دولة الجشع
أقبح ما في رذيلة الجشع أنها لا تقف عند حد، إذ تسوق
صاحبها الى مهاوي الردى وتقحمه في متاهات تتلوها متاهات،
ولا تخرج به سوى الى القبر، حيث مثوى الأحلام والنزعات.
وتزداد موبقة الجشع ضراوة واضطراماً كلما سنحت فرصة انفلاتها
من عقالها، حيث يغيب القانون، وتتوارى الرقابة الشعبية،
وتسود قوى الجشع، وتتواطأ بطانات أهل الحكم على اقتراف
أسوأ أشكال الجشع في مناخ يقلب الشر خيراً والقبح حسناً،
حتى لا ترى من ينكر على أهل الجشع انقطاعهم الى الدنيا،
وانكبابهم على حقوق الآدميين نهباً وانتهاكاً.
الجشع في دولة آل سعود يأخذ شكلاً مقرفاً، فاللهاث
المتواصل بين الأمراء الكبار على إشباع غريزة التملّك
يكاد يجرف كل مافي طريقه، ويعمل كآلة تدمير تهلك الحرث
والنسل، فأمير يسرق أرضاً هنا، فيلحقه أمير آخر بسرقة
أرض هناك، وحين نقول أرضاً لا نتحدث عن مئات أو حتى الآف
الأمتار، بل أراض تصل أحياناً الى حجم دول، سواء مجتمعة
أو متفرّقة، أي بإحصاء إجمالي الأراضي المسروقة من قبل
هذا الأمير وذاك.
ما يذهل حين انكشفت بعض الحقائق، أن 70% من شواطىء
بحار المملكة (على البحر الأحمر والخليج) أصبحت من أملاك
آل سعود بعد نهبها، ولذلك لا غرابة أن يقوم أمير المنطقة
الشرقية محمد بن فهد بتخريب البيئة البحرية، والقضاء على
مناطق تكاثر السمك والروبيان، من أجل تحويل البحر الى
أراض يقوم ببيعها على المواطنين، وكأن البلاد تفتقر الى
مساحة كافية لاستيعاب حاجات الناس من الأراضي لبناء المساكن.
وبلغ من جشع الأمراء، أن الأجنحة الثلاثة الكبرى (جناح
الملك، وجناح آل سلطان، وجناح آل نايف) باتت تتصرف وكأن
كل جناح يحكم في مملكة خاصة به، فيأمر وينهي، ويملك ويصادر،
ويقضي ويقدّر. وللمرء تخيّل كيف أن صراعاً بين آل سلطان
وآل نايف أفضى الى اندلاع حرب في الجنوب ضد الحوثيين بحجة
منع المتسللين، وحقيقة الأمر أن صراع نفوذ بين الجناحين
استوجب شنّ حرب لأسباب واهية. فآل نايف يستثمرون شعار
(مكافحة الإرهاب) لتحقيق أهدافهم وتنفيذ مآربهم، فيما
يستثمر آل سلطان شعار (منع المتسللين) للسيطرة على منطقة
الجنوب بأكملها. نشير هنا الى خدعة اخلاء ما يقرب من 450
قرية حدودية وجنوبية، حيث تم الإعلان خلال زيارة الملك
عبد الله لجازان في 2 ديسمبر من العام الماضي عن أمر ملكي
بإنشاء عشرة آلاف وحدة سكنية للسعوديين النازحين إلى مراكز
الإيواء بعيداَ عن مناطق القتال، على أن يتم تأسيس هذه
الوحدات وتسليمها لمستحقيها في مدة عام أو أقل مشمولة
بتوفير كافة المرافق.
لم يكن الغرض من الإخلاء بريئاً، ولم يكن الإيواء وبناء
المساكن بريئاً هو الآخر، فالإخلاء يشبه الى حد كبير عملية
ترانسفير داخلي، بهدف إخضاع مناطق شاسعة من الجنوب تحت
وزارة الدفاع، أما الإيواء فهو مبرر لقضم مليارات الدولارات
من خلال الميزانية المخصصة لتنمية منطقة الجنوب وخصوصاً
جازان. جاء في الخبر حينذاك أن وكالات الأنباء تشير (إلى
أن منطقة جازان الواقعة في الطرف الجنوبي الغربي من السعودية
تعاني من انتشار الفقر وافتقاد المشاريع التنموية). ماهذا
الإكتشاف غير المسبوق؟! وكيف تمكّنت وكالات الأنباء من
الوقوف على واقع الفقر (بل وانتشاره)، و(افتقاد) المشاريع
التنموية؟ إنه لمنطق بائس ذاك الذي يتلطى به الجشع، حين
يكون على حساب حاجة المعدمين وعوزهم. القضية كانت ببساطة
أن الأمير خالد بن سلطان، والفتى سر أبيه كما نقول دائماً،
وجد في اخلاء الجنوب ومشاريع التنمية المزعومة وبناء المساكن
فرصة لا تعوّض من أجل حصد عشرات المليارات من ميزانية
الدولة، كما حصد الأمير نايف مثلها في مشاريع مكافحة الإرهاب
منذ العام 2004 وحتى اليوم.
الجشع هو المسؤول عن كل أزمات الدولة، الاقتصادية والسياسية
والامنية والاجتماعية وحتى الصحيّة. وللمرء تخيّل كيف
أن دولة تفتخر بانجاز فصل السياميين، حتى بات الملك مشغولاً
بالبحث عن كل سياميين في أرجاء المعمورة، ولا تستطيع،
أي هذه الدولة، حل مشكلة مرضى الفشل الكلوي، حتى انبرى
أمير لا يؤتمن على حراسة بيته ليؤسس جمعية لرعاية أمراض
الكلى، ويضع الإعلانات تلو الأخرى طلباً للتبرعات من الناس،
فهل الدولة عاجزة عن القيام بهذه المهمة حتى يتوقّع هذا
الأمير (الأسير لجشعه)، من الناس أن تبيع عقولها وتدفع
له تبرّعات طوعاً وليس قهراً (كما يفعل الأمير الجشع محمد
بن فهد).
قرأت خبراً يثير الشفقة والحزن بعنوان (تلوث المستشفيات
بالخارج وراء وفاة 50% من السعوديين) والسبب كما جاء في
الخبر (عدم تطبيق بعض الدول للاحتياطات الصحية اللازمة
وتسبب مستشفياتها في نقل الأمراض القاتلة كالإيدز والتهاب
الكبد الوبائي وغيرها). والخبر جاء في سياق تشجيع التبرّع
بالأعضاء. ولا ضير في المقطع الأخير من حيث المبدأ بل
يلزم تشجيع ثقافة التبرّع بالأعضاء طالما أن لا مانع من
شرع أو عرف، أو خلق إنساني، ولكن السؤال لماذا يسافر نصف
هؤلاء المرضى أحياءً الى الخارج ويعودوا أمواتاً، فهل
الدولة عاجزة عن بناء مستشفيات تتوافق مع أعلى المستويات
الطبيّة في العالم، وتقديم أفضل العلاجات للمرضى المحليين.
وماهو دور المدن الطبيّة في مملكة الجشعين، والتي تذكّرنا
بالحاكم الذي أصبح تاجراً فما يسرقه من الدولة يحوّله
الى مشروع تجاري ويبيع الخدمات التي هي جزء من مسؤولية
الدولة إزاء المواطنين، فبدلاً من تأمين الدولة الرعاية
الصحية للمواطنين صار أهل الدولة يبيعونها على المواطنين،
وكذلك الحال بالنسبة للتعليم والتوظيف و..و..قاتل الله
دولة الجشع.
|