تثير الإضطراب والدموية فيما حولها
الأيديولوجية السعودية وحتميّة العنف
حضور الأيديولوجية الدينية السعودية في بلد ونموّها
فيه، مؤشر على أن ذلك البلد لن يتمتع باستقرار،
وأنه أقرب الى الصراع بين فئاته الى حد الإحتراب بالسلاح
محمد السباعي
تعتبر الباكستان البلد الوحيد في العالم الذي حافظ
السعوديون فيه على نفوذ عقائدي/ سياسي مستمر.
الباكستان يمكن اعتبارها المختبر الأفضل لدراسة تجربة
تصدير الأيديولوجيا الدينية السعودية في العالم، أو ما
يمكن تسميته بـ (تصدير الأيديولوجيا). التجربة السعودية
في التصدير ناجحة، ما يجعل قراءاتها ومعرفة مآلاتها أمراً
مهماً، خاصة إذا ما ارتبطت بتأثيرات حاضرة على المشهد
السياسي في أكثر من بلد.
هناك بلدان كثيرة تمتع فيها السعوديون بنفوذ سياسي
فحسب، وعادة ما يصاحب ذلك النفوذ السياسي شيئ من النفوذ
العقدي الأيديولوجي الوهابي الداعم، ولو كان قليلاً، حسب
طبيعة البلد ورؤية الحكام السعوديين لغاياتهم منه، وكذلك
بالنظر الى حجم ممانعة الدولة الأخرى المستهدفة أو الحاضنة
للصادرات الأيديولوجية السعودية.
فمثلاً، حتى وقت قريب، لم يكن الحكام السعوديون يبتغون
حضوراً أيديولوجياً وهابياً لهم في لبنان، بل كانوا يكتفون
بنفوذهم السياسي. فهم قد اعتبروا لبنان ساحة تسلية وسياحة
وربما فجور، وحضور الوهابية هناك لا يخدم هذه الرؤية الملكية
السعودية. ومن جهة أخرى، فإن السلطات الدينيّة السنيّة
في لبنان هي أقرب ما تكون الى الإسلام المصري الأزهري
منها الى الإسلام السعودي، الوهابي التكفيري والذي يصعب
احتضانه والإستفادة منه في بلد مثل لبنان، بل قد يعتبر
احتضان الوهابية أداة تفجير داخلية للمؤسسة الدينية السنيّة
نفسها وأداة تفجير اجتماعي واسعة النطاق.
لهذا لم يكن للوهابية سوى حضور رمزي في لبنان، وعلى
حاشية السياسة، وفي الغالب في مناطق الأطراف وليس في القلب،
اي في المخيمات والأماكن الفقيرة. لبنان يكاد يكون مستثنى
من الترويج الوهابي، لولا حدوث أمر خطير.
إنها حرب تموز 2006، التي اعتبرت السعودية نتائجها
كارثية عليها، وأدت الى المزيد من الإنحطاط في نفوذها،
ما جعلها تستعين بأيديولوجيتها الوهابية في مقاومة حزب
الله. ويمكن تسجيل الحضور الأيديولوجي السعودي في لبنان
بعد 2006، كرد فعل على الهزيمة السعودية الإسرائيلية في
الحرب، وهو ما حفّز الجسد الديني السعودي الوهابي، وليس
فقط الجسد السياسي منه والذي يمثله آل سعود، ليعود الى
عرين الأيديولوجيا الدينية كمصدّات أمام منافسات النفوذ
الإقليمية.
ولهذا نلاحظ صعوداً متزايداً للنفوذ السلفي السعودي
بعد 2006، لا باتجاه منافسة حزب الله في مواجهة اسرائيل،
بل لمواجهة حزب الله نفسه. الحضور السلفي متعدد اليافطات
لا يعدو غاية واحدة: مواجهة حزب الله. بعد 2006، ترى القاعدة
تعمل الى جنب الأمير بندر، الى جنب الحريري، في انسجام
مريب. هذا ما يمكن ملاحظته بوضوح في أحداث نهر البارد.
فهناك جماعة سلفية قاعدية، ترتبط بعض قياداتها بالمخابرات
السعودية والأردنية، ويشرف عليها الأمير بندر بن سلطان،
وهناك تمويل واضح من البنوك جاءت من طرف الحريري، والأكثر
هناك عشرات المواطنين السعوديين استدعوا من ديارهم الى
نهر البارد استعداداً للمعركة، فجاؤوا مباشرة من المطارات
السعودية (وهم قلّة)، أو عبر الإمارات وقطر وغيرها (وهم
الأكثرية). هؤلاء السعوديون لا يمكن القول أنه تم شراؤهم
بالمال، في وقت جاؤوا ليخضبوا بدماءهم الأرض في مواجهات
طائفية!
تجربة تصدير الأيديولوجيا السعودية الوهابية الى مصر
أخذت مساراً مختلفاً الى حد ما عن المسار اللبناني. فمنذ
بداية القرن العشرين، كانت هناك نواة سلفية صغيرة في مصر،
انتعشت بسيطرة آل سعود على الحكم في الحجاز، وبقي السعوديون
يدعمونها مالياً، وكانوا يرسلون اليها الكتب السلفية الوهابية
لطباعتها لديهم (في تلك السنين لم تكن في السعودية مطبعة
للكتب فكانت تطبع في الهند ومصر بالذات) كما كان السعوديون
يمولون بعض المؤسسات الثقافية السلفية هناك . هذه السياسة
لاتزال قائمة.
الحكومات المصرية المتعاقبة لا تشعر بارتياح من هذه
الجماعة السلفية الوهابية، رغم أنها بدت هادئة طيلة عقود،
والسبب هو أن هدوءها أقرب ما يكون قد جاء بقرار سياسي
من السعودية نفسها. فلو حدث وان اختلفت السعودية ومصر،
فإن الجسد السلفي في مصر قد يدخل المعركة العقدية ضد الحكومة
المصرية نفسها. بالطبع فإن المدرسة الوهابية في مصر لاتزال
تثير اضطراباً بفتاوى مشايخها وبنزعتها التكفيرية لملايين
المصريين (بل لأغلبية المصريين المسلمين، فضلاً عن المسيحيين
الأقباط!). وعموماً فإن الوهابية لم تجد لها في مصر ـ
كما في لبنان ـ مرتعاً خصباً لأسباب لها علاقة بطبيعة
التنوع الثقافي والديني في البلدين، ولحضور الصوفية القوي
في مصر، وكذلك لأن النخبة المصرية عامة بما فيها نخبة
الحكم تشعر بقلق بالغ من المحتويات العنفية العقدية للوهابية،
والتي ظهرت واضحة بيّنة خاصة بعد أحداث 9 سبتمبر 2001.
الباكستان كما اليمن تقدمان تجربة مختلفة عمّا سبق.
هنا تصرّ السعودية على عدم الإكتفاء بالنفوذ السياسي،
وترى أن ضمانة ديمومة هذا النفوذ الأخير والمحافظة عليه،
لا يكون إلا برفده بتواجد عقدي. لم تجد السعودية في الباكستان
ممانعة، فهذه الدولة تأسست عام 1947، حين انفصلت عن الهند،
واعتبرت نفسها (دولة اسلامية) تطبق الشريعة. الباكستانيون
ساسة وجمهوراً، لم يعترضوا على النفوذ السعودي، بل استدعوا
السعودية سياسياً واقتصادياً وعقائدياً الى ديارهم. لكن
الحال مختلف مع اليمن، ذات الأكثرية الشيعية الزيدية،
التي حرصت السعودية على تحويلها، خاصة بعد سقوط دولة الإمامة
عام 1962، الى مرتع للوهابية، ولاتزال السعودية مصرّة
حتى اليوم على (توهيب اليمن)، وترى في الإحيائية الزيدية
اليمنية التي يمثلها القادة الحوثيون خطراً على النفوذ
السعودي السياسي والعقدي. ولهذا السبب اشتعلت ست حروب
بين الحوثيين الزيديين وبين الحكومة اليمنية، كانت كلها
بدعم وتأييد بل وتحريض من الرياض، ولغايات عقدية مذهبية
وسياسية.
النفوذ السياسي السعودي ـ كما تحكي التجربة ـ يمكن
الحدّ منه أو من تطوره الى نفوذ سيء. لكن النفوذ العقدي
السعودي عادة ما يؤدي الى كوارث حقيقية، قد تصل الى حدود
الحرب الأهلية كما في اليمن والباكستان أو حتى في العراق.
في الماضي كان الطابع العام لاستدعاء الأيديولوجيا الوهابية
بغرض تمتين النفوذ السياسي السعودي في بلد من البلدان؛
أما في فترة انحطاط النفوذ السياسي السعودي ـ كما هو الحال
في الوقت الحاضر ـ فإن استدعاء الوهابية عادة ما يعني
التخريب والتدمير وكل مفردات الشرّ. حيث تتحول الوهابية
لا كأداة اختراق سياسي، بل كآلة نشر القتل وإراقة الدم.
من الأمثلة: استدعيت الوهابية في العراق لمساعدة الحكومة
السعودية، لا بغرض تقوية أو تأسيس نفوذ سياسي لها، بل
لتخريب الوضع؛ فكان أن وصلت الأمور الى حدّ الحرب الأهلية،
وليصبح محتضنو الوهابية ـ الذين اعتقدوا باستخدامها ضد
خصومهم السياسيين ـ ضحاياها ولازالوا.
وقد استدعيت الوهابية في لبنان ـ نهر البارد ـ على
قاعدة الخصومة مع حزب الله، وليس على قاعدة تمتين النفوذ
السعودي.
واستدعيت مرّة أخرى في غزّة، بدعم من مصر والسعودية
مالياً وعسكرياً، حيث قام وهابيون بتأسيس دولة إسلامية
في رفح!! واصطدموا عبر السلاح بحماس، فكانت نهايتهم.
ولازالت الحكومة السعودية تستدعي الوهابية في أماكن
أخرى، كما في إيران، حيث (جند الله) التي تحظى بدعم سعودي
وغربي في حمّى الصراع الإقليمي والدولي ضد إيران. بل أن
الأمير بندر بن سلطان هدد بريطانيا في فبراير 2008 علناً
باستخدام القاعدة ضد أمنها، كما نشرت ذلك صحيفة الغارديان
في حينه.
ملاحظتان أساسيتان يشهدهما المراقب للنفوذ الأيديولوجي
الوهابي السعودي:
الأولى ـ إن حضور الأيديولوجية السعودية في بلد ونموّها
فيه، مؤشر على أن ذلك البلد لن يتمتع باستقرار، وأنه أقرب
الى الصراع بين فئاته الى حد الإحتراب بالسلاح. هذا واضح
في كل من اليمن والباكستان. والسبب هو أن الوهابية لا
تؤمن بالتعدد ولا تعترف بإسلام أحد، وتكفّر الجميع عدا
أتباعها، وهي أداة خروج على الأنظمة بعد أن كانت مطيعة
لهم ردحاً من الزمن، وبعد أن كانت مفاتيح هدوئها بيد السعوديين
أحياناً، أخذت تتمرد عليهم في بعض الأماكن كما حدث في
موجات العنف بين عامي 2002-2008 والتي ضربت عدداً من المدن
السعودية بما فيها العاصمة الرياض.
من الصعب أن توجد جماعة وهابية نشطة في بلد ما، دون
أن تسبب اضطراباً اجتماعياً (هذا في السابق) وربما عنفاً
(كما هو في الحاضر). إن الإستثمار السعودي في نشر الوهابية
في الجزائر منذ أواخر السبعينيات الميلادية، كان أحد أهم
العوامل وراء القتل و(السبي) و(الغزو) الذي حصد عشرات
الألوف من الجزائريين. وإن بلداً منفتحاً مثل المغرب،
وبالرغم من صداقة حكامه مع السعوديين، فإن الجماعات السلفية
المدعومة من السعودية قد شبّت عن الطوق، وصارت تهدد البلد
عنفاً وقتلاً، بحيث يكتشف بين الفينة والأخرى جماعات عنف
تتبع القاعدة.
باختصار.. حيثما وجدت الوهابية ونمت، وجد الإضطراب
الإجتماعي، والعنف.
الثانية ـ اعتقد الكثيرون أن بإمكانهم استخدام الوهابية
ضد خصومهم، أو لبناء مجد لهم، ذلك أن الوهابية في جانب
من جوانبها مطيعة للأنظمة التسلطية باعتبارها أنظمة شرعية
لا يجوز الخروج عليها إلا أن تأتي بكفر بواح. ولهذا بمقدار
ما هي الوهابية مخيفة، فإنها مغرية لأصحاب المطامح، إذ
يسهل خداع قادتها، وتضليلهم والتلبيس عليهم، فضلاً عن
وجود حطب كثير من أتباعها جاهز للحرب لمن أراد أن يشعل
حرباً. إذ ما عليه إلا أن يستفزّ العنصر الوهابي في بعده
الطائفي فيحصل على ما يريد.
نصح عبدالله بن جلوي، ابن عم الملك عبدالعزيز، نصح
الأخير بأن لا يعتمد الوهابية/ الإخوانية، وشبهها بالنار
التي تحرق ما حولها. ولكن اغراءها كان كبيراً، فصار ابن
سعود/ عبدالعزيز إماماً لها، واحتل بجنودها معظم مناطق
ما يسمى بالسعودية اليوم، ثم لما حقق ما أراد ضربها وشتتها.
ولازال ابناؤه يريدون مشروعية الوهابية ويريدون استخدام
عناصرها في حروبهم الإقليمية، وإن كانت متطرفة عنيفة وقد
تخرج عن السيطرة.
علي عبدالله صالح فعل ذات الأمر. استخدم الوهابية والقاعدة
ضد خصومه في الجنوب، ثم ضد خصومه الزيديين في الشمال،
ثم انقلبت عليه، فيما يصر الأميركيون عليه بأن يواجه القاعدة
بعنف. وتبني مثل هذه السياسة قد لا يخدم حاكم صنعاء، مثلما
لم تخدم حكام الباكستان حين توجهوا لمواجهة متطرفي الوهابية
في وزيرستان ووادي سوات.
والنموذج الوهابي الثالث الذي انقلب على المعادلة ما
جرى في نهر البارد، حيث انقلب السحر على الساحر، وبدل
أن تواجه فتح الإسلام حزب الله، بادرت الى مواجهة الدولة
اللبنانية فأُسقط في يد مموليها وداعميها (الحريري والسعودية
والمخابرات الأردنية).
ومثل ذلك حدث مع السنة العرب في العراق، الذين هم في
أكثرهم أحناف، فدخلت الوهابية عليهم واحتضنوا قاعدتها،
بغية تحسين وضعهم في الحرب الأهلية واستعادة السلطة، فكانت
النتيجة أن أشعلت الوهابية الحرب على الجميع، ثم عادت
على السنّة العرب أنفسهم فأمعنت فيه تقتيلاً ـ وفق رؤية
الدولة الإسلامية العراقية ـ ولاتزال!
|