س ـ س على أعتاب صدور القرار الظني
الأسد لا يعرف في المملكة إلا ملكها.. العليل
خالد شبكشي
إحتدمت في الشهر الفائت المنافسة بين جيفري فيلتمان
مساعد نائب وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى
والملك عبد الله على المحكمة الدولية، فبينما يتمسّك فيلتمان
بالأخيرة حتى النهاية، يسعى الملك عبد الله بالتعاون مع
الرئيس السوري بشار الأسد الى التوصل الى صيغة حل مرضية
بعد أن أصبحت المحكمة سلاحاً سياسياً لمعاقبة لبنان بأسره،
وليس وسيلة لتحقيق العدالة والوصول الى (الحقيقة). في
الشهر الفائت ورد خبر زيارة فيلتمان الى الرياض لمقابلة
الملك عبد الله بهدف إقناعه بالتخلي عن التفاهم مع سورية
حول المحكمة، ولكن الملك رفض لسبب رئيسي أن فيلتمان تعرّض
له في مجلس خاص بالإسم وبكلام بذيء. يبدو أن ذلك صحيح،
خصوصاً بعد أن كشف فرانكلين لامب في مقالته في فورين بوليسي
جورنال بتاريخ 25 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، عن محادثة
هاتفية بين فيلتمان والسفيرة الأميركية في بيروت مورا
كونيللي وتضمنت كلمات بذيئة تفوّه بها فيلتمان ضد حزب
الله.
على أية حال، فإن التنافس كان محتدماً بين واشنطن والرياض
على المحكمة الدولية، وهو ما أدركه اللبنانيون جيمعاً
بمن فيهم قادة المعارضة وعلى راسهم حسن نصر الله، الأمين
العام لحزب الله، الذي أعلن جديّة المسعى السعودي السوري،
ونوّه بدور الملك عبد الله.
ولكن، كان مرض الملك عبد الله وسفره الى الولايات المتحدة
قد أثار جوّاً من التشاؤم، وذهب البعض للقول بأن مرض الملك
علّق التسويّة برمتها. وبحسب نقولا ناصيف في 30 نوفبر
الماضي في صحيفة (الأخبار)، بأن انقطاع الاتصال السعودي
ـ السوري على أثر الإعلان عن مرض الملك عبد الله فتح (ثغرة
مهمة ومربكة في الجهود التي يبذلها البلدان لمعالجة الأزمة
اللبنانية، الناجمة عن انقسام حاد بين قوى 8 و14 آذار
حيال المحكمة الدولية والملفين المتفرعين منها، وهما القرار
الظني وشهود الزور). هذا التشاؤم عائد في جزء كبير منه
الى ما يعنيه المسعى السعودي السوري لبنانياً، في ضوء
كلام للرئيس الأسد من أن ما يجمعه بالمملكة هو ملكها فقط،
وبالتالي فإن غياب الأخير يعني انكشاف لبنان على الخارج،
بما في ذلك الجناح السعودي الآخر المخالف للتوجه التسووي
في لبنان، إلى جانب القوى الإقليمية والدولية التي تعمل
على الفتنة في لبنان. يوضع موقف الاسد جنباً الى جنب تصريح
الأمين العام لحزب الله في 11 تشرين الثاني (أكتوبر) الماضي
حين أثنى على الدور الإيجابي للملك عبد الله، في محاولة
لتصعيد منسوب الآمال على مساعي التسوية التي يقودها الرئيس
الأسد والملك عبد الله. وكان اختيار الأخير لنجله الأمير
عبد العزيز وسيطاً مع الرئيس الأسد دلالة واضحة على أن
من يحظون بثقة الملك في العائلة المالكة أو حتى في حكومته،
باعتباره رئيس مجلس الوزراء، غير موجودين، فقد أصبح الأمير
عبد العزيز القناة السالكة بين بشار ـ عبد الله، ولذلك
فإن انتقال القناة الى واشنطن مع والده يعني انغلاقها
مؤقتاً، ما قد يشير الى شيء خطير قد يجري التحضير له،
خصوصاً مع اللهجة المنفلتة التي بدأت تبرز في تصريحات
فريق الموالاة والمعارضة، بالرغم من مواصلة التأكيد على
استمرار مساعي الرئيس الاسد والملك عبد الله.
|
مهما يكن، هناك من رأى في رحلة علاج الملك عبد الله
الى الولايات المتحدة بأنها إشارة سلبية على أن مسار الـ
(سين) (سين) قد تعطّل بفعل فاعل، بهدف تمرير القرار الإتهامي
الذي يتوقع صدوره بين لحظة وأخرى، وأن هناك أمراً ما دفع
بالملك عبد الله الى الابتعاد ريثما يتم تنضيج بيئة القرار
الظني في لبنان وعلى المستويين الإقليمي والدولي. جماعة
الملك عبد الله بدت كما لو أنها في حالة استنفار للرد
على مثل هذه الانطباعات السلبية حول علاقة سفر الملك الى
الولايات المتحدة والمساعي السعودية ـ السورية للتوصّل
الى تسوية لبنانية قبل صدور القرار الظني. فقد أعاد السفير
السعودي في بيروت علي عسيري طمأنة اللبنانيين إلى استمرار
المساعي تلك. الجديد في الأمر، هو ما ذكره الرئيس السوري
بشار الأسد، وكرّره السفير عسيري، من أن المساعي السعودية
السورية لا يمكن لها أن تنجح دون وجود استعداد لدى الاطراف
اللبنانية للتوصّل الى تسوية. وفي ذلك إشارة الى أن ثمة
أطرافاً أخرى غير الـ (سين) (سين) تلعب دوراً نافذاً في
المعادلة اللبنانية، الأمر الذي يتطلب تنبيهاً الى إمكانية
تخريب التوافق السوري ـ السعودي من أطراف أخرى، لبنانية
ولكن مرتبطة بمحاور إقليمية (مصر واسرائيل تحديداً)، أو
دولية (أميركية على وجه الخصوص).
المنطلق في موضوع التسوية التي جرى العمل عليها من
قبل الجانبين السوري والسعودي يقوم على ركائز أساسية منها:
أن لا تسوية محتملة بعد صدور القرار الاتهامي عن مدعي
عام المحكمة الخاصة بلبنان دانيال بلمار، وأن حزب الله
يرفض بشدّة أن يخوض حواراً على قاعدة كونه متّهماً. على
العكس، يرى حزب الله، والمعارضة اللبنانية عموماً، بأن
القرار الظني موجّه لكل لبنان وليس للمقاومة اللبنانية
فحسب، وبالتالي يجب أن يكون الحل لبنانياً شاملاً، وقبل
أن يصدر القرار الظني. وثالثاً أن التسوية يجب أن تعالج
موضوع المحكمة الدولية بعد أن تحوّلت من (حل) الى (مشكلة)،
ورابعاً أن يتم تحصين التسوية بين المعارضة والموالاة
بضمانات سورية وسعودية ودعم عربي وفرنسي وروسي.
وبالرغم من أن الملك عبد الله كان موافقاً من حيث المبدأ
على مثل هذه التسوية كونها ستمنع (الإنفجار الكبير) في
لبنان في حال صدور القرار الظني دون تدخّل سعودي مؤثر
للحيلولة دون وقوع فوضى عارمة تطيح برئيس الحكومة الحليف
للسعودية وقد تفضي الى زوال النفوذ السعودي بالكامل، إلا
أن هناك مخاوف جديّة برزت هذا الشهر حيث بدا محيط رئيس
الحكومة الحريري متأهّباً لتصعيد وتيرة المواجهة مع حزب
الله والمعارضة اللبنانية وتوظيف اللغة الطائفية المقيتة
في مثل هذه القضية السياسية بامتياز. فقد جرت عملية إعادة
تأهيل للوعي الموالاتي، وخصوصاً السني منه، لقبول فكرة
أن حزب الله، الشيعي، هو من يقف وراء اغتيال رئيس الحكومة
رفيق الحريري (وهو ما أفصح عنه النائب المستقبلي السابق
مصطفى علوش في 10 كانون الأول الجاري).
من جهة ثانية، لقد بدا واضحاً من أن الملك عبد الله
ليس المرجعية النهائية لتيار المستقبل، وللموالاة عموماً،
فهناك أطراف أخرى نافذة تلعب دوراً موازياً ومساوياً في
ملف المحكمة الدولية. فلغة أنصار الحريري وأزلامه من نواب
ووزراء تتعارض والحديث المتواصل عن استمرار المساعي التسووية
بين الرئيس الأسد والملك عبد الله، بما يشير الى أن ثمة
جهة أميركية يمثّلها جيفري فيلتمان بدأت تعمل بأقصى طاقتها
في اللحظات الحاسمة التي تسبق صدور القرار الظني.
إن الاضاءة المقصودة على رد فعل حزب الله وقوى 8 آذار
على صدور القرار الظني من أنه سيعيد تكرار سيناريو 5 ـ
7 آيار (مايو) 2008، يلمح الى طبيعة التوجّهات التي يحملها
الطرف الخارجي، وقد يعيد استحضار ما فكّر فيه ذات حديث
(ورد في تسريبات ويكيليكس) للأمير سعود الفيصل، وزير الخارجية
السعودي من حشد قوة عربية مدعومة من الأمم المتحدة وبغطاء
جوي وبحري من الولايات المتحدة تحت ذريعة منع سقوط الحكومة،
وحماية بيروت من سيطرة حزب الله. يلتقى مع هذه التوجيهات،
صدور تصريحات تهويلية في 12 كانون الأول (ديسمبر) الجاري
ذات طبيعة مذهبية، حيث بدأ الحديث عن عواصم طائفية في
لبنان، كالقول بأن طرابلس عاصمة السّنة، وأن رئيس الحكومة
زعيم سني، في تسييل فاضح للغة مذهبية مقيتة. وكان لافتاً
تواري الطرف المسيحي في الموالاة، ببساطة لأن في الفتنة
المذهبية يصبح المكوّنان السني والشيعي مطلوبين وحدهما
في التراشق الاعلامي الطائفي وإن كان الجميع سيكون حاضراً
في ميدان (الفتنة).
وفيما يبدو، فإن السعودية، على الأٌقل الجناح المؤيّد
لصدور القرار الظني ممثلاً في الأمير سعود الفيصل والأمير
بندر، تخوض الى جانب أطراف إقليمية ودولية (مصر واسرائيل
والولايات المتحدة) إختباراً ميدانياً قبل صدور القرار
الظني، خشية أن تخرج الحسابات متناقضة مع المأمول من وراء
مثل هذا القرار. وهناك من يرى أن التريّث في صدور القرار
الظني عائد الى عدم الحسم في اختبار درجة الجهوزية لدى
الاطراف اللبنانية المحلية والخارجية في حال خروج الوضع
السياسي والأمني عن حدود السيطرة. بالنسبة للولايات المتحدة
والكيان الاسرائيلي، فإن القرار الإتهامي يراد منه خنق
حزب الله، ولكن الخوف لديهما تحوّل الى مكان آخر من أن
القرار الإتهامي قد يقوّض نفوذهما لبنانياً بما يعطي مبرراً
لحزب الله بالقيام بكل إجراء يحفظ وجوده، وصورته، وسلاحه.
وهذا السيناريو المحتمل يضع الكيان الاسرائيلي أمام استحقاق
من نوع آخر، فإما الدخول في حرب ليست مستعدة لها، وبالتالي
زيادة احتمالات الخسارة العسكرية مرة ثانية، وإما الانسحاب
التكتيكي في موضوع المحكمة الدولية وتشجيع الولايات المتحدة
على توفير الدعم الضروري لجهود التسوية السعودية السورية.
بالنسبة لفريق الملك عبد الله، فإن الأمر واضحٌ وشفاف،
فلا إمكانية على الإطلاق لانتصار صافي في ملف المحكمة
الدولية لأي طرف، وأن الخسارة جماعية لبنانياً وعربياً،
ولذلك قبل الملك بخيار التسوية لأنه الأمثل في مثل هذه
الظروف بالغة التعقيد. وفيما يبدو، فإن سعد الحريري المتردّد
بين إرادات الكبار (السعودية بجناحيها، الولايات المتحدة،
فرنسا) بات عاجزاً عن القيام بأي خطوة فعلية على الأرض،
فهو يميل الى خيار الهرب، بدلاً من القيام بخطوة تسووية.
وهو يرى بأن واشنطن ستبقى داعمة له في كل الاحوال، رغم
أنها لا تملك إجابة من أي نوع عن أي تطوّرات ميدانية في
لبنان، بل هي الأخرى تلوذ بالمجتمع الدولي والقرارات التي
ستصدر عن مجلس الأمن في حال صدور القرار الظني ضد حزب
الله، وهي قرارات ستلحق أضراراً بالحكومة أولاً وأخيراً
وليس حزب الله الذي يعتمد في كل نشاطاته على الحدود البرية
المحاذية مع سورية.
الحريري لا يريد الإقدام على خطوة معبّرة في ملف المحكمة
الدولية، كأن يسحب اعترافه بها، أو يعتبر أي قرار ظني
يصدر عنها أمراً لا يعنيه كولي للدم، أو في الحد الأدنى
اعتبار الاجماع اللبناني، والاستقرار، والوحدة في لبنان
خطاً أحمر، فكل ما صدر عنه هو مجرد مواقف غامضة وتميل
الى أنه ينتظر صدور القرار الظني، حتى يحدد ما يجب عليه
القيام به فيما بعد، أي (بعد خراب البصرة).
تدرك القيادة السعودية تماماً ماذا يعني أن تخسر لبنان،
وهي الموقع الأخير الذي تراهن عليه بعد خسارتها العراق
وفلسطين، فهي وإن تحالفت مع الولايات المتحدة، فإنها بالتأكيد
لا تشاطرها المصالح المشتركة في هذا البلد، وأن الأمن
الاسرائيلي أولوية أميركية في لبنان وقد ينعكس ذلك على
مصير ومستقبل نفوذها السياسي عبر آل الحريري. الى جانب
ذلك، فإن السعودية ومهما بلغ نفوذها السياسي فهي لا تمثل
ثقلاً سياسياً مستقلاً ومنفرداً، في مواجهة الثقل السوري
مثلاً، أو حتى الثقل الإيراني، ولا يمكن لعامل القوة العسكرية
أن يحسم معركة في لبنان وخصوصاً حين يكون الطرف الآخر
هو حزب الله، وهذا ما يجعل خيار الحوار، والتسوية، والتعايش،
الشراكة الأمثل بالنسبة للسعودية التي ستخسر في كل الاحوال
فيما لو قررت الإسترسال مع ما تمليه الأجندة الخفية للمحكمة
الدولية.
ليس أمام السعودية خيار في ظل اقتراب صدور القرار الظني،
سوى التفاهم مع دمشق أولاً وإعادة إحياء اتفاق الطائف،
على أن يخرج لبنان من دولة الطوائف الى دولة وطنية تمثيلية،
ولا يمكن تحقيق ذلك في ظل جنوحات طائفية تتغذى على مصادر
تحريض محلية وخارجية يكون عنوانها دم رئيس الوزراء الأسبق
رفيق الحريري، الذي تحوّل الى ما يشبه قميص عثمان، ويراد
له أن يكون مبرراً لتصفية حسابات خارجية وأحياناً إسرائيلية،
التي تحوّلت هي الأخرى الى مطالب بالقصاص من دم الحريري.
مهما بلغت سيناريوات الحل الاستثنائي فيما يرتبط باحتواء
تداعيات محتملة للقرار الظني سواء باستقالة الحريري أو
هروبه، فإن الاستحقاق التاريخي المنتظر هو مواجهة جماعية
لحقيقة المحكمة الدولية، وقد يكون الجانب السعودي معنياً
قبل أي طرف آخر في تحديد الموقف من المحكمة، خصوصاً بعد
أن بدا التسييس فاقعاً ولا يعوّل عليها كآلية للوصول الى
(الحقيقة) الحقيقية وليس (الحقيقة) المطلوبة أميركياً
وإسرائيلياً.
|