السعودية.. مهوى أفئدة الطغاة!
محمد قستي
لم يجد الطاغية زين العابدين بن علي مأوى يلجأ إليه
سوى السعودية.
رفضه صديقه القذافي، وتخلّى عنه ساركوزي وحماته الفرنسيون
بعد احتضان وتأييد دام أكثر من 22 عاماً.
طلب الفرنسيون منه أن يبحث عن مكان آخر، وتمت مراقبة
تحويلات الأموال من قبل زمرته الناهبة، وأخيراً طُلب من
بقايا عائلته المقيمين في فرنسا بمغادرتها على وجه السرعة.
كانت فرنسا التي دعمت بن علي حتى اللحظات الأخيرة،
تريد التكفير عن جريمتها في دعمه، والتودد الى العهد الجديد.
لقد انتهت باريس من بن علي كسيجارة تم دعسها بالحذاء،
ليؤكد المشهد حقيقة أن الغرب انتهازي لا يهمه إلا مصالحه،
وهو لا يهتم بحركة الشعوب وتأييدها الا بعد ان تثبت نفسها.
وظلت طائرة بن علي تطوف الدنيا، ولا نعلم كم بلد رفض
استقباله، في مشهد يذكرنا بما حدث لطاغية إيران قبل أن
يستقبله الطاغية المصري الراحل أنور السادات (البهاما،
المغرب، مصر.. بعد ان رفضت اميركا استقباله).
وفجأة تحطّ طائرة بن علي في جدّة، ليظهر بعدها الى
النور بيان من الديوان الملكي يبرر الموقف الرسمي. يقول
البيان حسب وكالة الأنباء السعودية:
الرياض 10 صفر 1432 هـ الموافق
14 يناير 2011 ـ واس
صدر عن الديوان الملكي اليوم البيان
التالي:
انطلاقا من تقدير حكومة المملكة
العربية السعودية للظروف الاستثنائية التي يمر بها الشعب
التونسي الشقيق، وتمنياتها بأن يسود الأمن والاستقرار
في هذا الوطن العزيز على الأمتين العربية والإسلامية جمعاء،
وتأييدها لكلّ إجراء يعود بالخير للشعب التونسي الشقيق،
فقد رحبت حكومة المملكة العربية السعودية بقدوم فخامة
الرئيس زين العابدين بن علي وأسرته إلى المملكة. وإن حكومة
المملكة العربية السعودية إذ تعلن وقوفها التام إلى جانب
الشعب التونسي الشقيق لتأمل ـ بإذن الله ـ في تكاتف كافة
أبنائه لتجاوز هذه المرحلة الصعبة من تاريخه. والله الموفق.
وقبل أن نتحدث عن البيان، لنتحدث قليلاً عن هذه السعودية
التي أصبحت مأوى للطغاة ومهوى لأفئدتهم.
فبن علي لم يكن الرئيس الأول الذي يجد نفسه طريداً
بين أحضان السعوديين. فقد سبقه رؤساء عدّة، لم يكن النميري
قبل أن يستقر في مصر، ولا سياد بري الصومال، ولا عيدي
أمين أوغندا، ولا نواز شريف الباكستان، ولا عشرات من الطغاة
الصغار إلا نماذج لذلك. فما هو سرّ هذا الهوس السعودي
باستضافة الطغاة في وقت يتجنبهم العالم مثلما يتم تجنّب
مرضى الأيبولا؟!
هل هي حالة انسانية، تتنزّل على الطغاة السعوديين،
فتجعلهم يشفقون على بني جنسهم؟!
|
الطاغيتان بن علي ونايف ـ
تونس، 17/3/2010 |
أم هي حالة إنسانية مشفقة على ما وصل اليه وضع التونسيين
الذين يريدون محاكمة الطاغية، فتظاهروا امام السفارة السعودية
في باريس مطالبين بإعادته الى تونس الى محاكمته؟!
اعتبر البيان السعودي استقبال بن علي (عفواً: فخامة
الرئيس ـ كما يقول البيان) إجراء مساعداً للتونسيين سيعود
بالخير عليهم. أي أن البيان زايد على التونسيين أنفسهم،
مع أن الأمراء لم يشاوروا سوى الأميركيين في استضافة الطاغية
بجدّة. وحسب معلومات خاصة، فإن وزيرة الخارجية الأميركية
تفاجأت بالإتصال السعودي، ولم تتوقع أن يتم مشاورتها في
أمرٍ كهذا، فما كان منها إلا أن أيدت إبقاء بن علي بعيداً
ومنحه اللجوء في السعودية.
إن إنسانية آل سعود، لم تشمل أولئك المعارضين التونسيين
الذين قبضت عليهم وهم يؤدون الحج أو العمرة، وأرسلتهم
الى بن علي ليفتك بهم.
وإنسانيتهم حتّمت عليهم إعادة الشيخ راشد الغنوشي،
زعيم حركة النهضة، لثلاث مرات من جدة وهو بلباس الإحرام،
بالرغم من أنه يحمل تأشيرة أداء الحج!
كانت أفضل وسيلة للتضامن مع الشعب التونسي، إبقاء حاكمها
طريداً يبحث عن ملجأ، بعيداً عن العالم العربي.
وكان من المعلوم جيداً بأن ما قام به طغاة الأمراء
في الرياض، إنما كان تضامناً مع طاغية مثلهم.
كانوا ولازالوا زاهدين في العلاقة مع شعب تونس. وإلا
لا يمكن لنظام أن يجازف بإظهار التعاطف مع طاغية قتل شعبه
وأهانه وهجّر نخبته وقمعهم وسلبهم رغيف الخبز، إلا ان
يكون غير مهتم بالعلاقة مع ذلك الشعب، وأن العلاقة مع
تونس بعهدها الجديد أمراً غير مهم. وهذه واحدة من محن
السياسة الخارجية السعودية، فرغم تدهورها على أكثر من
صعيد، فإنها ستصاب بنكسة إضافية في منطقة الشمال الأفريقي.
بن علي كان ولازال صديقاً للسعوديين.
كان الأمراء معجبين به أيّما إعجاب، تماماً مثل الغرب،
ولذات الأسباب: مكافحة الأصولية الإسلامية!!
أمرٌ غريب، فالسعودية متهمة بالأصولية أيضاً! ولطالما
اتهم (الصحويون) الوهابيون بداية التسعينيات الميلادية،
الأمير نايف، بأنه يتبع حذو القذة بالقذة سياسة بن علي
في قمع خصومه.
كان جناح الأمن الذي يمثله وزير الداخلية السعودي نايف،
رجل السعودية القوي، قد تبنّى بالكامل منذ بداية التسعينيات
الميلادية الماضية سياسة بن علي الحرفية في مجال ما كان
يسمّى بـ (تجفيف منابع الإرهاب).
وكان الوزير ـ الأمير نايف، لا تطيب له إجازة إلا في
ربوع تونس، وفي ضيافة صديقه بن علي. هذا بعكس ما يقوم
به إخوته الأمراء والملك نفسه، ممن يفضلون تمضية عطلاتهم
هناك في أقصى المغرب العربي: أغادير والدار البيضاء وغيرهما!
على صعيد آخر، بقي التنسيق الأمني بين السعودية وتونس
قوياً متصاعداً. ومن أدرك طبيعة العلاقات بين البلدين،
وبين الشخصين (نايف وبن علي) مذ كان هذا الأخير وزيراً
للداخلية، يدرك بأن استقبال السعودية لهذا الأخير لم يكن
مفاجئاً. فمن عادة السعوديين أن يستقبلوا الطغاة، خاصة
ممن هم على شاكلة بن علي.
لا يعتبر طغاة السعودية أنهم جازفوا بعلاقات مملكتهم
مع العهد الجديد في تونس حين استقبلوا الطاغية بن علي.
بالرغم من أنهم يشهدون نفور أصدقاء بن علي منه، سواء أولئك
الذين تآمروا عليه ضمن طاقم الحكم، أو أصدقاءه في أوروبا،
وفي مقدمهم ساركوزي.
من البديهي أن نظاماً ملكياً تسلطياً فاسداً لا يرحب
بالثورات، خاصة إذا ما وجهت ضد حليف وصديق مثل بن علي.
والأمراء لم يعودونا الترحيب بأي ثورة أو حتى انتفاضة
مصغّرة، ولطالما بيّن لنا (وعاظ السلاطين) التابعين للنظام
لا جزاهم الله خيراً، مساوئ الإنتفاضات والثورات (نسبة
الى الثور! كما يقولون).. كل ذلك حماية لمصالحهم ومصالح
النظام الذي يمتطيهم لتحقيق أهدافه وفي مقدمها فرض الخنوع
على الشعب.
بديهي إذن أن يكنّ الأمراء السعوديون العداء للتحركات
الشعبية الثورية التي أسقطت النظام في تونس، كونه تحرك
غير مسبوق في العالم العربي، ولأنه سحق النموذج الذي كانت
السعودية والغرب عموماً ينظرون اليه بإعجاب في قمع الخصوم.
ليس هذا فحسب، فهناك جانب آخر يمثل خطراً على حكم آل
سعود الطغاة. إنه الخشية من انتقال بعض رذاذ الإحتجاج
والثورة الى الشعب (المسعود). فهذا الشعب الذي يمتلك أكبر
مخزون نفطي في العالم.. يعيش 30% منه تحت خط الفقر (حسب
الإحصائيات الرسمية).
وهذا الشعب المسعود يشهد فساد الأمراء الذي يوازي جميع
الفساد في العالم العربي مجتمعاً.
وهذا الشعب المسعود يعيش خريجو جامعاته وشبابه بطالة،
أين منها بطالة التونسيين!
لهذا حقّ لطغاة آل سعود أن يخشوا ثورة تونس، وأن يحتضنوا
طغاتها.
أثناء التحركات الشعبية التونسية، اعتصم مجرد 200 خريج
جامعي أمام وزارة التربية والتعليم في الرياض مطالبين
بالتوظيف، فقد مضى على بعضهم عشر سنوات بلا عمل منذ أن
تخرجوا! فما كان من الأمن إلا أن فرّقهم، ومن حسن الحظ
انه لم يطلق عليهم الرصاص!
الأمير نايف، شقيق الطاغية بن علي، ألحّ في تصريحات
له على أن يتم الإهتمام بالشباب من قبل القطاع الخاص والعام
على حدّ سواء!!
الطغاة لا يتعلمون بسرعة، ولا نظن أن آل سعود يتعلمون.
ربما يتخذون إجراءات محدودة في الفترة القادمة، للتضليل،
ولإقناع المواطنين بأنهم جادّون في حل مشاكل البطالة والإسكان
وغيرها (عدا الإصلاح السياسي فهذا من المحرمات لدى طغاة
آل سعود!!)، لكنهم سيعودون الى سيرتهم الأولى، الى أن
يدهمهم طوفان الشعب في يوم ما، هم يعتقدون بأنه لن يأتي
أصلاً، تماماً مثلما كان بن علي ـ صديقهم الطاغية ـ يعتقد!
مكة المكرمة مهوى أفئدة المؤمنين الآمنين.
وآل سعود يريدونها مأوى الطغاة والمجرمين.
|