ويكيليكس ومصداقية (الحجاز)
مثلت وثائق ويكيليكس اختباراً لمصداقية مجلة (الحجاز)،
إن من جهة المعلومات التي توردها، أو من جهة التحليلات
التي تقدّمها فيما يتعلق بالحراك السياسي السعودية، والرؤية
السعودية الخارجية تجاه القضايا الإقليمية والدولية، وحتى
المحليّة منها.
تبيّن مما نشر حتى الآن من وثائق ويكيليكس المتعلقة
بالشأن والموقف السعودي، أن ما طرحته الحجاز من تحليلات
يكاد يكون متطابقاً مع حقيقة الموقف السعودي (المخفي)
عن الجميع، بمن فيهم الموظفين الكبار في الخارجية السعودية
من غير الأمراء، ولكنه غير خافٍ على الأميركيين.. وهو
الموقف الذي عبّرت عنه بصراحة متناهية الوثائق المتسرّبة،
والتي يخشى الأمراء تسرّب المزيد منها بما يفضح الدور
السعودي. هذه الخشية عبّر عنها بصراحة الأمير تركي الفيصل،
رئيس الإستخبارات السعودية السابق، والسفير السابق في
لندن ثم في واشنطن، وذلك على هامش حوار المنامة (3-5 ديسمبر)
الذي عقدته الخارجية البحرينية بالتعاون مع معهد الدراسات
الإستراتيجية البريطانية (IISS).
قال الأمير تركي بأن القادم من ويكيليكس سيكون الأقسى،
وأن ما نُشر لا يمثل إلا جزءً محدوداً من قمّة جبل الوثائق.
ذات الخشية جاءت على لسان مسؤولين أمريكيين، الذين
باتوا غير قادرين على استقراء حجم الضرر الذي يمكن أن
يسببه نشر الوثائق.
أياً يكن الأمر، فإنه كان بالإمكان الأخذ بظاهر المواقف
السعودية، والتي تعبر عنها على شكل كليشيهات تمجّد بالتضامن
العربي والإسلامي، والحرص على السلم والأمن الإقليمي والعالمي!،
وأهمية علاقات الأخوة والصداقة بين دول المنطقة، وما أشبه
من عبارات. وكان يمكن أن تجد تلك الكليشيهيات من يصدّقها،
أو يعتبرها تمثيلاً صادقاً للموقف السعودي. أما وبعد أن
نشرت الوثائق، فإنه قد تبيّن للقاصي والداني أن الشعارات
العامة التي تطلقها الماكنة الإعلامية السعودية، لم تكن
تعكس مطلقاً حقيقة مواقف الرياض.
ينبغي التوضيح ابتداءً بأن السعودية اعتادت أن تظهر
بأكثر من وجه، أو في أدنى الحدود بوجهين أمام شعبها والعالم:
واحد حقيقي يعبّر عن موقفها الأصلي في الغالب، وهذا ما
يطلع عليه المعنيون الأميركيون وبعض الغربيين أحياناً
كبريطانيا؛ والوجه الآخر مزعوم ومدّعى وكاذب، يظهر براءة
الذئب من دم يوسف. لكن السعودية ـ واعتماداً في التقييم
على ما تسرّب من وثائق ويكيليكس ـ هي اليوم الأكثر نفاقاً
في تاريخها، والأكثر تباعداً بين ما تظهره لأميركا والغرب
من جهة، وما تخفيه عن شعبها من جهة أخرى. ما يعني أن ميول
السعودية اتجهت الى أقصى اليمين الأميركي، أكثر من أي
وقت مضى في تاريخها، وأن هامش استقلالها في المواقف يشهد
اليوم الحدّ الأدنى من حيث الحجم.
في كل المواضيع الكبرى المثارة في الوثائق المتعلقة
بالسعودية، وجدنا أن (الحجاز) ليس فقط سبقت الوثائق الأميركية
في التحليل، بل وكانت تحليلات الحجاز أكثر عمقاً وتفصيلاً،
ولا تعتمد على مقاربة منهجية واحدة في النظر الى المواقف
السعودية تجاه قضية من القضايا، بل الى عدد غير قليل من
الزوايا والمقاربات المصلحية والدينية والمذهبية والإجتماعية
فضلاً عن السياسية وحتى النفسية والشخصية. أضف الى ذلك
فإن ما قدّمته الحجاز من تحليلات تستند الى معلومات جاءت
متطابقة تقريباً في تحديد جوهر المواقف السعودية من المسائل
والقضايا.
الأمثلة على هذا الأمر عديدة يصعب حصرها هنا.
من بين الأمثلة: إن مجلة (الحجاز) قدّمت في أعداد مختلفة
خلال السنوات الثلاث الماضية تحليلات مبنيّة على معلومات
تفيد بأمرٍ واحد لا لبس فيه، وهو أن السعودية، ومنذ أواخر
عهد الرئيس جورج بوش الإبن، كانت تضغط على الولايات المتحدة
وتحرضها كي تعلن الحرب على إيران. وهو ما كشفت عنه الوثائق
المتسربة مؤخراً. ما يعني في حقيقة الأمر، أن السعودية
تمارس تهديداً خطيراً لإيران بلا مبرر أو منطق، وليس العكس.
الشيء الذي لم تكشفه الوثائق حتى الآن ـ وهو الموضوع
الذي نال تغطية واسعة من (الحجاز)، ويمكن أن ينكشف في
الوثائق التي يتم نشرها تباعاً ـ هو التعاون السعودي الإسرائيلي
في هذا المجال، أي في الضغط على الرئيس بوش لإعلان الحرب،
وأيضاً في الضغط على الإدارة الجديدة لأوباما لتحقيق ذات
الغرض، مع ملاحظة أن ويكيليكس نشرت وثائق تفيد بتطور العلاقات
بين اسرائيل ودول الخليج بما فيها السعودية.
الأمر الذي لم يكن واضحاً في (الحجاز) فيما يتعلق بالموضوع
الإيراني، هو الإعتقاد بأن دعوات التحريض والحرب القادمة
من السعودية، وإن كانت تمثل رأي أكثرية العائلة المالكة،
خاصة الجناح السديري، فإنها لم تكن تمثّل الملك عبدالله
وجناحه الضعيف. الذي ثبت من خلال الوثائق هو أن الملك
عبدالله لم يكن شاذّاً في موقفه، وقد قرأ العالم ـ وبكل
اللغات ـ تحريضه الأميركيين على طهران وقوله لهم أنهم
يجب أن يقطعوا رأس الأفعى (الإيرانية بالطبع)! ولا ننسى
أن عبدالله صرّح قبل بضعة أشهر لصحيفة فرنسية بأن (إيران
كدولة يجب أن تزال من الوجود)!
ومن الأمور التي أوضحتها (الحجاز) في مقالات متعددة،
ما يتعلق بتوجه السعودية شرقاً نحو الصين وتقديم الإغراءات
الإقتصادية إليها من أجل فك ارتباطها بإيران وقطع الدعم
السياسي عن الأخيرة، أو تخفيف ذلك الإرتباط، بما يجرد
إيران من قدرتها على مقاومة الضغوط الغربية فيما يتعلق
ببرنامجها النووي. هذا الأمر كشفته الوثائق مؤخراً من
خلال رسالة من القنصل الأميركي في جدة الى وزيرة الخارجية
الأميركية كلينتون مؤرخة قبل بضعة أشهر فحسب.
ذات الأمر ينطبق على توجه السعودية مبكّراً الى روسيا
لمحاصرة إيران، واختطاف حليفها الأساسي، وهو ما نجحت السعودية
والغرب فيه الى حدّ كبيرً. هذا الموضوع ناقشته (الحجاز)
في عدد من المقالات، ولاحقته منذ بدايته حين توجّه بندر
بن سلطان الى موسكو والتقى بالرئيس بوتين وعقد صفقة سلاح
بمليارات الدولارات. وكان الثمن: تغيير الموقف من إيران.
بالطبع جاءت للروس إغراءات أخرى من واشنطن وتل أبيب. الوثائق
تؤكد هدف المنحى السعودي هذا. فالسعودية لا تعتمد على
الأسلحة الروسية مطلقاً، والغاية السياسية من الصفقة العسكرية
كانت واضحة لواشنطن ودبلوماسييها في الرياض وجدة، حسبما
نشرت ذلك الوثائق المسرّبة.
في موضوع آخر، فإن الحجاز ـ ومنذ صدورها ـ كانت تؤكد
على أنه يصعب وضع حدود فاصلة واضحة بين تنظيم القاعدة
والمؤسسة الدينية السعودية التي ولدت القاعدة من رحمها؛
كما يصعب الفصل بين التنظيم والحكومة السعودية باعتبار
الأخيرة مغذية للتنظيم مالياً وأيديولوجياً وبشرياً. يكاد
لا يخلو عدد من (الحجاز) من الإشارة الى حقيقة أن السعودية
تمول وتستخدم القاعدة في أماكن معيّنة، وتضربها في أماكن
أخرى إذا ما تجاوزت الموقف السعودي الرسمي. قلنا مراراً
في (الحجاز) بأن السعودية تموّل القاعدة بشرياً ومالياً
وأيديولوجياً؛ سواء كانت في نهر البارد أو العراق أو اليمن
أو الباكستان أو أفغانستان. الآن جاءت بعض وثائق ويكيليكس
لتكشف عن هذا الأمر بالتدريج، ولتؤكد هذه الحقيقة، الى
حدّ أن الغارديان البريطانية (5/12/2010) اختارت عنواناً
لها يقول بأن وثائق ويكيليكس تظهر السعودية وكأنها Cash
Machine (صراف آلي) للإرهابيين!
أيضاً فإن (الحجاز) ما فتئت تقيّم السياسة الخارجية
السعودية، وكيف أن العامل المذهبي والطائفي قد أعمى السعوديين
عن تشكيل رؤية ومواقف صحيحة تصب في صالحهم، ما جعلهم يخسرون
العديد من مواقعهم السياسية ونفوذهم بين شعوب ودول اخرى.
الوهابية تشكل خلفية العديد من المواقف السعودية كما في
العراق والباكستان. ونشرت (الحجاز) عشرات المقالات التي
تتحدث عن الموقف السعودي المركّب على خلفيات مذهبية ليس
فقط تجاه إيران، وإنما العراق ولبنان والباكستان. وثائق
ويكيليكس أكدت حقيقة كره الملك عبدالله الشخصي والمبني
على خلفية طائفية تجاه آصف زرداري رئيس الباكستان، كما
تجاه نوري المالكي رئيس وزراء العراق، وأن ذلك الكره يمثل
عقبة ومشكلة في المستقبل.
ومن الموضوعات التي اعتادت (الحجاز) الإشارة اليها
وتحليلها ما يتعلق بموضوع الخلافة والصراع على الحكم،
ومرض الأمير سلطان وتركه أعمال الحكومة منذ ثلاث سنوات،
وقد أكدت وثائق ويكيليكس أن ولي العهد ومنذ 2008 صار مقعداً
عن العمل.
وعموماً، هناك العديد من القضايا الأخرى نشرتها (الحجاز)
وأكدتها وثائق ويكيليكس، وهي تمثل مادّة هذا العدد وغلافه
الرئيس.
لقد زوّدتنا وثائق ويكيليكس بأدوات نختبر فيها ـ نحن
العاملون في مجلة (الحجاز) ـ معلوماتنا وتحليلاتنا. كما
كشفت لنا طريقة التفكير والعقلية السعودية، وكيف تنظر
للأمور. أيضاً فإن الوثائق تكشف الموقف الأميركي من السعودية،
ومن مزاعم تطويرها ديمقراطياً وحقوقياً. كل ما وردنا من
أميركا مجرد نفاق يستخدم الديمقراطية وحقوق الإنسان كسلاح
ضد أعداء أميركا، في حين يتم التغاضي عن ديكتاتورية وتآمر
الحلفاء كما في السعودية.
من المتوقع أن تؤثر الوثائق المتعلقة بالسعودية على
علاقة الأخيرة بإيران، حتى وإن أعلنت طهران بأنها لا تثق
بتلك الوثائق وتضعها في خانة التآمر الأميركي. والوثائق
نفسها ستفضح الأمراء السعوديين أمام الجمهور العربي والإسلامي،
وكذلك أمام شعبهم، بما يؤدي الى تقلص شرعية حكمهم. أيضاً
فإنه إذا ما قيّض للوثائق المتسربة أن يستمر نشرها، فإنها
على الأرجح ستسيء لعلاقات السعودية مع دول الخليج. سنجد
كلاماً وتآمراً سعودياً ضد دول خليجية أخرى (السعودي وتمويل
انقلاب في مسقط مثلاً/ والحقد على دبي ونموها والتآمر
عليها)، وكذلك ستوضح حقيقة مواقف حكام خليجيين يظهرون
وكأنهم حميمي الصداقة للسعودية.
ويؤمل أن تكشف الوثائق المسرّبة، سياسة السعودية في
لبنان أثناء حرب تموز 2006 وخلفياتها وكيف تآمروا مع الإسرائيليين،
والتدعيات الأخرى التي أفضت الى الصراع مع سوريا، ومحاولة
الإنقلاب العسكري عليها، وكذلك تدبير انقلاب على حماس،
وقبله اتفاق مكة الذي يقول الإسرائيليون أن غرضه الوحيد
كان (تغيير أيديولوجية حماس) أي جعلها نسخة من (فتح عبّاس).
وهناك فوق هذا ملفات سعودية كثيرة تتعلق بدورها في اليمن
وأفغانستان والصومال والعراق، سيؤدي كشفها الى صدمة كبيرة
بين مسؤولي الدول.
وأخيراً قد تكشف الوثائق ـ إذا ما قيّض نشرها ـ ما
تفعله السفارة الأميركية في الرياض، وقنصليتيها في جدّة
والظهران من أعمال ولقاءات على الصعيد الشعبي والإستخباراتي.
أسماء ونشاطات قد تظهر وتذهل المواطنين السعوديين أنفسهم!
شكراً ويكيليكس.. قد تحدثون تغييراً تاريخياً على مستوى
العالم!!
|