعدما مضى على بدايات فتح الإسلام في لبنان حوالى عام
(الإعلان الأول كان في الفصل الأخير من 2006، ولكنّ التنظيم
بدأ يتكوّن في الفصل الثاني من 2006، وتطوّر خلال حرب
تموز من العام نفسه وبعيدها)، اكتشفت المملكة العربية
السعودية سبع مجموعات قتالية جهادية على أراضيها. كان
هذا أحد أكبر الاكتشافات التي وقع عليها الأمن في المملكة،
إذ قُبض في 27 إبريل على 172 شخصاً بتهمة الانتماء إلى
الـ(فئة الضالة)، وهو التعبير الذي تطلقه الجهات الرسمية
في المملكة على كل القوى الجهادية. وفيما السلطات السعودية
تشير عادة إلى ما يربط المجموعات الجهادية بتنظيم القاعدة،
فإنّها في هذه المرة لم تقدم إشارة مباشرة إلى التنظيم،
إضافة إلى أنها أكدت على أكثر من مستوى أن المجموعات سبع
وليست مجموعة واحدة، ما قد يشير إلى مشاركة أكثر من تنظيم
في تكوين المجموعات.
وخلال التحقيق مع هذه المجموعات، إكتشف المحققون السعوديون
أن بعضهم دُرّب على أيدي جهاديين في لبنان، وأنهم متصلون
بتنظيم فتح الإسلام، وأنهم يعملون بالتنسيق مع قيادات
في هذا التنظيم، وأن أغلبهم جُنّد عبر الإنترنت، وأن هناك
مجموعات ما زالت موجودة في لبنان، وهو ما ثبت لاحقاً خلال
عمليات تدمير تنظيم فتح الإسلام، حيث كان بين عناصره المحاصرين
في مخيم نهر البارد بعض الشبان من المملكة السعودية.
ما لفت في الاكتشافات التي ظهرت بعد القضاء على تنظيم
فتح الاسلام وتبدّي بعض أسراره الهامة، أن تنظيم فتح الإسلام
الفتي في 2006 لم يوفّر أحداً. أو للدقة، لم تراعِ بعض
أطرافه وألوانه أي جهات. فاتجه بعضها للعمل داخل الأراضي
السعودية، وتجنيد المقاتلين وتنظيمهم هناك في مجموعة بدائية،
مع حجم كبير من الدعاية المستفيدة من قرب منطقة عمل تنظيم
فتح الإسلام من العدو الإسرائيلي، وكانت تلك نقطة تفوّق
للتنظيم، حيث لم تعمل كل مجموعات القاعدة على الملف الإسرائيلي
من قبل. فجُنّد العشرات من الشبان في المملكة. ولم تكن
سوريا في مأمن أيضاً، فجُنّدت خلايا فاعلة في سوريا استُخدمت
أولاً لنقل المقاتلين من العراق إلى لبنان، ثم لنقل بعض
الفارين من لبنان نحو سوريا وإلى دول أخرى.
لعبت السعودية في مناطق النفوذ السورية، فلم توفّر
سوريا الأمن القومي السعودي. وحين اكتشفت المملكة أن الخطر
يمكن أن يمتد من لبنان إلى أراضيها، قررت القضاء على التنظيم
الجديد، وهكذا كان. أُشعلت حرب نهر البارد التي بدأت للصدفة
مع دهم فرع المعلومات لمقر مجموعة قاعدية في طرابلس، وبعد
إهمال أحد ضباط استخبارات الجيش رسالة تهديد واضحة أرسلها
شاكر العبسي إلى مواقع الجيش المحيطة بمخيم البارد.
على مدى مئة يوم من حرب نهر البارد، كان ينبغي تضخيم
حجم القوات التي تواجه الجيش اللبناني. فأُدرج عشرات الفلسطينيين
واللبنانيين ضمن عناصر فتح الإسلام، رغم أنّهم كانوا قد
لجأوا إلى المخيّم قبل الحرب هرباً من مذكرات جلب بتهم
تتراوح بين المخدرات والقتل. أُدرج هؤلاء، وبعضهم لا يزال
في السجن ينتظر المحاكمة، علماً بأنهم استُدرجوا للخروج
من المخيم خلال حفلات القصف المتواصلة. كذلك اعتُقل عشرات
اللاجئين والعرب الذين قد لا تربطهم بالتنظيم أي علاقة،
وأُدرجَت أسماء حركية من ضمن المطلوبين الفارين، رغم عدم
وجود أي معلومات أمنية عن هذه الأسماء.
حين امتدّت يدُ لونٍ من ألوان تنظيم فتح الإسلام إلى
الداخل السعودي، رأت المملكة أنّ هذه الأداة بدأت تضغط
على الأمن القومي لديها، فقطعت اللعبةَ السورية التي كانت
تراهن على النفَس الطويل وغضّ النظر من أجل تسجيل نقطة
ضد الرياض، في ظرف من أشد لحظات الاشتباك السياسي بين
البلدين. كذلك قطعت بذلك الطريق على لون آخر من ألوان
التنظيم بدأ يتعلّم أساليب عمل المقاومة ضد إسرائيل انطلاقاً
من لبنان. حينها كانت الفتنة هي ما يؤرّق لبنان، لكن بعد
حرب نهر البارد، بات يمكن تجاوز الفتنة عبر ضربة مباشرة
قام بها حزب الله وحلفاؤه.
حينها، كانت بداية عثرات المملكة المالية، وعثراتها
السياسية في العلاقة مع واشنطن بصيغة إدارة جورج بوش،
حيث لم تتمكن من تقديم ضمانات للولايات المتحدة بعدم تحوّل
الدعوة الوهابية إلى سلفية جهادية، وتحوّل السلفية الجهادية
إلى خطر محدق بالولايات المتحدة في الداخل، وباقتصادها
في الخارج.
وفي الوقت الحالي، فإن قوات القاعدة وقيادتها تبدو
في مرحلة تراجع شديد في المنطقة، حيث تبحث عن موطئ قدم
بعد ما تتعرض له، وهي ليست في وارد ضمّ مجموعات إضافية
إليها على طريقة فتح الإسلام بصيغتها الحالية. كذلك فإنها
تبحث عن مصادر تمويل أكثر ثباتاً بعد تعرّض مصادرها لضربات
قاسية في الأعوام الأخيرة. وهي تراقب جسمها في مركز الصراع
في الشرق الأوسط وهو يتآكل من الداخل والخارج.
رغم أن السعودية تحاول تنشئة جماعات سلفية قتالية تكون
في حالة جهوزية دائمة مع اقتراب صدور قرار اتهامي ضد حزب
الله، وبدء الحديث عن مجموعات سلفية يراد تحريكها من الشمال
الى بيروت للانقضاض على المعارضة ومشاغلتها بما يهيئ أرضية
مواتية لحرب اسرائيلية جديدة على حزب الله، فإن الجهود
المتواصلة التي تقوم بها قوى المعارضة اللبنانية لإحباط
مفاعيل القرار الاتهامي، واحتواء أي مخططات محتملة لحرب
داخلية ساهمت في إجهاض فرص الانفلات الأمني وتنفيذ مخطط
الكماشة الذي يجري الحديث عنه بهدف القضاء على حزب الله
والمعارضة بصورة عامة.
|