الرعاية السعودية في لبنان
القرار الظني أو الفتنة!
عمر المالكي
صورة رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري وهو يسافر
الى السعودية في كل أسبوع تقريباً، وتتكثف زياراته كلما
ازدادت نبرة التوتّر لم تعد مثيرة للإرتياب خصوصاً بالنسبة
لدعاة (السيادة والاستقلال). فالمشهد المألوف في انتقال
رئيس الحكومة الحريري الإبن الى السعودية يستكمل سيرة
الأب الذي كان يسافر بطائرته الخاصة الى الرياض أو جدة
للقاء الملك وكبار الأمراء لتلقي الأوامر وتقديم تقرير
عن سير الأوضاع في لبنان.
أن تقرأ خبراً في صحيفة لبنانية في 27 سبتمبر بأن رئيس
الحكومة سعد الحريري ألغى اجتماعاً وزارياً في بيروت حول
الموازنة لاضطراره الى البقاء في جدة بصورة طارئة لمقابلة
المسؤولين السعوديين وبحث الخطوات الممكنة للخروج من الازمة
الراهنة المتعلقة بالقرار الاتهامي المرتقب، يبدو مستغرباً
لو كان في غير لبنان، الذي لا يشعر أحد بغرابة من أي نوع
حيال هكذا خبر، تماماً كما هو اختراق الطائرات الاسرائيلية
اليومية للمجال الجوي اللبناني، الذي لا يثير أياً من
الدول الأعضاء في مجلس الأمن، بالرغم من شكاوى لبنان المستمرة.
قبل و خلال وبعد زيارة الموفد السعودي الأمير عبد العزيز
بن عبد الله، كانت رسالة دمشق الى حلفائها في لبنان سواء
في معسكر المعارضة أو الخارجين حديثاً من الموالاة وعلى
رأسهم رئيس اللقاء الديمقراطي النائب وليد جنبلاط أن موقفها
من قرار ظني يتهم أعضاء في حزب الله باغتيال الرئيس الأسبق
للحكومة رفيق الحريري يقوم على الربط الوثيق بين إتهام
المقاومة واستهداف سلاحها واتهام سورية، حتى وإن تراجع
التحقيق الدولي عن اتهامامها. اعتبرت سورية هذا الموقف
شرطاً في علاقاتها مع القوى السياسية في لبنان، وهذا ما
دفع وليد جنبلاط الى رفض ماورد في مقال دير شبيغل في 24
أيار (مايو) 2009، ثم قدّم الحريري خطوة لافتة بإقرار
بوجوده شهود زور ساهموا في تخريب العلاقة بين سورية ولبنان.
غير أن الخطوة هذه لم تكن كاملة من وجهة نظر سورية التي
استحضرت ما ارتكب بحقها خلال أربع سنوات الى حد التخطيط
لإسقاط النظام في دمشق بالتعاون مع دول غربية.
في لقاء الملك عبد الله والرئيس السوري بشار الأسد
بدمشق في 29 يوليو الماضي، كان الموقف السوري واضحاً بأن
القرار الظني هو سبب المشكلة في لبنان، ووعد الملك عبد
الله بأنه سيبذل قصارى جهده لتأجيل صدور القرار الظني
بضعة أشهر. ولكن الرئيس السوري طالب ليس تأجيلاً لبضعة
أشهر لا تحل المشكلة، بل لأمد غير منظور، أي بمعنى آخر
إلغاء القرار الظني. وهو ما عبّر عنه مسؤولون من حزب الله.
كان الإتفاق على أن تعطى السعودية فرصة كافية للقيام
بجولة إتصالات مع الأميركيين والأوروبيين من أجل تعطيل
مفاعيل القرار الظني أو تأجيل المحكمة لأقصى مدّة ممكنة.
ولكن توافرت لدى دمشق، كما لدى حزب الله، معلومات كافية
عن إخفاق المسعى السعودي لتأجيل طويل الأمد للقرار الظني،
ترافق مع إشارات التقطها الطرفان من أكثر من مصدر، وجّهت
الاهتمام من سبل معالجة القرار الظني والحؤول دون إصداره
إلى استكشاف مرحلة ما بعد صدوره. كان المظهران الأبرز
في ذلك ما سمعه في 22 أيلول مسؤول العلاقات العربية في
الحزب الشيخ حسن عز الدين من السفير السعودي علي عواض
عسيري، ثم ما سمعه أيضاً بعد يومين، في 24 أيلول، من القنصل
العام في السفارة المصرية أحمد حلمي، وتمحور حول السؤال
الآتي: ماذا سيحصل بعد صدور القرار الظني؟
عَكَسَ السؤال ما يشبه اليقين بأن القرار سيتهم أعضاءً
في حزب الله باغتيال الحريري الأب، ومحاولة استطلاع ردّ
فعل الحزب حياله. تزامن ذلك أيضاً مع مواقف أميركية وأخرى
مصرية تمسّكت بدعم المحكمة الدولية وإحقاق العدالة. ضاعفت
ردود الفعل هذه خيار دمشق وضع المواجهة مع المحكمة على
نار حامية.
أعقبت ذلك تطوّرات متسارعة أكّدت حقيقة الاخفاق السعودي
في مسعى تأجيل صدور القرار الظني، بدأت بتصريح وزير الخارجية
السوري وليد المعلم لصحيفة وول ستريت جورنال بان المحكمة
الدولية أصبحت مسيّسة بشكل لا يمكن التعويض عنه. ثم جاءت
المذكرات التوقيفية بحق أسماء كبار في تيار المستقبل وفريق
14 آذار عموماً وردود فعل الأخير على المذكرات بطريقة
توحي وكأن ثمة ارتداداً سريعاً لنقطة الصفر. وجاء الموقف
المصري السعودي المشترك في 4 أكتوبر من التمسك بالمحكمة
الدولية ليضع اتفاق التهدئة بين الرياض ودمشق على المحك
مجدّداً..
مؤشر آخر، لقاء الرئيس السوري الاسد بنظيره الإيراني
أحمدي نجاد والذي يأتي كتتويج لتوافق الطرفين على تذليل
العراقيل أمام حصول نوري المالكي على رئاسة الوزراء وتأليف
الحكومة الجديدة التي ستحظى بدعم سورية وإيران، وهذا يفسّر
لجوء خصم المالكي إياد علاوي الى الأردن ومصر للتدخل وتجاوز
دمشق التي كان يعتمد عليها بأن تلعب دوراً في دعمه كمرشح
لرئاسة الوزراء في العراق.
لم تعد لمقولة (الوقوف على مسافة واحدة من جميع الأفرقاء
اللبنانيين) صدقية إعلامية فضلاً عن أن تكون لها صدقية
على الأرض، وهي الجملة التي يستعملها الطرفان السوري والسعودي،
فما تكشف عنه متابعات المواقف السوري في لبنان أن دمشق
باتت على استعداد للإعلان عن موقفها الواضح من قضية المحكمة
الدولية وأن أي تهديد يوجّه لحليفها القوي حزب الله من
قبل المحكمة الدولية هو بالضرورة موجّه إليها، ولن تقف
على الحياد في هذا المضمار، وهي على استعداد للذهاب فيه
حتى النهاية، وإن تطلب خوض معارك من أجل تعطيل أضرار القرار
الظني.
الشيخ نعيم قاسم، نائب الأمين العام لحزب الله أعاد
تأكيد الموقف الرسمي للحزب في حديثه مع برنامج (كلام الناس)
لقناة إل بي سي في 30 سبتمبر من عدم التسليم بالقرار الظني
الذي سيتّهم (حزب الله) لأن بعض الجهات ومنها لبنانية
وعلى رأسها رئيس الحكومة سعد الحريري عليها التدخل ليأخذ
هذا القرار منحى آخر، مضيفاً: (هناك جهود يستطيع أن يبذلها
سعد الحريري عبر علاقاته الدبلوماسية ليأخذ القرار الاتهامي
منحى غير ظالم). وقال: (يستطيع الحريري أن يقول للسعودية
أن تتحرك والسعوديون التزموا خلال القمة الثلاثية بالتحرك).
ولكن السؤال المشروع والواقعي: هل لدى السعودية مصلحة
في تأجيل القرار الظني؟ هذا إن كانت لديها القدرة على
فعل ذلك، وهي فرضية تبقى قائمة خصوصاً إذا ما أرادت تجنيب
حلفائها في لبنان خسارة محققة، أم أنها تدرك بأن لا إمكانية
عملية للقيام بذلك ما لم تجد بأن القرار الظني قد يفضي
الى فض الاشتباك الكبير خارج لبنان، وخصوصاً مع سورية
التي كانت واضحة منذ البداية في موقفها بأن إتهام حزب
الله يعني ببساطة إتهام سورية، وهذا الربط يجعل السعودية
ورئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري في موضع حرج.
أوساط حزب الله اللبناني تبدو متشكّكة في دور فاعل
للسعودية لجهة إلغاء أو تأجيل القرار الظني لأمد طويل،
ويرون ذلك من منظور الصراع الايراني السعودي حيث أن السعودية
تسعى إلى تحجيم النفوذ الإيراني في لبنان والمتمثل في
حزب الله، بما يوجّه ضربة قاصمة له ستؤول في النهاية الى
انهيار مشروع المقاومة في المنطقة عموماً وسيؤدي حكماً
إلى تبدّل في الموقف السوري.
من جهة أخرى، هناك في أوساط حزب الله سؤال كبير عن
حجم الدور الذي يمكن للسعودية أن تلعبه خصوصاً وأن المطلوب
منها أن تمارسه مع الولايات المتحدة الأميركية التي تجد
في القرار الظني والمحكمة الدولية فرصة لا تتكرر لضرب
المقاومة بعد أن خسرت فرصاً سابقة مثل حرب تموز 2006 والمشاغلة
الداخلية التي أفضت الى 5 أيار وتالياً 7 أيار 2008.
السعودية غير قادرة على صنع معجزة في لبنان لإنقاذ
الموقف المتدهوّر، وإن أقصى ما كانت تقوم به هو إيصال
رسائل الى دمشق بأنها ملتزمة بخيار التهدئة، رغم أن شخصيات
وازنة في تيار المستقبل الحليف للسعودية خرجت عن سياق
التهدئة مراراً وبدت لهجة الجميع تقريباً في التيار بعد
صدور مذكرات التوقيف تميل الى التصعيد ضد سورية. وكان
واضحاً منذ 5 أكتوبر أن تيار المستقبل وفريق 14 آذار عموماً
يسير باتجاه خيار القطيعة مجدداً مع سورية، وهو ما أثار
حفيظة النائب وليد جنبلاط الذي انتقد وصف الحريري لمذكرات
التوقيف بأنها (إهانة)، وقال بأن كلما خطى لبنان خطوة
في طريق المصالحة مع سورية أعادنا فريق 14 آذار عشر خطوات،
ما ينبىء عن أن جنبلاط بدأ يميل الى موقف أكثر تشدّداً
من حلفائه السابقين لأنه لم يعد يرى في المحكمة الدولية
خياراً إنقاذياً للبنان ولا للحقيقة، وقد يكون التخلي
عن المحكمة إنقاذاً لأرواح اللبنانيين سبيلاً صائباً.
صحيح أن حزب الله الذي يتطلّع لأن يلعب جنبلاط دوراً أكبر
فيما يرتبط بملف شهود الزور باعتباره أحد المطّلعين على
سير هذا الملف في مرحلة سابقة، وقد يكون له وجهة نظر ما
في هذا السياق، ولكن جنبلاط لا يبدو على استعداد لتبني
خيارات راديكالية في هذه المرحلة على الأقل قبل صدور القرار
الظني، وقد ذكر ذات مرة بأنه يؤمن بحكمة الملك عبد الله
أو ما أسماها (الحكمة البدوية).
قد يكون الجديد والبارز في موقف جنبلاط والذي قد يبعث
رسالة قلق الى السعودية هو إطلاقه تحذيراً مبطّناً عن
استعداد نوّاب ووزراء اللقاء الديممقراطي لتبني مواقف
قد لا تكون متوافقة مع الرئيس سعد الحريري وخصوصاً في
موضوع تمويل المحكمة، وقد تنسحب المواقف على موضوعات أخرى
من بينها الميزانية والتعيينات القضائية والوزارية وأخيراً
الحكومة برمتها في مرحلة ما.
بالنسبة للموقفين السوري والإيراني، بدا واضحاً أن
حزب الله مطمئناً بدرجة كافية للدعم السوري المطلق، وعلى
ثقة تامة بأن ما يتسرّب من ذيول تيار 14 آذار حول إمكانية
دخول دمشق في صفقة إقليمية أو دولية على حساب الحزب، تكشف
عن نقص في معلومات المنظّرين داخل التيار، أو أن هؤلاء
يعبّرون عن تمنيات لا يمكن في الوقت الراهن تحقيقها، خصوصاً
وبعد أن اطمأنت سورية الى وضعها وخرجت من مؤامرات كبرى
سابقة كادت أن تؤدي الى إسقاط النظام. يضاف الى ذلك، أن
حزب الله لم يعد مجرد حليف عادي بل هو أحد المصادر الكبرى
لقوة سورية واستقرارها ونفوذها ليس في لبنان بل في المنطقة
عموماً، وهو ما تدركه السعودية بصورة كاملة، ولذلك فإن
الحديث عن معادلة سين سين التي صاغها رئيس مجلس النواب
نبيه بري لم تكن تقوم الا على أساس معطيات القوة الحقيقية
المتوافرة لدى كل منهما، وهذا ما يجعل من المستحيل الحديث
عن تخلي سوريا عن حزب الله أو أن تترك المحكمة الدولية
تستفرد به، كيف وأن دمشق مازالت تعاني من الأضرار المعنوية
والسياسية لهذه المحكمة بسبب شهود الزور. ومايقال عن سورية،
يقال أكثر منه عن ايران، وهذا ما يصعّب مهمة السعودية
في لبنان، وقد تكشف الأيام القادمة عن أن القرار الظني
ينطوي على تهديد لمن يدعمه.
|