إدارة الأماكن المقدسة عبر التاريخ
من مشيخة الحرمين والأغوات والولاة الى أمراء المناطق
جُمعت مشيخة الحرمين الشريفين سنة 624هـ/ 1226م لأحد البغداديين
بأمر الخليفة العباسي، ثم عُيّن ـ نفسه ـ شيخاً للحرم المكي الشريف
في حدود سنة 626هـ/ 1228م، وأسند له النظر في مصالح الحرم ومصالح
الكعبة المشرفة. وفي سنة 635هـ/ 1237م، عُيّن الشيخ نجم الدين
التبريزي للنظر في عمارة المسجد الحرام ومصالحه. ويبدو أن هذا العرف
عمل به في المسجدالحرام حتى نهاية الدولة العباسية.
أما المسجد النبوي الشريف فلم يرد ما يحدد مهام شيخه أو من ينوب
عنه في حال اكتفاء الخلافة العباسية بإدارة موحدة للحرمين الشريفين
كما حدث سنة 624هـ/ 1226م؛ إلا فيما يذكره ابن النجار المتوفى سنة
643هـ/ 1245م، من أن الدولة العباسية تبعث كل سنة ألف دينار لعمارة
المسجد النبوي، بالإضافة الى ما يحتاج إليه من العمال والمواد. ولا
بدّ لهذا العمل المستمر من مسؤول ينظم أولوياته ويتولى توزيع مرتبات
الأئمة، والخطباء، والمؤذنين، وخدام المسجد الشريف، وما يصل الى
المسجد من الزيت والشمع والند، وغير ذلك من لوازم المسجد.
وعندما سقطت الخلافة في بغداد سنة 656هـ/ 1258م، وأعيد إحياؤها في
مصر سنة 659هـ/ 1260م، حاول أول خلفاء هذا العهد ممارسة مهام أسلافه،
فعيّن في مشيخة الحرم المكي إثنين من أعيان مكة، وعهد إليهما بالنظر
في أمر الأوقاف والرُّبُط، وإظهار شعار الخلافة بمكة.
ولا بدّ أن مثل هذا الأمر قد تمّ في المدينة أيضاً، إلا أن ذلك لم
يدم طويلاً، فسرعان ما استعاد الظاهر بيبرس ما اعتقد الخليفة أنه من
صلاحياته، فعين الطواشي جمال الدين محسن الصالحي المتوفى سنة 668هـ/
1269م في مشيخة الحرم النبوي الشريف.
وتتابع تعيين شيوخ الحرم النبوي من فئة الخدام الطواشية ممن يراد
نفيه أو تكريمه. وكان أول خرق لهذا التقليد الذي دام قرناً ونصف في
عهد الأشرف برسباي 825-841 هـ / 1421-1437م، عندما عيّن في مشيخة
الحرم النبوي شيخاً غير خصي سنة 839هـ/ 1435م. ثم عاد تعيين الطواشية
كما كان أولاً.
ولشيخ الحرم النبوي في الغالب نائب يعين في مصنبه بعد موته أو
عزله، وقد جاء في وصف شيخ الحرم في العصر المملوكي أنه في هيئة
الأمراء الكبار، وزاد في مكانته الإجتماعية ما يتمتع به من دعم
الدولة وتعظيمها لمنصبه، فجرت العادة أن يكتب له في قطع الثلث مساواة
له بمنصب القاضي في المدينة ومكة، وتفتح مراسيمهم بـ (الحمد لله)
بقصد التعظيم خلافاً لمن يكتب له في قطع الثلث ممن لا يراد تعظيمه،
فإن خطابه يفتتح بـ (أما بعد حمد الله).
وتقوم له سلاطين الدولة عندما يرد حاضرة مصر، وتبالغ في إكرامه،
حتى جاء بأن السلطان بيبرس أعطى شيخ الحرم النبوي عندما قدم مصر في
حدود سنة 667هـ/ 1268م مائتي ألف درهم وأعاده مع الركب الشامي. وقد
أكسبهم هذا التعظيم مكانة عند أهل المدينة والمجاورين بها، فلا يُعصى
لهم أمر ولا يرد لهم طلب، لا سيما عند المنتفعين من وظائف المسجد
النبوي وغيرهم من المسجلين في صرر الأوقاف وأموال الذخيرة التي هي
قوام معاشهم.
ولعلّ هذا بداية لتنامي الدور الذي سيلعبه متولي هذا المنصب في
تاريخ المدينة المنورة في العصر العثماني. فقد جاء بأن الأمير
المملوكي شجاع الدين شاهين الرومي، أحد الأمراء العشروات في دولة
مماليك الجراكسة 784-923هـ/ 1382-1517م، قد تولّى مشيخة الحرم النبوي
مرتين فيما بين 891-913هـ/ 1486-1507م واختص بوضع مفتاح حاصل الحرم
النبوي تحت يده دون القضاة وهو أمر له دلالته.
ومن مهام شيخ الحرم النبوي في هذا العصر، تنظيم نوبات الأغوات وحل
مشاكلهم، واستلام ما تحصل من أوقاف الخدام، وتدبير صرفها على الحرم
النبوي وخدامه، هذا فضلاً عن مخاطبة السلطان المملوكي في تعرض المسجد
الشريف للتلف أو احتياجه الى الترمييم والتجديد.
أما الحرم المكي الشريف، فعَهِدَ السلطان المملوكي بهذا المنصب
الى أحد كبار علماء مكة مقروناً بالنظر في مصالح الحرم الشريف،
وأحياناً يعين في المنصب إثنان، قرئت مراسيم اشتراكهما في المشيخة
والنظارة داخل الحرم الشريف بحضور جمع كبير من العلماء والأعيان.
ومرد الإختلاف بين تمييز الدولة المملوكية لشيخ الحرم النبوي
بمنصب تخاطبه فيه على قدم المساواة مع قضاة مكة والمدينة، وإسنادها
لهذا المنصب في الحرم المكي الى قاضي مكة الشافعي مستقلاً أو
مشتركاً، أن منشأ الأول جاء في البداية من طائفة الأغوات (الطواشية)
المكلفين بحراسة المسجد النبوي وخدمة الحجرة الشريفة من أول عهد
الدولة الأيوبية.
أما منصب الحرم المكي فظل على أصله العباسي في أغلب الأحيان،
ولكثرة الترميمات والتجديدات التي تمت في المسجد الحرام طيلة العصر
المملوكي، فقد اقترن منصب شيخ الحرم بمنصب ناظره الذي كان من
اختصاصاته ما يلي:
أولاً: القيام بأعمال العمارة في الحرم المكي، والإشراف على جميع
الإصلاحات.
ثانياً: إصلاح الطرق بين مكة ومشاعر الحج.
ثالثاً: إصلاح العيون والآبار التي يشرب منها أهل مكة.
رابعاً: عمارة الأسبلة وترميمها.
خامساً: ترميم المساجد الكائنة بمشاعر الحج.
سادساً: ترميم الأربطة، والمطاهر، والمدارس.
وقد أبقت الدولة العثمانية أنظمة الحرمين الشريفين على حالها،
فكان شيخ الحرم النبوي يُرسل على الأغلب من أغوات السلاطين في كل عام
أو عامين، على أن طول أو قصر الولاية كان مرهوناً في البداية بكفاءته
في إدارة الأمور الخاصة بمنصبه، وخلو المدينة المنورة في عهده من
الفتن أو الإضطرابات. وقد حفظ لنا مؤرخو هذا العصر أسماء بعض شيوخ
الحرم النبوي على مدى 272 عاماً (923-1195هـ/ 1517-1780م) حيث تبين
أن عددهم زاد على إثنين وأربعين شيخاً كلهم من الأغوات. وكان لمعظمهم
تصرف تام في كثير من قضايا المدينة، إلا فيما يتعلق بأمور الشرع
الشريف، وبعض الأمور العسكرية، فإنها من اختصاص قاضي المدينة
ومحافظها.
وتعتبر الألقاب التي خوطب بها شيخ الحرم المدني في الرسائل
الشخصية والفرمانات الواردة من الخليفة من أفخر الألقاب في الدولة
العثمانية كسيادتكم أسوة بالباشوات من أمراء مكة وغيرهم، وصاحب
الدولة، والعطوفة، أو صاحب الجناب العالي كما في المخاطبات الموجهة
له من خديوي مصر سنة 1326هـ/ 1820م.
وكان له ديوان يضاهي بتشكيلاته المختلفة ديوان والي جدة كما كانت
كسوته تماثل كسوة أمير مكة ووالي جدة ومحافظ المدينة. وقد تطلب
اختلال الوضع الأمني في المدينة المنورة أواخر العصر العثماني إنهاء
التداخل بين سلطات شيخ الحرم النبوي ومحافظ المدينة المنورة، وتعيين
قائد عسكري برتبة مشير أو فريق للإمساك بزمام السلطتين معاً، ففصلت
رسمياً سنة 1271هـ/ 1854م، ثم أعيدت لأصلها سنة 1328هـ/ 1910م، ثم
دمجت مرة أخرى في وقت قريب من التاريخ السابق. ورغم هذا كله، فقد
تعرضت المدينة المنورة لعدد من الثورات والفتن التي كان منشؤها بعض
شيوخ الحرم المدني من الباشوات. أما الأعمال التي يشارك فيها شيخ
الحرم النبوي بقية الأغوات فتنحصر في اشتراكه مع نائب الحرم النبوي
في إدخال الشمعدانين المخصصين لإنارة المواجهة الشريفة الى الحجرة
الشريفة وقت دخول المغرب، وإخراجهما بعد الشروق، هذا فضلاً عن تميزه
بالإشراف على جميع شؤون المسجد النبوي، وعقد اجتماع لمجلس إدارة
المدينة المنورة في نهاية كل أسبوع لدراسة أوضاع المدينة الأمنية.
وكان هذا المجلس قد حدث في مكة والمدينة بعد إعلان الدستور العثماني
في عهد الإتحاديين سنة 1326هـ/ 1908م.
أما شيخ الحرم المكي، فيبدو أنه بقي على أصله المملوكي مسنداً الى
قاضي مكة الحنفي، الذي ظل حتى سنة 945هـ/ 1358م يُعين من أهل مكة؛
فقد جاء بأن القاضي مصلح الدين أفندي المتولي للمنصب سنة 945هـ كان
أول قاضي رومي عين في قضاء مكة؛ ثم جاء في حوادث سنة 1041هـ/ 1613م
أن شكري أفندي كان قاضياً لمكة وشيخاً لحرمها.
ولكثرة الفتن والحروب بين أشراف مكة طيلة هذا العام وما قبله،
إضطرت الدولة العثمانية الى تعيين شخص برتبة عسكرية في مشيخة الحرم
المكي قبل اعتماد هذا الوضع في حرم المدينة المنورة بأكثر من مائتي
عام، فأضيفت مشيخة الحرم المكي الشريف الى سنجق جدة سنة 1041هـ/
1631م. وقد حاول المتولي لهذا المنصب سنة 1056هـ/ 1646م استخدام
صلاحياته في ترسيخ الأمن في مكة، فأخاف بذلك الشريف زيد بن محسن الذي
فرّ من البلد بعد تعيين نائب له.
وفي سنة 1072هـ/ 1661م تولى سليمان بك مشيخة الحرم المكي ونظارة
عمارته مع سنجقية جدة. أما في سنة 1076هـ/ 1665م فأُسندت مشيخة الحرم
المكي وسنجقية جدة الى عماد الدين آغا، الذي قيل إنه كان عيناً
للدولة العثمانية بمكة خاصة وسائر مدن الحجاز بعامة.
ولتردي الأوضاع الأمنيّة في مكة بعد ذلك، جهز والي مصر سنة
1078هـ/ 1667م خمسمائة جندي جعل عليها سنجقاً يدعى يوسف بيك، وولاه
مشيخة الحرم المكي مؤقتاً، وقد قام بدوره حتى ورد مع الحج الشامي حسن
باشا سنة 1079هـ/ 1668م متولياً لسنجقية جدة، وآمر الحرم المكي
والنظر في أمر مكة. وقد أغضب بتأخيره توزيع رواتب الموظفين شريف مكة،
وموظفي الدولة فيها، مما يعكس تأزم العلاقة بين الدولة العثمانية
وأمراء مكة الأشراف.
وتؤكد ولاية أحمد باشا لمشيخة الحرم المكي وسنجقية جدة في حدود
سنة 1097هـ/ 1685م مدى الصرامة والقسوة التي مارس بها مهام منصبه،
فقد جلد أحد أئمة الحرم المكي لتأخره عن نوبته في صلاة الفجر لعذر
قبله المفتي والقاضي، مما ألهب مشاعر الأئمة، فشكوه الى أمير مكة
الذي خاطب الدولة بأمره، فعزلته سنة 1098هـ/ 1686م.
ولعل عذر هذا الباشا وأمثاله في حرصهم على تطبيق النظام، أنهم في
المقام الأول أصحاب رتب عسكرية، ألفت النظام وعاشت عليه حتى صار
جزءاً من حياتهم، وزاد من حرصهم على التمسك بذلك ما دُعموا به من
توجيهات وأوامر تقتضي بحفظ البلاد من الفتن والنزاعات، التي أذكاها
أمراء مكة في نزاعهم المستمر على منصب الإمارة، وشارك فيها بعض
الموظفين طمعاً في ولائهم أو خوفاً منهم على مناصبهم. ويؤيد هذا
ويزكيه فحوى الفرمان الذي أيّد به السلطان أحمد الثالث (1115-1143هـ/
1703-1730م) شيخ الحرم المكي وسنجق جدة (إن سليمان باشا مفوض من
قبلنا على الحرمين الشريفين، قائم مقام قد قد نصبناه بصدد من رأى فيه
صلاح العباد والبلاد، فمن رأى فيه غير ذلك عزله ونفاه، وأقام من يرى
فيه الصلاح، وهذا خطاب شامل لمن كانت تحت طاعتنا محتمياً بحمايتنا).
وإذا كانت هذه السياسة قد أدت مفعولها لمدة طويلة، فقد فقدت
الدولة العثمانية سيطرتها على مكة وتوابعها في أعقاب ضم السعوديين
لها لمدة عشرة أعوام (1218-1228هـ/ 1803-1813م). ويبدو من التغييرات
التي أجراها السعوديون في بعض نظم المسجد أن شيخ الحرم فقد مركزه.
وتخلّت الدولة العثمانية عن إشرافها على الحرمين لمدة أطول على أثر
تدخل مصر بقيادة محمد علي باشا في إخراج السعوديين من مكة سنة
1228هـ/ 1813م ولمدة خمسة وعشرين عاماً، وهي الفترة التي يسميها أحمد
السباعي بالعهد العثماني الأول (923-1256هـ/ 1517-1840) وكان شيخ
الحرم طيلة هذا الوقت مقيماً بجدة.
أما العهد العثماني الثاني (1256-1334هـ/ 1840-1915م) فقد اتخذت
الدولة سياسة مخالفة لسياسة العهد الأول، فنقل مقر شيخ الحرم المتولي
لسنجقية جدة الى مكة المكرمة في حدود سنة 1286هـ/ 1869م، وصار يعرف
بالوالي، وصارت مكة تابعة للدولة العثمانية في جميع مرافقها السياسية
والإجتماعية. وتوسعت اختصاصات الوالي (شيخ الحرم) الذي صار يشرف على
القضايا الإدارية في البلاد بدلاً من أمرائها الأشراف.
ويعتبر عثمان نوري باشا المعين سنة 1299هـ/ 1881م أقدر شيوخ الحرم
الذين مارسوا مهامهم بنجاح في ظل السياسة التي اتبعتها الدولة
العثمانية في عهدها الثاني في الحجاز، فقد حاول هذا الوالي وضع نظام
يحدد به سلطة أمير مكة، وينظم علاقته بالدولة العثمانية وبرعاياه من
أهل الحجاز، بما يكفل للبلاد الأمن والرخاء.
وقد تكون هذه المحاولة من الوالي العثماني إحدى نتائج الدستور
الذي أعلن في الآستانة سنة 1294هـ/ 1877م. وقد تباطأ الوالي (شيخ
الحرم) أحمد راتب باشا في تطبيق الدستور في مكة بعد إعلانه مرة أخرى
سنة 1326هـ/ 1908م، فعزله الإتحاديون وعيّنوا بديلاً عنه كاظم باشا
الذي تأزمت العلاقة بينه وبين الشريف الحسين بن علي، الذي تولّى
إمارة مكة المكرمة سنة 1326هـ/ 1908م، وسعى الى الإتصال بالأهالي
وبوفود الدول العربية في مواسم الحج. ولم تملك الدولة العثمانية في
عهد الإتحاديين إلا تغيير ولاتها (شيوخ الحرم المكي) كلما دعت
الضرورة، حتى تعاقب على ولاية مكة في السبع سنوات التي تفصل بين
ولاية الحسين سنة 1908م وإعلانه للإستقلال، وإعلان الثورة العربية
سنة 1915م، ستة ولاة، لم يمارس بعضهم عمله إلا بضعة أشهر.
وحين احتلّ السعوديون مكة سنة 1924م، ثم المدينة وجدة في يناير
1926 ألحقوا الحجاز فعلياً بنجد، وعين الملك عبد العزيز إبنه نائباً
للملك على الحجاز، ثم بدا للسعوديين أن يحولوا مملكتهم الى مناطق
يحكمها بإسمهم نجديون أو أمراء من البيت الحاكم، وسمي الحجاز
بالمنطقة الغربية، ثم قسّم الحجاز الى ثلاث مناطق مكة والمدينة
وتبوك، يتولاها أمراء من آل سعود. ومن يدري فقد يدور الزمان دورته،
ويرحل السعوديون من جديد، وينتهي حكمهم عن الحجاز، ويتغير الطابع
الإحتلالي للحكم السعودي. |