من كرسي الحكم الى الكرسي المتحرّك
دولــة الـجـثـث الـمـتـحـرّكـة
مشهد الملك والأمراء الكبار، ممن لا يزال يمشي مكباً
على وجهه، أو على أربع بعد أن انتقل من كرسي الحكم الى
الكرسي المتحرّك، مشهد يثير، دون ريب، الشفقة. فقد أصبح
الجيل الثاني في العائلة المالكة في سباق مع المرض، حيث
يتربّص بهم من كل جانب، وقد أقعد منهم على الكرسي الطبي،
فيما توارى سلطان من الموت النافر من عينيه الجاحظتين
بوضع نظارة شمسية (حتى في حلكة الليل البهيم) لإخفاء ما
تنذر به عيناه، اللهم لا شماتة.
لا تكاد تنتهي رحلة (الفحوصات الطبيبة الروتينية) لأمير
حتى تبدأ رحلة أمير آخر ولنفس السبب، فقد باتت السياحة
الطبية عنواناً لكل رحلات أفراد الجيل الثاني. فبين مصاب
بالمرض العضال، وآخر مصاب بانزلاق غضروفي (إسم الدلع لمرض
عضال آخر)، وثالث يعاني من أزمات قلبية مزمنة، ورابع يعاني
من كومة أمراض جعلته عصيّاً على كل أدوية التخدير بسبب
الإدمان على الكحول ما اضطر أحدهم لاستعمال تقنية تخدير
خاصة، ورابع يتقوّس تدريجاً كالخيزران المبلول..بالمختصر
المفيد دولة جثث متحركة.
بات العامل الصحي حاكماً على البرنامج اليومي للملك
والأمراء الكبار، وقد تتعطل شؤون البلاد والعباد لأن جلالته
أو معالي سموه الملكي ليس في حال صحية جيدة هذا اليوم.
وقد كثر في قصر أحد الأمراء عديد الممرضين والممرضات لتلبية
حاجاته الطبية، من تقديم الدواء والغذاء الخاص، والتدليك،
والتبديل (الملابس وخلافه). يصف أحد المقرّبين من الأمراء
بأن قصورهم تتحوّل تدريجاً الى مستشفيات لكثرة ما يرتادها
ويقطن فيها من الطواقم الطبية. وليس هناك خبر عاجل وسط
العائلة المالكة سوى الحال الصحية للملك والأمير سلطان
الذي مهما تباينت التكّهنات حول مدّة بقائه على قيد الحياة،
فإن التقارير الطبية الصادرة عن أطبائه الخاصين تشير الى
أن مدة إقامة الأمير سلطان في دنيانا القصيرة محدودة للغاية.
ما يثير السخرية أن الوضع الصحي لأي أمير ينعكس على
الفور في قراراته السياسية، فبعد أن ظهرت أعراض (الإنزلاق
الغضروفي البغيض) على الملك، قرر الأخير تعيين إبنه رئيساً
للحرس الوطني الأمير متعب بن عبد الله بمرتبة وزير، وأن
الأميرين سلطان (ولي العهد) ونايف (وزير الداخلية) قد
حسما بفعل وضعهما الصحي أيضاً أمر منصبي وزير الدفاع ووزير
الداخلية. الجانب المثير في لعبة المرضى الكبار، أن الملك
وهو يغادر الديار لأسباب صحية يستدعي ولي عهده (الأمين
جداً) للعودة الى الديار وهو الآخر لمّا يختم رحلته العلاجية،
فيعود الأمير سلطان وهو يحمل على عاتقه رسالة واضحة من
عزرائيل عليه السلام بأنه معفي من إدارة شؤون البلاد،
ولذلك أناب شقيقه وزير الداخلية الأمير نايف الى قمة مجلس
التعاون الخليجي في أبو ظبي هذا الشهر. إنها المرة الأولى
التي يكون فيها للعامل الصحي دخل في تحديد هوية الممثل
الرسمي للمملكة في القمة، بالرغم من الاستحقاقات الكبيرة
التي وضعت منذ قمة الكويت العام الماضي فيما يرتبط بالتنافس
السعودي الاماراتي على البنك المركزي الخليجي والعملة
الخليجية والبطاقة الالكترونية وموضوعات أخرى تشعر الرياض
بأنها امتيازات لا يجوز أن تحصل الامارات عليها.
لا أعرف على وجه الدقة حالة دولة تعيش على وقع صحي
للملك والأمراء الكبار. وحتى الذين وجدوا وجه شبه بين
الطبقة الحاكمة في السعودية ونظيرتها في الإتحاد السوفياتي
في أيامه الأخيرة يجهلون طبيعة تداول السلطة في بلادنا
الحبيبة، فالشيخوخة في المملكة ليست مقتصرة على الملك،
فالعرش وماحوله مصاب بالتكلّس ونحن أمام جيل كامل يمسك
بمفاصل الدولة في وقت يعاني فيه من أمراض خطيرة تقعد به
عن القيام والقيمومة بكل أشكالها.
مشهد الملك وهو ينتقل من كرسي الحكم الى الكرسي المتحرّك
بات مألوفاً، بسبب كثرة السوابق، فسيرة المؤسس وخلفه وصولاً
الى الملك فهد وأخيراً الملك عبد الله، كلهم يقتفون سيرة
الجثث السابقة، في الانتقال بالحكم من الكرسي الثابت (الدوّار)
الى الكرسي المتحرّك..تمهيداً للإنتقال الى الاعلى. لا
أحد يشعر بالحرج إزاء مشهد الملك والأمراء الكبار وهم
يقودون شعباً كاملاً وهم مقعدين في كراسي الاعاقة، فقد
سبق أن حكم البلاد ملكٌ فقد عصب القوامة وهو العقل، بعد
أن أصيب في مخّه، وبدنه، وقعدت به الإعاقة عن إدارة شؤون
الوطن.
ما يجدر البوح به هنا أن ثمة كلمة للناس تفرضها علينا
الحال الصحية للملك والأمراء الكبار، وتتلخّص في التالي:
أن من المعيب حقاً أن يستمرق شعب فكرة أن يكون خاضعاً
بأي ثمن وبأي شروط ومن أي شخص مهما بلغ قربه وبعده عن
القبر. لقد بتنا في القرن الحادي والعشرين، الذي أصبح
فيه العلم والوعي والمعرفة والتكنولوجيا سمات العلاقة
بين البشر في كل أشكالها، ونحن لا نزال نعيش عصر الديناصورات،
فما إن يموت ديناصر من آل سعود حتى يخلفه آخر، بالرغم
من انقراض ذلك العصر، ولكن يبدو أن مهمة أخرى تقع على
عاتق الناس وهي إزالة ثقافة الديناصورات أولاً.. حتى ننعم
بدولة عصرية.
|