على ضوء زيارة ولي العهد السعودي الى موسكو
قبلة الموت الروسيّة قد تنهي الحكم السعودي
العودة السعودية لموسكو بعد 65 عاماً من قطع العلاقات بين البلدين
عام 1938، يكاد يكرّر التجربة التي بدأها أشراف الحجاز في العشرينيات
الميلادية من القرن الماضي. لقد دار الزمن دورته منذ أُطيح بحكم
الأشراف الهاشميين بين عامي 1924ـ1926 بتواطؤ بريطاني، حاول الشريف
حسين أن يتفاداه بإيجاد علاقات متوازنة مع القوى العظمى آنئذٍ، ولكن
محاولته المتأخّرة عجّلت بنهاية حكمه، مثلما قد تكون المبادرة
السعودية الأخيرة بتأسيس تحالف ـ ولو أوّلي ـ مع موسكو، قبلة الموت
التي قد تحفّز الأميركيين والغربيين للتخلّص من الحكم السعودي الذي
جاؤوا به بديلاً عن الحكم الهاشمي!
لم يكن العداء السعودي للسوفيات، أو للشيوعية، مبنيّاً على تأسيس
ديني ومواجهة الإلحاد!، ولو كان الأمر كذلك لما أقام الأمراء
السعوديون علاقات مع السوفيات دبلوماسية واقتصادية امتدت لثلاثة عشر
عاماً، بين تاريخ سقوط جدة مطلع ينايرعام 1926 وانتهت بعام 1938. لقد
ورث السعوديون كل الجهاز الدبلوماسي الحجازي، فحتى سقوط الحجاز بيد
النجديين، لم يقم السعوديون علاقات إلاّ مع (الإنجليز) وبدون سفارة
أو حتى ممثل يقيم في عاصمة الوهابيين، بعد تجربة مقتل الكابتن شكسبير
في معركة جراب عام 1915. في حين كان لمملكة الحجاز علاقات دبلوماسية
مع عدد من الدول الإسلامية والأجنبية، كبريطانيا وهولندا وروسيا
وإيران. وكانت هناك وزارة خارجية أواخر العهد الهاشمي، وبعثات صحيّة
أجنبية، الخ.
بعد سقوط الدولة العثمانية، واكتشاف الأشراف خيانة الإنجليز فيما
يتعلق بمعاهدة سايكس بيكو، ومنع قيام الدولة العربية الموحدة
الموعودة، حاول الشريف (الملك) حسين المقاومة ما وسعه الأمر، ورفض
تقسيم البلدان العربية، كما رفض التخلّي عن فلسطين، وقاوم الشريف
فيصل (الملك فيما بعد) الفرنسيين رافضاً التخلّي عن سوريا فقامت
معركة ميسلون؛ وواصل الشريف مقاومة تهديدات لورانس بعزله والقضاء على
مملكة الحجاز وتسليمها لغريمه إبن سعود ولكن دونما جدوى.
وتشير حوادث التاريخ الى أن الشريف أعاد النظر في سياسته
الخارجية، فسعى الى إقامة علاقات مع الإتحاد السوفياتي أزعجت
الإنجليز، ورأوا أن الشريف يحاول عقد تحالف مع الروس كما مع
(الكماليين) الذين يقاومون الفرنسيين والإنجليز واليونان لتحرير
تركيا من الإستعمار، لهذا كانوا شديدي الإمتعاض، وكان ذلك أحد
الأسباب التي دفعت بالإنجليز لإنهاء حكم الأشراف في مملكة الحجاز.
في أواخر عام 1920م، حاول الشريف حسين لملمة الحكام العرب لمحاربة
الفرنسيين، وإقامة حكومة عربية تشمل كل بلاد الشام رداً على معاهدة
سايكس ـ بيكو. ورصد الإنجليز زيارة لشخصية روسية جاءت الى مكة تحت
إسم (سافيت باشا) فأكرمه الشريف حسين وقدّره، قالت مصادر بريطانية
أنه كولونيل سابق في الجيش الإمبراطوري الروسي، وأنه نزل من الباخرة
واتجه فوراً الى مكة حيث تلقى معاملة ضيف شرف، وأنه (قضى الأيام
القليلة الأولى في مكة يتفقد المؤسسات العامة وثكنات الجيش حيث قامت
الحامية باستعراض عسكري على شرفه وهو يرتدي زياً عسكرياً روسياً).
وتقول المصادر البريطانية أن حلفا غير معلن قد تشكل بين البولشفيك
والعرب والقوميين الأتراك (مصطفى كمال)، لتغيير المعادلة السياسية في
بلاد الشام على وجه التحديد. توضح وثيقتان بريطانيتان صادرتان من
القاهرة مؤرختان في 20 و 22 ديسمبر 1920 قيام نواة تحالف بين
القوميين العرب والكماليين والبولشفيك (الروس) وكيف أن (الفكرة
تبلورت في مكة والمدينة منذ بضعة أشهر، وأن الملك حسين يتلقى كميات
وفيرة من الأموال التي تجبى من الحجاج، ومن العائدات، وربما من مصادر
خارجية). وفسرت البرقيتان هذا التحرك والحركة بأنهما جاءا بسبب (عدم
رضا العرب.. وخاصة الملك حسين ورهطه، عن وضعهم الحالي الذي خلق بموجب
معاهدة السلام ـ سايكس بيكو). وأشارت البرقيتان الى أن الشريف تحرّك
من أجل إيجاد إجماع بين القادة العرب لمواجهة الفرنسيين، شكك
الإنجليز في إمكانية حدوثه والإستجابة له، خاصة من قبل أمير نجد إبن
سعود، رغم تدخل شخصيات دينية ووطنية مثل (الشيخ رشيد رضا) و(كامل
القصاب). حتى أن الإمام يحيى بعث برسالة إلى ابن سعود من أجل ذلك في
شهر أكتوبر 1920م، مرفقة مع نسخة من صحيفة (الفلاح) الصادرة في مكة،
تظهر بوضوح ان الملك حسين يحث العرب جميعا على الانتقام من فرنسا..
ولكن ابن سعود سلم الرسالة ومرفقاتها مباشرة للإنجليز.. فشكروه على
ثقته بهم، وكشف تحرك الشريف حسين، الأمر الذي جعلهم فيما بعد يدعمونه
ليحتل الحجاز.
قدم الروس الى جدة بدعوة من الشريف حسين، الذي وافق على فتح
قنصلية لهم هناك عام 1923م، وفتحوها بالفعل في أواخر عام 1924م. وكان
قنصلهم في جدة مسلما، وكان يدخل مكة والمدينة بحرية حُرم منها
الممثلون الأجانب غير المسلمين، وقد استقبله الشريف حسين يوم وصوله
استقبالا أثار استغراب البريطانيين، وكان للشريف حسين أسبابه في كل
هذا: فقد بدأ يدرك أن البريطانيين باتوا على استعداد للتخلي عنه،
وأصبحت مشاريعهم المشتركة مع فرنسا في سورية والعراق وفلسطين تتنصّل
من كل الوعود التي قطعتها بريطانيا له عام 1914م.. وبعد ذلك عام
1916م.
من جانبهم كان الروس يحاولون دخول الجزيرة العربية عن طريق اليمن
أولا.. ثم عن طريق إقناع الشريف حسين بأنهم مع خططه تجاه سورية
الكبرى، وعرضوا عليه المساعدة بواسطة عائلة لطف الله التي كان أحد
أفرادها يستعد ليصبح ملكاً على سورية بتكليف من الشريف حسين، وقد قبل
الشريف العرض السوفييتي، ثم لحق تأسيس القنصلية وصول طيارين
وميكانيكيين روس للعمل في سلاح طيران الجيش الحجازي.
ناجي العسيل، ممثل ملك الحجاز في لوزان، كان يزوّد الإنجليز
بالمعلومات عن الوجود الروسي. في وثيقة للخارجية البريطانية مؤرخة في
2/1/1923، معلومات قدمها ناجي العسيل عن مخططات روسية لإقامة علاقات
مع الممالك العربية، خلافا للرغبة البريطانية. كما كشف عن اتصالات
بين تشيكيرن ـ أحد المسؤولين الروس ـ وبينه (العسيل) حيث سلم تشيكيرن
مذكرة من حبيب لطف الله الذي كان ممثلاً للشريف حسين في لندن، والذي
أصبح ممثلاً له في روما. وقد أوضحت المذكرة لتشيكيرن محاولة الشريف
إقامة اتحاد كونفيدرالي بين البلدان العربية، فرد تشيكيرن بأن روسيا
باعتبارها احدى الأمم الشرقية القيادية، مهتمة جدا بهذه الفكرة. ثم
وجه تشيكيرن عدداً من الأسئلة عن ابن سعود، وعن اليمن والادريسي، وعن
الذي يسيطر حاليا على الحديدة، وقال إنه بمجرد عودته إلى موسكو،
سيعرض القضية العربية كلها للدراسة والفحص الدقيق. وأخيرا قال
تشيكيرن: (أنه تواق لعقد معاهدة تجارية مع الحجاز، ولتعيين وزير مفوض
في جدة، وسأل عما يمكن أن يكون رأي الملك حسين في ذلك).. رد الدكتور
ناجي متذرعا بعدم وجود أية تعليمات لديه تخوله مناقشة هذا الأمر..
وأضاف الدكتور ناجي (بأنه يعتقد بأن الخديوي السابق، وعدة أعضاء من
الوفد السوري/ الفلسطيني، هم على اتصال بالمستر تشيكيرن هنا في لوزان
فيما يتعلق بكل هذه القضايا، وأن حبيب لطف الله قد عقد أربعة لقاءات
مع موسوليني في روما لبحث المشروع الكونفدرالي العربي).
لقد تحول العرب نحو إيطاليا وألمانيا فيما بعد، لاستحصال بعض
حقوقهم ومحاربة البريطانيين والفرنسيين في فلسطين وسوريا، وذلك ردا
على خيانة بريطانيا للعهود التي قطعتها للعرب أثناء الحرب العالمية
الأولى.. إضافة إلى أن العرب حاولوا أن يتنصلوا ـ كما فعل الإنجليز ـ
من ارتباطاتهم بهم، وتوجهوا نحو القوى الأخرى ومن ضمنها روسيا، التي
دخلت كغيرها في لعبة التنازع على المصالح والنفوذ في بلاد العرب.
ولما كان الشريف حسين أكبر المخدوعين، فقد ظل على خلاف مع الإنجليز
منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى وحتى وفاته منفيا في قبرص.
ومنذ عام 1920م إلى عام 1924م، لم يتحفظ الشريف في عدم التزامه
بإقامة علاقات مع من يشاء، خصوصا بعد إيقاف الدعم عنه من قبل
الإنجليز.. ولما وجد الإنجليز أن الشريف يريد أن يحول المنطقة ضدهم ـ
أو هكذا تصوروا على الأقل ـ ضربوه بابن سعود، لتبقى الحجاز والشام
وباقي بلاد العرب كما هي، مزرعة إنجليزية/ فرنسية، دون تدخل من أطراف
خارجية قد تعكر الأجواء!
في 30/9/ 1921م، أرسل المندوب السامي البريطاني في بغداد رسالة
طويلة لابن سعود تستعرض آثام الروس والمآسي التي سببوها في البلاد
التي احتلوها، وكيف انهم ينهبون الطعام من الأهالي الجائعين، كما
وتستعرض محاولات الغرب المساعدة؛ وأخيراً أضاف المندوب السامي
بالقول: (الحمد لله أننا نحن هنا في العراق، وأنتم في نجد في منأى عن
شرور البلشفية ومساوئها)!
خلال هذه الفترة بدأ الإنجليز يتحدثون عن الشريف حسين كرجل معاد
لهم، ويصفونه بأنه رجعي جاهل مستبد. في 31/ 7/ 1924م، بعث الميجور
بولارد، القنصل البريطاني في جدة يخبر وزارة الخارجية في لندن بأنه
علم من مصدر موثوق: (أن الملك حسين يتوقع مسلماً روسيا لشغل منصب
القنصل الروسي قريبا جدا، وهو يعد له استقبالا ودياً للغاية). وعلق
مسؤول بريطاني على ذلك: (سيكون من الصعب على مبعوث سوفياتي أن يتظاهر
بأنه معجب بالملك حسين وبأساليبه الأوتوقراطية). ما هي إلا أيام
قلائل حتى وصل معتمد الروس إلى جدة في الثامن من أغسطس 1924م، واصبح
قنصلا رسميا. فكتب القنصل البريطاني (بولارد) من جدة الى رؤسائه في
18/8/1924م، تقريراً عن ذلك يقول فيه: (وصل الممثل السوفياتي الى جدة
يوم 8 أغسطس، وطبقا للبطاقة التي قدمها لي حين قدم لزيارتي، فإن اسمه
هو: كريم حاكيموف، معتمد الاتحاد السوفياتي وقنصله العام لدى جلالة
ملك الجزيرة العربية الهاشمي). وحاكيموف عمل في طهران ثم في مشهد وهو
تتاري يتقن الروسية والتركية والفارسية، ولكنه لا يتقن الإنجليزية أو
الفرنسية، ويبدو أنه كان يعرف القليل من اللغة العربية، ولكنه لا
يستطيع التحدث بها. وقد أحضر حاكيموف معه تتاريين آخرين، قدمهما على
أنهما السكرتير الأول والسكرتير الثاني، أحدهما يعرف الفرنسية.
وتتضمن قائمة موظفي الممثلية الروسية مترجما يجيد العربية، والقليل
من الإنجليزية.. كما تضم ما دعاه ضارب آلة كاتبة وهو: (نعوم
ماركوفيتش).
ورأى بولارد، أن كون حاكيموف مسلماً يعطيه ميزة واحدة على نظرائه
الأجانب، وهي أنه يستطيع الذهاب إلى مكة، وقد ذهب إلى هناك بالفعل في
سيارة قدمها الملك (حسين)، وذلك عقب وصوله بفترة وجيزة.. وحين أتى
الملك إلى جدة بعد عدة أيام.. قام بزيارة الممثل السوفياتي، وبقي معه
ما يزيد على الساعة. وفي تقييمه للعلاقات رأى بولارد أنه (يستحيل عدم
قبول الانطباع السائد في كل مكان في جدة بأن الهدف الرئيسي للبعثة هو
الدعاية.. ثم إن حجم البعثة، والاعتراف الأحمق بالملك حسين ملكا على
الجزيرة العربية، وحقيقة أن الممثل الروسي ـ أو رسولاً عنه ـ سيتنقل
ما بين البعثة في جدة والممثل السوفياتي في روما، إنما تعطي هذا
الاعتقاد شيئا من المصداقية، إن ملاءمة جدة للدعاية على مستوى هائل،
أمر واضح تماما، خاصة إذا أخذت آراء الملك حسين عن الشرق والغرب بعين
الاعتبار).
لقد وجد الإنجليز أن النشاط السوفياتي في جدة يستهدفهم تحديداً،
أو يستهدف رعاياهم من المسلمين في البلدان التي كانوا يحتلونها. بل
وصل الأمر بهم الى تفتيش ماضي حاكيموف ووجدوا أنه ألقى خطابات (حمقاء
معادية لبريطانيا) حسب تعليق الخارجية البريطانية. ومما أثار
الإنجليز أكثر هو اعتراف الروس بالملك حسين ملكا على الجزيرة العربية
وليس فقط الحجاز، واعتبروه في أدنى الأحوال عملاً سيء التوقيت، ويغذي
أحلام الشريف حسين بتأسيس دولة الوحدة العربية وتخريب مخططات
الإنجليز وحكومات الإنتداب الفرنسية والبريطانية في المنطقة.
وجاء ردّ فعل الإنجليز سريعاً، فبعد أيام من إقامة الممثلية
الروسية كان إبن سعود يغزو الحجاز بتشجيع من الإنجليز، وقد كان
الأخيرون وحتى عام 1919 يحذرون الأمير السعودي من فعل شيء، وهددوا
بضربه إن تعدى حدود نجد، وكان الأمير السعودي حينها قد اخترق الحدود
الحجازية وأقام مجزرة في تربة وتوغل الى الداخل الحجازي قبل أن ينصاع
للتهديد البريطاني. في هذه المرة خشي الحاكم السعودي تكرار التجربة،
لكن حافظ وهبة مستشار الملك، وكما كتب هو ذلك، نصح الملك أن يضرب
الشريف بسيوف الإسلام (الإخوان)! وأوضح للملك بأن الإنجليز صاروا
أعداءً للشريف، وبالتالي تغير الوضع. وفعلاً قام بمهاجمة الطائف،
واستباحها وأقام فيها مجزرته المعروفة، ثم ليزحف على مكة أواخر
سبتمبر 1924 ويحتلها.
حسم الإنجليز خيارهم بإزالة دولة الأشراف والإنتصار لعبد العزيز
آل سعود، فالشريف بنظرهم أصبح خطراً، بعد أن كان مجرد مشاغب، يجب أن
يزال ويؤتى بخصمه. ولهذا يلاحظ أن اللهجة البريطانية أخذت تنحو
باتجاه الاستهزاء والسخرية بالشريف ودولته وحلفائه، كما تطفح بذلك
وثائقهم. في الظاهر فإن الإنجليز حلفاء الطرفين: الهاشمي والسعودي.
ولكن حين هاجمت القوات الوهابية مكة وقبلها الطائف، وبعد ذلك جدة
والمدينة، لم يمنع الإنجليز المعتدي ولم يقفوا على الحياد، بل زودوا
ابن السعود بالسلاح والمال، في حين كان الشريف يناضل من اجل الحصول
على سلاح بريطاني سبق له أن دفع ثمنه مقدماً (خمسون ألف جنيه)،
ولكنهم رفضوا ذلك، وكان تبريرهم حينها، وكما كتب القنصل البريطاني في
جدة في 11/12/1924م الى رؤسائه، أن السلطات الحجازية: (تلقت أنباء من
المركز العربي في القاهرة ـ أي مركز المخابرات البريطاني ـ تفيد بأن
حكومة جلالة الملك البريطانية قد رفضت منح رخصة التصدير، وهذا ما لم
تستطع السلطات فهمه، لأن الحجاز من الدول الموقعة على ميثاق تجارة
الأسلحة المبرم عام 1919م). ويضيف بولارد: (ولكن من المحتمل أن حكام
الحجاز لم يقرأوا مواد الميثاق التي تحدد إجراءات واضحة وفعالة لمنع
الأسلحة والذخائر من الوصول إلى أيدي أناس ليس لهم حكومة مستقرة). أي
أن حكومة الحجاز لم تعد مستقرة، ورهان الإنجليز قائم على إسقاطها بيد
آل سعود، حليفهم الذي لا بديل له!
مع هذا.. تلقت حكومة الحجاز في 22 نوفمبر 1924م ثلاث طائرات
أوروبية، بموجب عقد مع شركة (بي في أو) للملاحة البحرية، وهي طائرات
قديمة ليست ذات نفع.. أما الطيارون الإنجليز الذين تمّ التعاقد معهم
فقد منعتهم حكومتهم من ذلك ورفضت اعطاءهم ترخيص عمل، إلا إذا غير
وزير الدولة للشؤون الخارجية رأيه، هذا بالرغم من أن الطيارين
الإنجليز وصلوا الى السويس. والهدف واضح، وهو إسقاط حكم الأشراف
الذين خسروا مكة بعد الطائف، وحوصرت جدة والمدينة المنورة.. ولذا
اعتمد الشريف علي بن الحسين على طيارين وميكانيكيين روس.
وأفضل ما يوضح نوعية الطائرات والطيارين، تقرير بريطاني مؤرخ في11
ديسمبر 1924، أعده بولارد يقول فيه: (وصلت السفينة نور/ NORE التابعة
لشركة بي في أو للملاحة البحرية إلى جدة في 22/ 11/ 1924م، وأنزلت
ثلاث طائرات من إنجلترا لصالح حكومة الحجاز. تبين أن أول طائرة تم
تجميعها هي من طراز (D.H.9) مزودة بمحرك سدلي بوما، وهي طائرة حربية،
ولكنها غير مجهزة بمدفع رشاش، أما الثانية فهي أيضاً من نفس النوع دي
هافيلاند، ومزودة بمحرك ديزل، ولكنها طائرة تجارية مزودة بكابينة
لنقل الركاب، ويعتقد أن الثالثة هي من نفس نوع الثانية، وليس بين
الطائرات واحدة جديدة). ويحلل بولارد مدى فائدة الطائرات في تغيير
سير المعارك بين ابن سعود والشريف علي الذي خلف والده في حكم الحجاز،
فيقول: (أما الطيار الوحيد المتوفر، وهو روسي يدعى شيركوف، فيقوم
بطلعات استطلاعية كل صباح ومساء تقريبا، وهو يستخدم الطائرة الأولى
دائما، بعد أن حطم بطن الثانية حين هبط بعد طلعته الأولى فيها. ولأنه
يرفض التحليق فوق مناطق العدو على ارتفاع يقل عن تسعة آلاف أو عشرة
آلاف قدم، وبما أن المراقب المرافق له أعور العين! ويصر على لبس
نظارات سوداء في كل طلعة، فلا يعتقد بأن التقارير التي يعودان بها
ذات أهمية كبيرة. يلح قائد الجيش تحسين باشا على شيركوف باستمرار لكي
يلقي قنابل على ما يفترض أنه تجمعات لقوات العدو، إلا أن شيركوف ما
يزال يرفض حتى الآن رغم أنه لا توجد قنابل طائرات في البلاد
الحجازية، لذا طلب تحسين باشا من الطيار أن يلقي قنابل يدوية، ولم
يقتنع تحسين إلا بعد جهد جهيد أن هذه القنابل إن لم تمزق الطائرة
إربا.. فإنها ستنفجر قبل الوصول إلى الأرض. عندها اقترح إلقاء
القذائف المدفعية، وقام هو بنفسه بتجربة ألقى خلالها قذيفتين، لكن
أيا منهما لم تنفجر).
وتأتي وثيقة أخرى لتكمل الموضوع، مؤرخة في الثلاثين من ديسمبر
1924م، ومرسلة من القنصل (بولارد) إلى أوستن تشامبرلين في وزارة
الخارجية بلندن، حيث تلخص آخر التطورات العسكرية بين الجيشين السعودي
والهاشمي، وتشير الى حادثة وقعت يوم 9 ديسمبر، حين قامت طائرتان،
يقودهما طيارون روس، بإلقاء أربع قذائف قرب موقع (بحرة) الواقعة في
منتصف المسافة على الطريق إلى مكة. وحول القوة الجوية الهاشمية تقول
الوثيقة أنها تتألف من ثلاثة طيارين، وستة ميكانيكيين، وجميعهم من
الروس، أما المستر كنغ، وهو أحد الطيارين البريطانيين الثلاثة الذين
منعتهم حكومتهم من المشاركة في الحرب الى جانب الأشراف كطيارين، فقد
قرر الحضور إلى جدة، في محاولة للتوصل إلى تسوية مع حكومة الحجاز،
لأنه لم يكن يملك من المال ما يكفيه للعودة إلى بريطانيا. وقد وافقت
الحكومة الحجازية على مطالبة المعتمدية البريطانية في جدة بألا
يستخدم المستر كنغ للعمل في الحجاز، كما أنه شخصيا قدم تعهدا خطيا
بألا يعمل في خدمة الحكومة الحجازية، لا كطيار، ولا كميانيكي، ولا
كمدرب.
وقد حاول الشريف علي بن الحسين المحاصر في جدة أن يجد دعماً من
الإيطاليين والألمان، رغم أن أقدام الحكم الهاشمي قد شارفت على
الزوال. وبالفعل أرسل الألمان دعمهم للشريف ضد ابن سعود حليف
الإنجليز؛ فقد وصل ستة من الألمان يوم 25 ديسمبر 1924م، للعمل في
الجيش الحجازي.. وطبقا لما قالوه هم أنفسهم، فإنهم ينتمون إلى أسلحة
مختلفة، ولكن من الممكن أنهم سيعملون في سلاح المدرعات، اي السيارات
المدرعة التي يتحدث عنها الكثيرون.. قيل أن منشأ هذه السيارات
ألمانيا، وقيل أحيانا أخرى أنه الدانمارك).
غير أن الدولة الهاشمية كانت الى زوال. ومما ساعد على زوالها
السريع أن الشريف حين تقدم بخطوات نحو إقامة علاقات متميزة مع الروس
والى حد ما الألمان والطليان، كان الوقت قد أزف، وحان وقت النهاية.
فالقوة البريطانية العظمى، حليفة الأشراف، تحولت خلال سنتين بعد
الحرب العالمية الأولى الى قوة معادية تستهدف تدمير الدولة الحجازية
نفسها. وجاءت العلاقات مع الروس كمبرر إضافي لمشروع إنهاء الدولة
الحجازية وقيام الدولة الإمبراطورية السعودية.
اليوم يمشي الأمراء السعوديون في ذات الطريق الذي مشى فيه
الأِشراف. لقد تحولت السعودية من حليف الى عدو للغرب منذ أحداث
الحادي عشر من سبتمبر، وأصبح الحامي الأميركي للعرش السعودي مهدداً
له، الى حدّ جعل الأمراء السعوديين يتسمرون في أماكنهم وكأنهم قد
أُصيبوا بالخبل! وهم يشهدون نهاية العلاقات التاريخية مع الغرب التي
أحرقوا أصابعهم العشرة من أجل ديمومتها.
عبثاً حاول السعوديون إرضاء الحليف، وعبثاً سعوا لإرضائه! وعبثاً
عملوا لإصلاح ما انهدم من مشاعر ومصالح.. لكن الحامي الأميركي يصرّ
على إزالة دولة السعوديين، والحكومة البريطانية العظمى التي ساهمت في
صنع العرش السعودي صارت ترسل التحذيرات في تناغم مشترك مع أميركا،
ترسلها الى السعوديين، وتقول لهم بأن أيامهم صارت معدودة في الحكم.
وحين فشل الأمراء السعوديون في ثني أميركا عن سياسة إزالة ملكهم،
أرادوا التلويح بعضلات مترهلة ومستوردة أيضاً! والإيحاء بأنهم
يستطيعون إقامة علاقات مع القوى الأخرى! وجاءت زيارة ولي العهد الى
موسكو لتوسع البدائل أمام النشاط السياسي السعودي، كما يبدو في
ظاهره، ولكن هذا التحول التكتيكي ليس فقط لا يغني عن آل سعود شيئاً،
بل أنه قد يشجّع حلفاءهم بالأمس الى سرعة التخلّص منهم.. مثلما فعلوا
مع الهاشميين في الحجاز.
وبذا فإن العلاقات مع روسيا أشبه ما تكون بقبلة الموت الموسكوبية!
هل نقول قريباً: ما أشبه الليلة بالبارحة! وما أشبه نهاية الأشراف
في الحجاز بنهاية آل سعود في الرياض؟! |