من بينها ثورة أهالي الحجاز ومنع الوهابيين المسلمين
من الحج
أسباب سقوط الدولة السعودية الأولى
لسنا هنا في موقع سرد تفاصيل استيلاء الحملة المصرية
على الحجاز ثم مدن نجد وعسير، وأخيراً سقوط الدرعية، بل
إننا سنحاول قدر الامكان بحث أسباب هذا السقوط السريع1.
فقد ابتدأت حملة محمد علي باشا العسكرية في الوقت الذي
كانت فيه الدولة السعودية في أوج عظمتها، حيث كانت تسيطر
على معظم الجزيرة العربية.
ولم تمهل هذه الحملة آل سعود أن يتمتعوا بالعظمة والقوة..
فقد شاء الله سبحانه وتعالى أن تتهدم أركان الدولة السعودية
في أوج قوتها وجبروتها وتسلطها لتحيل منها عبرة لذوي البصائر
والضمائر الحيّة.. فأنهى الدولة السعودية وهي في أوج قوتها
وشبابها وبسرعة فائقة، وعلى يد ظالم فاسق هو محمد علي
باشا.
وبغض النظر عن أهداف الحملة المصرية بالنسبة للعثمانيين
أو حاكم مصر.. فإنهم إلتقوا عند قاسم مشترك هو: تحطيم
الدولة السعودية وانتزاع الحرمين الشريفين من يد آل سعود،
ويؤيدهم في ذلك جمهور غفير من المسلمين، الذين آلمهم منعهم
من أداء فريضة الحج، وكذلك يؤيدهم أهالي الحجاز، وجمهور
كبير من المواطنين الذين ذاقوا مرارة السيف والحيف.
ومما لاشك فيه أن الرأي العام الاسلامي كان مهيئاً
لمثل هذه الحملة العسكرية، هذا إن لم نقل أنه كان سبباً
مباشراً في تجريدها، نظراً لضغوطه على حكامه وعلى زعماء
الدولة العثمانية.
صحيح أن الرأي العام تأثر بالدعايات التي يطلقها أعداء
الدولة السعودية والدعوة الوهابية على السواء.. ولكن الصحيح
أيضاً أن أخطاء السعوديين كانت كثيرة وكبيرة للحد الذي
لا يمكن التغاضي عنها أو نزع فتيل العداء من قلوب الناس
بسببها.
وفي هذا السبيل لم يتردد محمد علي في المبالغة فيما
يرتكبه الوهابيون من أعمال تدنيس للأماكن المقدّسة لاستثارة
غضب الأتقياء واستدرار جيوب الاغنياء، حتى أشاع أن سعوداً
كتب على الكعبة، لا اله الا الله، وأن سعوداً ظل الله
في أرضه2.
ولهذا فلا نعجب حين نسمع بأنه:(صحب الحملة بعض شيوخ
الأزهر، ومنهم من كلفه محمد علي بتفنيد آراء الوهابيين
كنوع من حرب الدعاية في وقتنا الحاضر، ومنهم من تطوّع
من تلقاء نفسه لما سمعه عن مناهضة الوهابية للطرق الصوفية)3.
(وفي نفس الوقت تعددت رسائل محمد علي الى الباب العالي
مستحثّاً إياه على مزيد من المساعدات المالية، ويلاحظ
تشبّع هذه الرسائل بالروح الدينية كوصف جنوده بالمسلمين،
وفي حين يسمي خصومه بالخوارج ويذكر أهمية استرجاع الأماكن
المقدّسة)4.
ومما يؤكد وقوف الرأي العام ضد الدولة السعودية، هو
أنه حينما (أبلغت الولايات العثمانية من أقصى الدولة الى
أقصاها باسترجاع الحرمين الشريفين، استعدت قوافل الحج
لكي تجد طريقها من جديد الى مكة والمدينة، في مظاهر أبّهة
مضاعفة.. إحتفاء بهذا النصر، وعلا شأن محمد علي معنوياً
في جميع أنحاء الدولة، كما منح ابنه طوسون باشوية جدّة،
وفي الآستانة أقيمت فيها الاحتفالات بمناسبة تسلّم السلطان
مفاتيح الحرمين.. ولم يعد لقبه خادم الحرمين الشريفين
مجرد لقب، مما أحرج مركز الخلافة لعدة سنوات لهذا كله
صار من المتوقع أن يشعر كبار رجال الدولة بالحقد والحسد
نحو محمد علي)5.
أسباب السقوط
تضاربت آراء الكتاب والمؤرخين حول سر سقوط الدولة السعودية،
فبعضهم قال إنها لم تكن تمتلك التكنولوجيا والأسلحة الحديثة،
والبعض الآخر يقول ومن بينهم حافظ وهبة :(أن السبب الأول
لسقوط الدولة السعودية ـ الأولى ـ أنها كانت مستندة الى
القوة العسكرية أكثر من استنادها على القلوب والدعوة الدينية
لم تتمكن بعد من قلوب الناس).
أما ابن بشر فيرجع الأمر الى قضاء الله وقدره بسبب
الذنوب، ولكن كشك يرفض قول ابن بشر ويخلص الى نتيجة هي
أن: (القيادة لم تنحرف.. فلماذا انهزمت؟).
كما يرفض كشك قول وهبة، وقول جون فيلبي اللذين يعتقدان
أن الدولة السعودية توسعت فوق طاقتها، ويقدّم كشك تحليلاً
لسبب السقوط يتلخص في الانغلاق داخل إطار الجزيرة العربية،
وعدم القيام بنشر الوهابية الى الدول المجاورة، لاعتقاده
أن نظرية (الثورة في بلد واحد) لا تصلح للتطبيق، وعليه
لا بد من تصدير الثورة إذا ما أريد لها أن تعيش.. وحسب
تعبيره:
(لابد أن تقذف بجنينها الى الخارج فتصدر العقيدة والرجال
الى البيئات التي تملك الموارد الطبيعية والقاعدة الحضارية
القادرة على الدفاع عنها والتطور بها والانتشار).
وهو في هذا ينتقد موقف سعود الكبير الذي منع الحج وانغلق
في اطار الجزيرة: (لقد مرّ ما يقرب من عشر سنوات والسلطة
السعودية تحكم الجزيرة، دون أن تنطلق الموجة خارج الحدود..
كان لابد أن تنطلق الى الأمصار..الى الشام أو بغداد أو
مصر، أو كلها معاً.. ولأنها لم تفعل، أصبحت كالجنين الذي
تأخرت ولادته فتضخم واختنق في الرحمن أو تفجر معه الرحم)6.
ولاشك أن ما قاله كشك صحيح بقدر ما.. لكن الاشكالية
هنا أن سعود حاول احتلال الشام مرات عديدة وفشل، وكذلك
بالنسبة للعراق. والواقع أن ما قاله كشك يدخل في إطار
التبرير النظري.. مع أنه صرف النظر عن آراء اخرى عديدة
في هذا الصدد.
ونعود فنقرّ هنا ما ذكرناه سابقاً من أن الدعوة الوهابية
إعتمدت في توسعها على جانب كبير من القوة والعنف والارهاب،
تجاه الناس الذين جاءت اليهم بدعوى إنقاذهم من الشرك..
فنفروا منها:
أضف الى ذلك النزعة العنيفة التي ترافق الانتصارات،
حيث يترك القادة السعوديون والتابعون لهم الحبل على الغارب،
فلا يسيطرون على قواتهم المنتصرة، وإنما يفسحوا لهم المجال
لتدمر كل شيء. وتستولي على كل شيء، وتعتدي على النساء،
وتقتل من تريد وكيف تريد.. والقادة يعتقدون أن ذلك أفضل
لنشر الرعب في المناطق غير المحتلة فيسهل احتلالها.. وهذا
الاسلوب استخدمه آل سعود كثيراً، خصوصاً في الدور السعودي
الثالث، أي في عهد الملك عبد العزيز..
ولعل ما ذكره ابن بشر يطابق الحقيقة تماماً، فقد ذكر
في صفات سعود أنه نصر بالرعب، لقد قال رسول الله (صلى
الله عليه وسلم) (نصرت بالرعب مسيرة سنة).. ولكن أي رعب؟
لقد كان الرعب من الله سبحانه وتعالى قذف به في قلوب
أعداء الرسول ودينه: (فقذف في قلوبهم الرعب..) الآية،
ولم يكن نتيجة تعديات وإرهاب وسفك دماء، كما فعل سعود.
من جانب آخر.. كان للنزعة المادية والسلطوية التي أفسح
لها السعوديون الطريق دور في تخفيض درجة التعلق بالدين
والسياسة.. فقد رأينا أن كثيراً من الأموال المنهوبة توزع
باسم (الغنائم) بعد المعارك، وكان سعود يجزل العطاء لجيشه،
مما أثر على موقفهم، أثناء المحنة والابتلاء، كما أن دخول
كثير من الأمراء والأشراف في طاعة آل سعود، ووضعهم شورطاً
مسبقة تقضي بأن يتولوا الإمارة أو ما أشبه، ثم قبول الحكام
السعوديين بذلك، تدلل على أن حب السلطة والجاه وما تبعها
من أعمال، إنما كانت المحرك لكثير من الأنفس، التي لم
تكن تؤمن بالعقيدة الوهابية، وكان ولاؤهم للدرعية بقدر
ما يحقق لهم من مصالح لا أكثر.. وهؤلاء الناس تراجعوا
أيضاً في الطريق وانضم بعض منهم الى محمد علي.
اضافة للقبائل والقرى والمدن التي خضعت بالقوة دون
أن يقتنعوا بصوابية الأفكار الوهابية.
وعلى هذا يمكننا القول وبكل جرأة، أن ما قاله حافظ
وهبة مستشار الملك عبد العزيز صحيح، مع العلم بانه لا
يدعى أن الاستناد الى القوة العسكرية دون القلوب هي كل
الاسباب وانما أهمها.
أما ما قاله الدكتور صلاح العقاد، حول أهم أسباب انهيار
الدولة السعودية، وهو إعطاء السلطة لزعماء محليين، خصوصاً
في المناطق البعيدة عن نجد، فلا يبدو صحيحاً تماماً، الا
اذا وضعنا في اعتبارنا أن هؤلاء الزعماء دخلوا في الطاعة
من أجل السلامة أو التسلط أو التوسع.. والخطأ لا يكمن
في تولية هؤلاء الزعماء، بقدر ما يكمن في توجيههم نحو
الدنيا والانشداد اليها، وهو الأمر الذي غالباً ما يفعله
سعود مما أفسد ضمائر الكثيرين.
يقول العقاد:
(ويعزو كثير من الكتّاب سرعة انهيار الدولة الى وفاة
سعود، وفي رأينا أن عوامل الضعف كانت موجودة من قبل، وقد
ألمحنا الى أخطرها، وهي التي تتمثل في ترك السلطة بيد
زعماء محليين في المواقع البعيدة عن نجد.. كما أن الدولة
السعودية الأولى أغلقت على نفسها الأبواب ومنعت الاتصال
بالعالم الخارجي، فلم تستفد ـ على عكس محمد علي ـ من ثمرات
التقدم الحضاري. وكان من سوء حظ عبد الله بن سعود تحمل
نتائج أخطاء أسلافه)7.
واذا كان هذا رأي العقاد، فإننا نعتقد بأن أهم سبب
في الهزيمة والنكسة يرجع الى إبتعاد المسؤولين عن الدين،
وهو ماذكره ابن بشر ـ ولكن بخجل ـ حيث أشار الى الذنوب..
ولكن كشك لايعر اهتماماً كبيراً للتعدي على الشرع وتخطي
أوامر الله، فيذكر كلام ابن بشر بما يشبه السخرية والاستهزاء..
وإذا كان ابن بشر لم يذكر مساوىء أي حاكم من آل سعود ـ
نظراً لموقفه المؤيد منهم وبلا حدود ـ فإنه يدرك كم من
التعديات على حرم الله وحدوده من قبل آل سعود.
الصراع على الملك
ويقدّم كشك سبباً آخر للهزيمة هو الخلاف على الملك
والسلطة في دولة آل سعود.. حيث يرى أن مزاحمة إخوان عبد
الله بن سعود وأعمامه له كان سبباً لإضعافه.. ثم يفسّر
تهافت عبد الله على الصلح مع طوسون بأنه من أجل ترتيب
البيت السعودي من الداخل، وهو مبرر لطيف وظريف لضعف الحكم،
فمع اعتقادنا بأن الخلافات ديدن الأمراء السعوديين، الا
أن ذلك لم يبرز كثيراً بعد وفاة سعود، للحد الذي يؤثر
في مجريات المعارك مع القوات الغازية.. وإنما أراد الكاتب
أن يفلسف الهزيمة، وطلب عبد الله الصلح، بأسلوب مهذّب
وبحجة ترتيب البيت السعودي من الداخل!!
يقول كشك:
كان في مقدمة الأسباب الذاتية ضعف القيادة في البيت
السعودي بعد (سعود) الكبير، فمن المعروف في تاريخ الملكيات
ـ بإستثناء حالات نادرة ـ أن طول عمر الجالس على العرش،
وامتداد سنوات حكمه، من أهم عوامل استقرار البيت المالك،
وتدعيم نفوذه، وازدهار الدولة، وتسهيل عملية انتقال السطة.
إذ يتمكن الملك من تصفية القوى المعارضة والتي قد تشكل8
مزاحمة لولي العهد9 وعندما تولى (سعود) الامارة، كانت
السلطة تنتقل طبيعياً وسلمياً للمرة الثانية فقط خلال
78 سنة!، مما أتاح لكل منهما تصفية مزاحم الأعمام، وكبح
جماح الاشقاء، والبيت المالك يقوى كلما ضبطت الطموحات10
بين أفراده.. وحددت المواقع.. وسد الطريق على المزاحمات
المدمّرة11 وذلك بتحديد واضح وصريح: من هو الملك القادم؟!
ويضيف:
(وبالاضافة الى طول عهد محمد وعبد العزيز، كانت انتصاراتهما
وانتشار الدعوة تفرض الهيبة للإمارة، وتضفي هذه الهيبة
على من يختاره الأمير لولاية العهد.
ولكن سعوداً لم يعمر في السلطة كرئيس دولة.. وإن كان
قد مارسها طويلاً تحت مظلة أبيه.. ولذا لم يستطع أن يمكن
لإبنه أو أن يصفي له مزاحميه، بل على العكس تمرد على سعود
نفسه بعض أولاده، مما كان السبب في هزيمة السعوديين بمسقط،
كذلك مات سعود والشك يلوح حول سلامة الوطن وسلامة الملك
وصوابية السياسة، فلما تتابعت الهزائم، كان من الطبيعي
(كذا!) أن يظهر الاطباء وأدعياء الطب، المنقذون والمغامرون،
وهكذا وجد عبد الله مزاحمة من أخيه وعمه، وضربت جرثومة
الشقاق العربية في الدوحة السعودية، وستظل تتفاقم حتى
يتحول البيت السعودي الى مجموعة لاجئين في نهاية القرن
التاسع عشر).
ويكمل كشك:
وقال مؤلف مثير الوجد في أنساب ملوك نجد: (أن عبد الله
بن سعود سار على سيرة والده، الاّ أن اخوته كانوا لا يوافقون
على إرادته، وكان لا يخالفهم ونازعه اخوه فيصل بن سعود،
فكان عبد الله يأمر وفيصل يأمر، فتفرقت شوكتهم ونفر منهم
فئات من العرب، واتسع الخرق في قوتهم)12.
لا أحد ينكر أن الاختلافات كانت موجودة، ولكننا نرفض
هذا التطويل في التحليل البارد الذي لا يستند على أية
حقيقة علمية، كما نرفض ما رتب عليه من قول أن بعض المصادر
الاجنبية تؤكد على أن عبد الله بن سعود كان يخشى أن يضرب
من الخلف أو من بيت أبيه، ولذلك بادر الى الصلح مع طوسون..
فمن الواضح أن الهزائم التي مني بها عبد الله أجبرته على
ذلك.. ثم يقول كشك أيضاً بأن سبب فشل الصلح هو عدم ترتيب
البيت الداخلي الذي رفض بعضهم الصلح.. مع أن كل الحقائق
تؤكد على أن محمد علي باشا رفض ذلك، وطلب تنازلات أكثر!!
لقد رأينا أن الانسان المسحوق، أو ذلك الأمير الخاضع
بالقوة، أو تلك المدينة أو القرية التي سبيت نساؤها وقتل
رجالها، أن أفضل وسيلة للتخلص مما هم فيه هو: موالاة القوات
المصرية الغازية ضد القوات السعودية التي أذاقتهم الويل،
فتلك فرصة للإنتقام!
ومن المؤكد جداً أن محمد علي باشا ما كان ليستطيع أن
يسقط دولة آل سعود لولا معاونة الكثيرين له من أهالي الحجاز،
ونجد وكثير من القبائل، حتى تلك التي يدعي آل سعود أنهم
ينتمون إليها في نسبهم.. وتعني بها قبيلة (عنزة) التي
وقفت مع محمد علي باشا..فقد كان لهؤلاء جميعاً الأثر الحاسم
في المعركة، ولولا هم لكانت كفة السعوديين راجحة بكل تأكيد..
لا لأن القوات السعودية تمتلك أسلحة حديثة، ولكن لأنها
تمتلك قوات منضبطة وفي غالبيتها متشبّعة بفنون قتال الصحراء
التي اعتادوها منذ زمن.
الارهاب أسقط الدولة
يقول الاستاذ عبد الرحيم عبد الرحمن في معرض حديثه
عن تقييم نظام الحكم والادارة في الدولة لاسعودية الاولى:
(وربما قيل أن هذه النظم نجحت في إقامة الأمن في جميع
أرجاء البلاد التي أصبحت تابعة لآل سعود، وأن الكل أصبح
يعيش في أمن وطمأنينة.. دون الخوف على ماله ومتاعه، والحقيقة
أن ذلك حدث بفعل عامل الشدة الذي كان متّبعاً، والخوف
من العقاب الجسماني والمادي، لا عن قابلية ورضا، ومما
يؤيد هذا الرأي أن معظم القبائل والبلدان والنواحي التي
كانت تابعة لآل سعود، ما كانت تجد القوة التي تخلصها من
هذه النظم ممثلة في قوات محمد علي حتى سارعت الى الانفضاض
عنها والانضمام الى جانب الجيوش المصرية).. ويضيف (ولربما
قيل أن خروج الكثير من القبائل عن جانب آل سعود كان بسبب
ما قدمه لها جواسيس محمد علي وقواده من الرشاوي والهدايا،
ولكننا نرى أن في هذا العمل نفسه ما يدلل على عدم الايمان
القوى بالنظم السعودية، لأنه لو وجد الايمان لما حدث ذلك،
لو حدث لكان على نطاق ضيق كما يحدث في كل الأمم والشعوب)13.
كما (أن أسلوب المصادرات الذي كان يوقع على الافراد والقبائل،
كان أحد الأسباب التي ملأت النفوس بالثورة الخافتة ضد
الدولة وسلطانها)14، حيث تفجرت على شكل ولاء ودعم مباشرين
للقوات المصرية الغازية.
وتعتقد الدكتورة مديحة درويش، أن من أسباب سقوط الدولة
السعودية: (النزعة القبلية التي جعلت الكثير من القبائل
التي كانت خاضعة لنفوذ آل سعود، تسعى دائماً للخروج عن
طاعتها، ليس هذا في إقليم الحجاز والأحساء فحسب، بل شملت
إقليم نجد كذلك..)15.
وقد كان ابن بشر صادقاً تماماً حين قال بعد موقعة الغبيراء:
(خرج اليه ـ ابراهيم باشا ـ أناس من البلد واخبروه بعورتهم
ومعاديهم، وكان أكثر ما شدّ ظهور الترك في نجد في البلدان..
وأسكن جأشهم وقوّاهم على أهلها، أناس تبعوه من أهل نحج،
ومن رؤساء البوادي)16.
بداية الحملة
واذا أردنا توضيح الانفصال بين آل سعود من جهة، وبين
القبائل والأمراء والمدن والناس من جهة أخرى، فإننا..
ومن خلال إشارتنا لتحرك القوات المصرية، سنجد أنه لا يكاد
يخلو انتصار لمحمد علي باشا وقواته، الا وكان للسكان المحليين
دور بارز في ذلك.
لقد كانت الحملة المصرية بقيادة طوسون باشا ابن محمد
علي.. تهدف في بادىء الأمر الى الاستيلاء على ينبع.. الميناء
البحري المعروف، وتتخذه نقطة انطلاق لاحتلال المناطق الأخرى.
ويؤكد المؤرخون أنه بتوطوء الشريف غالب، تيسر نزول
الحملة الى البر17 وذلك في عام 1226هـ، وعندما وصلت قوات
الحملة الى مرفأي ينبع والمويلح، استوصلت عليهما دون كبير
عناء، ويجب أن لا نغفل أن سوء الاحوال الاقتصادية التي
ألمّت بسكان الثغور الحجازية والقبائل القاطنة على طريق
الحج على أثر انقطاع المحامل.. كانت من أبرز العوامل التي
سهلت للقوات المصرية طريق تقدمها، فقد تمكنت قوات المشاة
لدى نزولها ميناء ينبع من إغراء بعض القبائل القاطنة وإهدائهم
الطرف والاموال والخلع واستغلال هذه القبائل في توصيل
الرسائل الى مشايخ القبائل الأخرى بقصد استمالتهم الى
جانب قوات الحملة، وانفضاضهم عن جانب آل سعود، وقد نجح
هذا الاسلوب كثيراً في استعماله مع القبائل.
تمكنت القوات المصرية بمساعدة القبائل التي انضمت إليها
من انزال هزيمة قاسية بأول فرقة سعودية تلتقي بها تحت
قيادة (جابر جبارة ومسعود ابن مضيان) اللذين أسرعا بالانضمام
الى جانب الجيش السعودي الرئيسي، المعد لملاقاة قوات الحملة،
وأخذ طوسون بعد ذلك يضع الخطط، ويقوم بعمليات التجهيز
اللازمة للزحف نحو المدينة المنورة، وكانت خطة طوسون أساساً
تقوم على استمالة أكبر عدد من القبائل العربية القاطنة
على الطريق الى المدينة، ووجد طوسون في (نصر الشديد) رئيس
قبائل الحويطات وعربه، أداة سهلة في القيام بهذه المهمة
بتقديم الهدايا والخلع لمشايخ العربان عن طريقهم، بالاضافة
الى قيامهم بعمليات الاستكشاف له في هذه المرحلة، وقد
ذكر محمد علي ان القبائل التي استطاع ابنه طوسون أن يستميلها
عن طريق عملية (نصر الشديد) وعربانه هي: الحويطات، العبابدة،
بلي، الطربيني، الخمايسة، الصوالحة، العليقات، مزينة،
تبه، الكواملة، لحون، عمران، علوين، عميرات، الدقيقات،
بني عقبة، بني واحل، جهينة). وكلها من القبائل القاطنة
بالقرب من المدينة أو على الطريق اليها، وعن طريق مساعدة
هذه القبائل.. لم تلق قوات طوسون صعوبة كبيرة في طريق
زحفها نحو المدينة في بادىء الأمر، وتمكنت بسهولة من الاستيلاء
على قريتي (السويقة، وبدر) بعد اشتباك بسيط مع الفرق السعودية
التي كانت في كل منهما)18.
ومع أن الشريف غالب كان يتطلع الى ازالة الدولة السعودية،
رغم أنه لم يكن يظهر العداء السافر للسعوديين، كما لم
يحدد موقفه من الحملة، وقد اتخذت بعض قبائل الحجاز نفس
الموقف حيث أن المعارك لم تحسم بعد: (وكان لموقف قبيلتي
جهينة وحرب أثر حاسم على المعركة، وقد فاتح طوسون زعماء
القبيلتين بعد نزوله في ينبع، ولكنهم رجّحوا كفة السعوديين
عندما ظهر عبد الله بن سعود بجيشه قريباً من مضاربهم،
ورتب ابن سعود مع هؤلاء الزعماء خطة لمفاجأة جيش طوسون
بالهجوم في مكان يصعب فيه الدفاع عن النفس19 فكانت موقعة
(وادي الصفراء) التي هزم فيها طوسون بضربة قاصمة لقواته،
ولو كان عبد الله على جانب من الحكمة لاستطاع إنهاء القوات
الغازية بسهولة، وذلك بمواصلة الهجوم على هذه القوات.
ولكن.. حسب ما يذكر صاحب اللمع، أن قبائل حرب هذه صالحت
طوسون في أواخر سنة 1228 وتعهّدت أن تقاتل معه:
(وكان في آخر سنة الثامنة والعشرين من هذا القرن مصالحة
بعض الطوائف من حرب مع تسم (طوسون) باشا، حيث جاء كبارهم
اليه بالهدايا من الخيل النجاب والإبل، فأعطاهم مالاً
كثيراً، وكساهم بأفخر كسوة. وقد تعهّدوا له أن يسيّروا
كل غزو من غزواته الى أي موضع يشاء من أطراف الحجاز التي
تحت طاعة سعود)20.
احتلال المدينة
لأن عبد الله بن سعود لم يستغل هزيمة القوات المصرية
فيدمّرها كلياً، فإن طوسون باشا.. وبناء على أمر والده،
حاول الاحتفاظ قدر الامكان بينبع، ريثما تصله الامدادات
من والده، كما استفاد من الخطأ السعودي (وبدأ يبذل جهوده
في استمالة القبائل البدوية بتقديم المال والهدايا اليها،
الى أن وصلته الامدادات من مصر عام 1227هـ، بعدها عاود
الاستعداد لاحتلال المدينة فاحتل وادى الصفراء، وتقدم
بمساعد قبائل حرب وجهينة نحو المدينة المنورة).
ويذكر صاحب اللمع أنه قبل شهرين من وصول طوسون ومحاصرته
للمدينة، كان سعود قد جاء على عجل اليها، ورتب فيها قوة
تقدر بثمانية آلاف رجل، بقيادة ابراهيم بن عفيصان وكان
سعود قد سبق المدينة بأن سافر الى مكة ( وأهدى الشريف
مالاً كثيراً، وتوجه معه في مكة، وجددوا العهود، وكان
غرض سعود بهذه الهدايا والعهد الجديد مع الشريف غالب،
توطئة نفس الشريف على متابعته، وأن لا يغتر بموافقة الروم،
فالشريف قبل منه ذلك وكان محتالاً من الجانبين، يريد انفراد
نفسه عن الروم وعن متابعة سعود)21.
وبعد حصار للمدينة المنورة دام شهرين، استطاع طوسون
احتلالها. وقد هرب قائد القوات السعودية ابراهيم بن عفيصان،
وقتل حسب ما نقل صاحب اللمع (ألفا رجل) ثم.. (أرسل طوسون
لوالده بشائر النصر، مصحوبة بثلاثة آلاف من آذان القتلى،
ومفاتيح الحرم النبوي الشريف).. وبرغم هذه الفظائع (كان
لفتح المدينة المنورة رئة فرح في كل ارجاء الدولة العثمانية)22.
ويعتقد ابن بشر أنه لولا تواطؤ أهالي المدينة ما سقط
بيد الغزاة:
(ثم إن العساكر المصرية كادوهم بكل كيد، وسدّوا عنهم
المياه الداخلة في وسط المدينة، وحفروا سرداباَ تحت سور
قلعة المدينة، وملؤوه بالبارود وأشعلوا فيها النار، فانهدم
السور فقاتلهم من كان فيها من المرابطة قتالاً شديداً..
ثم أهل المدينة فتحوا للترك باب البلد، فلم يدر المرابطة
الا والرمي عليهم من الترك داخل البلد.
وذلك لتسع مضين من ذي القعدة فانحاز المرابطة وجنود
المسلمين الى القلعة فاحتصروا فيها.. فكثر فيها المرضى
والجرحى، فطلبوا المصالحة بعد أيام فنزلوا منها بالآمان،
وهناك في هذه الواقعة من المسلمين بين القتل والوباء والهلاك
في البر بعد ما خرجوا من المدينة وقبل أن ينزل عليهم الترك..
نحو أربعة آلاف رجل23.
وقبل أن تتهيأ الحملة لاحتلال مكة المكرمة، انحاز الشريف
غالب للقوات المنتصرة وسلمهم ميناء جدة للاستفادة منه،
وتمكنت القوات المصرية من الوصول الى البلد الحرام، وبمساعدة
الشريف غالب والبدو المؤيدين لها، ودخلت مكة دون حدوث
أدنى قتال مع قوات عبد الله بن سعود التي انسحبت الى قرية
العبيلا24.
ويقول ابن بشر موضحاً كيفية الاستيلاء على مكة والطائف:
احتلال مكة والطائف
]ثم دخلت السنة الثامنة والعشرين بعد المائتين والألف
وفيها.. في آخر المحرم، خرج عثمان بن عبد الرحمن المضايفي
من الطائف ونزل (رنية) البلد المعروفة ثم ان طوسون والعساكر
المصريين ساروا الى مكة ودخلوها غير قتال، وذلك بعدما
قتل عبد الله.. فنزل طوسون قصر القرارة المعروف في مكة..
وكان الشريف هو الذي دعاهم لدخولها ومآلاهم عليه.. فلما
استقر الترك في مكة، سار مصطفى قائد كتائب الفرسان المصرية،
ومعه راجح الشريف، وابن غالب الشريف الى الطائف، ودخلوه
وضبطوه، وكاتبهم جميع رعايا عثمان من نواحي الطائف وأطرافه،
وتبعهم زهران وغامد وغيرهم، وثبت أهل رنية وبيشة وجميع
الحجاز اليماني25.
الجدير بالذكر هنا، أن أغلب أهالي الحجاز اليماني كانوا
شوكة بعين القوات المصرية الغازية التي حاولت مراراً السيطر
عليهم ففشلت، وبقوا على حرب الحملة المصرية رغم محاولات
ابو مسمار الموالي لها الى أن شارفت الدرعية على السقوط
فسقط إقليم عسير بمؤيديه في قبضة محمد علي الباشا.
وحول تأثير احتلال مكة على العالم الاسلامي فإنه قابلها
بابتهاج: (ولم تكن فرحة الاستيلاء على مكة في مصر والآستانة
بأقل من فرحة الاستيلاء على المدينة، ويذكر الجبرتي أن
القاهرة زينت على أثر وصول نبأ فتح مكة اليها خمسة أيام
متواليات، بخلاف ما ساد نجد من حزن نتيجة لهذه الهزائم26،
على حد ما يذكره المؤرخ عثمان بن بشر.
وفي الوقت الذي حاولت فيه القوات المصرية تجنّب الاصطدام
مع البدو وحاولت إغراءهم بالمال والخلع والهدايا، شن سعود
حملات ضارية على القبائل والبوادي من حرب وجهينة فسبى
نساءهم، وهدم بيوتهم وقطع نخيلهم، وفعل الأفاعيل بهم،
فما زاد ذلك هذه القبائل الا تمسكاً بالحملة المصرية،
او ما يسميها ابن بشر (بالتركية).
]وفيها ـ 1228 ـ في آخر ربيع، سار سعود بالجيش المنصور
من جميع النواحي وآفاق نجد الحاضرة والبادية وقصد الحثاكية
الماء المعروف قرب المدينة النبوية، وكان في قصرها عسكر
من الترك مع عثمان كاشف، وعلى الماء أعراب من حرب وغيرهم،
فلما أقبل عليهم هرب البوادي بإبلهم وبونها الحرة، فدهمهم
المسلمون (يقصد القوات السعودية) في منازلهم، وأخذوا ما
وجدوا فيها من الأثاث ـ يقصد النساء ـ والامتاع.27. (وقام
سعود بحملات تأديبية ضد البدو القاطنين في المنطقة عقاباً
لهم على تأييدهم للقوات المصرية)28.
وبعد السيطرة على مكة، أراد محمد علي أن يبرز سمعته
في العالم الاسلامي فجاء اليها في ذي القعدة 1228هـ ومعه
الحاج المصري، وكان في معيته عدد كبير من الجنود، وقد
استقبله الشريف غالب، لكنه اعتقله في بداية عام 1229هـ
واستولى على كل أمواله: وفي هذه الاثناء.. اتصل محمد علي
بزعماء القبائل التي تسيطر على الطريق بين الطائف ومكة
من قبائل هذيل وسعد وثقيف، وحصل على تعاون قبيلة عتيبة
شرقي الطائف، وبذلك أمّن الطريق الى تربة، التي حاصرها
طوسون نحو أربعة أيام، ورماها بالمدافع والقنابل فلم يؤثر
فيها وقتل كثير من جنده29.
وفي عام 1229 توفي الامير سعود، وقد أثر موته على ضعف
القوات السعودية، كما أن عقدة القبائل والمدنيين منه والتي
خلقها الرعب تلاشت بموته، وبقي إبنه الذي مهما بلغت هيبته
فإنها لم تصل الى الحد الذي وصلت اليه هيبة أبيه، من خلال
حروبه الدائمة والمتواصلة خلال ما يزيد عن عشرين عاماً،
وعليه.. لم تبال القبائل بعبدالله، رغم إظهاره القوة والعنف
بين فترة واخرى، وانضمت بسرعة الى قادة الحملة المصرية.
وفي هذا الموقع نشير الى ان ثروة سعود التي خلفها كانت
هائلة جداً، كان منها ما أوضحه ابن بشر في قوله نقلاً
عن رجل يعلم القرآن في القصر: (وملك من الخيل العتاق ألفاً
وأربعمائة فرس، يغزو معه منها ستمائة فرس، يركبها رجال
انتقاهم من شجعان البوادي وشجعان مماليكه وغيرهم، قال:
ومماليكه الذكور أكثر من خمسمائة مملوك، وقال غيره: ستمائة..
الذكور، وقال آخر إن مماليكه ألف ومائتان الذكور، وخمسمائة
الاناث)30.
عاد محمد علي باشا الى مصر عام 1230 هـ مضطراً خوفاً
على ضياع ملكه، في الوقت الذي أحرز فيه ابنه طوسون إنتصارات
مكّنته من دخول بلدي (الرس والخبرا) في القصيم بدون قتال،
حيث تفاهم معه السكان على التسليم قبل وصول الامير عبد
الله إليهم، حيث وصل الى بلدة الرويضة بالقرب من الرس،
وتمكن طوسون بمساعدة قوة من عشائر حرب ومطير.. من الاستيلاء
على كثير من قرى القصيم، مثل الشبيبة والخبرا وغيرهما،
وأصبح الطريق الى الدرعية مفتوحاً أمامه.
الصلح: الانهزام
وفي أثناء تواجده على حدود نجد عرض عبد الله بن سعود،
وكان لا يزال واقعاً تحت الهزيمة، الصلح وينفرد ابن بشر
بالقول:
(إن طوسون هو الذي أخذ زمام المبادرة نحو عرض ايقاف
القتال، ولكن الشروط الواردة لدى المؤرخين الاجانب لعصر
محمد علي تؤكد ضعف موقف السعوديين، ولذا نكاد نجزم بأن
العرض جاء من عبد الله بن سعود).
وحسب هذه الشروط يستمر عبد الله بن سعود في حكم نجد،
على أن يسلم بتبعيته الروحية للسلطان ويؤدي له الجزية،
ويكون من الناحية الادارية تابعاً لحاكم المدينة ويتعهد
فوق ذلك بأن يترك حرية المرور للأتراك في بلاده ويتخلى
عن أي ادعاء في الحجاز، وانما يتمتع أتباعه فقط بحرية
الوصول الى الاماكن المقدّسة لأداء فريضة الحج، واخيراً
يتعهد عبد الله بن سعود بالقدوم الىالآستانة ليقدم ولاءه
بنفسه للسلطان)31.
ورغم ان الشروط كانت مهينة، ويذكر عبد الرحيم عبد الرحمن
نقلاً عن عبد الرحمن الرافعي شروطاً أكثر إهانة فإن عبد
الله وافق، وقد سافر طوسون الى مصر ليقدّم هذا العرض للصلح،
فرفض محمد علي، لأنه كان متفقاً مع الدولة العثمانية على
تدمير الدولة السعودية من الأساس.. بينما يذكر ابن بشر
أنه خلال انسحاب قوات طوسون من الرس في أول شعبان 1230هـ
بعث معهم القاضي عبد العزيز بن حمد بن ابراهيم.. وعبد
الله بن محمد بن بنيان، وقدموا الى مصر وعرضوا وثيقة الصلح
على محمد علي ورجعوا منه وانتظم الصلح32.
على حد قول ابن بشر والواقع ان انسحاب طوسون كان لسبب
عسكري، كما أنه ليس صحيحاً ان الباشا وافق على ذلك.
وحين تراجع طوسون عن مدن القصيم، استغل عبد الله بن
سعود الفرصة وراح يمارس ارهابه الشديد للمدن التي خضعت
للحملة وأذاقهم العذاب ضعفين مما جعلهم فيما بعد يرتمون،
أكثر في أحضان ابراهيم باشا.
يقول الاستاذ صلاح العقاد:
(على كل.. لم ينتقل طوسون نتيجة هذا العرض ـ الصلح
ـ إذ أنه لم يطق البقاء في المواقع المتقدمة وعاد الى
مصر في نوفمبر 1815م، وانتهز عبد الله هذه الفرصة لكي
يؤدب قبائل القصيم التي تعاونت مع طوسون مستخدماً وسائل
عنيفة مما سيؤلّبها عليه عندما يظهر ابراهيم باشا في نجد33.
ويقول ابن بشر موضحاً أفعال عبد الله في المؤيدين للحملة
المصرية (خوفاً أو طمعاً أو بغضاً لآل سعود): (وفيها ـ
1231 هـ ـ سار عبد الله بن سعود بجميع رعيته من المسلمين
من الاحساء وعمان ووادي الدواسر والجبل والجوف.. وما بين
ذلك من البادية والحاضرة، وقصد ناحية القصيم، ونزل على
بلد الخبرا وهدم سورها وسور البكيرية عقوبة لهم عن ما
قدم منهم من استدعائهم الترك وإدخالهم، وخوفاً أن يحدثوا
مثلها فيما بعد.. فأقام عبد الله على الخبرا أياماً وقتل
شاعراً في الخبرا إسمه عميان، قتله عبد الله بن حجيلان،
ثم رحل منها وسار في وادي الرمّة مسنداً الى جهة الحجاز،
وقد ذكر له عربان من حرب ومطير في أمواه الحجاز فأنذروا
عنه وانهزموا!).. الى أن يقول: (ثم قفل راجعاً الى وطنه
وأمسك ثلاثة رجال من رؤساء أهل الرس وسار بهم الى الدرعية،
رئيس الرس شارخ واثنان معه)34.
وما إن عاد الوفد الذي بعثه عبد الله بن سعود لمحمد
علي باشا يستعطفه من أجل الصلح فاشلاً، (حتى حضر الى القاهرة
زعماء بعض القبائل النجدية التي تعرّضت لانتقام عبد الله
بن سعود، وأخذوا يحرضون الباشا على استئناف القتال حتى
يخلصهم من حكم الدرعية، وقد اعترف بذلك المؤرخ النجدي
عثمان بن بشر، وقال ان (إسراف عبد الله في أعمال الانتقام
في القصيم وغيرها قد أضعف مركزه عند مجابهة المصريين)35.
الجدير بالذكر أن ابن بشر يذكر ان عبد الله بن سعود
أرسل وفداً آخر يطلب الصلح: (وفيها ـ 1231 ـ ارسل عبد
الله بن سعود حسن بن مزروع وعبد الله بن عون لمحمد علي
في مصر، بهدايا ومراسلات بتقرير الصلح، فلما قدموا عليه
في مصر وجدوه قد تغير)36.
لقد كان عبد الله بن سعود ذليلاً في تعامله مع محمد
علي باشا، وكانت رسائله كثيرة تبين نظرة عبد الله الدونية
لنفسه، حيث قبل بأغلب الشروط التي وضعها المصريون، رغم
فجاجتها، وتجريحها لكرامة الانسان.. ولهذا ـ حسب ما يذكر
جلال كشك37 رفض فيصل بن سعود لأخ الأمير عبد الله والذي
قتل في حرب الدرعية أثناء الحصار، رفض القبول بالصلح،
وأنشد شعراً موجهاً لأخيه عبد الله المنهزم يقول فيه:
لا أصلح الله منا من يصالحكم
حتى يصالح ذئب المعز راعيها
ويزعم كشك بأن الصلح (لاقى استحساناً في معسكر عبد
الله)، ثم بعد أسطر يناقض نفسه فيقول: (لم يتم الصلح بسبب
القيادة السعودية من ناحية، ولأن المناخ النفسي لم يتهيأ
لقبوله في المعسكر السعودي، فمجموع الموحدين الذين عاشوا
سنوات النصر المتواصل قبل وصول عسكر محمد علي، لم يصدقوا
أن التاريخ قد تحوّل بهذه السرعة، وأن هؤلاء الكفار المشركين
يمكنهم أن يقضوا على حلم إعادة التاريخ الاسلامي كما بدأ38.
إسناد القيادة لابراهيم باشا
وفي العموم.. لم يتم الصلح مع قوات محمد علي، وكان
هناك اصرار من قبل الدولة العثمانية ومن محمد علي باشا
على إنهاء الحكم السعودي مهما كانت التكاليف، فبعث محمد
علي بعد وفاة ابنه طوسون بقوات إضافية مع إبنه ابراهيم
(وبعضهم يقول أنه ابن زوجته)، لاكمال مهمة سلفه.. ويقول
الاستاذ العقاد مفسّراً إصرار حاكم مصر على السيطرة على
نجد، بأن المبادىء الوهابية أخذت بالانتشار في القاهرة:
(ويذكر أنه من بين الاسباب التي زادت من حماس الوالي للقضاء
على الدولة السعودية، خوفه من انتشار المبادىء الوهابية
في القاهرة)39.
إتجهت حملة ابراهيم باشا بعد أن أكملت استعداداتها
نحو ينبع فوصلت اليها في 4 ذو القعدة 1233هـ/26 سبتمبر
1816م، ثم توجه ابراهيم نحو المدينة المنورة، وقبل أن
يبدأ عملياته العسكرية ضد المدن الموالية للدرعية من أجل
احتلالها.. رتب وضعية جنوده واستمال رجال العشائر المحلية،
فزادت أعداد قواته كثيراً واصبحت ذات كفاءة عالية.
(وإلى حين وصول حملة ابراهيم باشا الى بلاد الحجاز،
كان عبد الله بن سعود لا يزال يكاتب محمد علي والسلطان
مبدياً رغبته في اعلان طاعته للدولة العثمانية وإنهاء
حال الحرب.. الا أن الباب العالي أرسل الى محمد علي يحذره
بانه لا يجب الرد على الرسائل التي يرسلها عبد الله بن
سعود، وعدم الاهتمام بمثل هذه الرسائل)40.
كما (أن الحملة التي قادها ابراهيم باشا، لم تكن مقصورة
على الجنود الألبان أو الأرناؤوط بل ضم اليها عدداً غير
قليل من المصريين، وتذكر بعض المصادر أن البدو.. سواء
من شرق مصر أو من الحجاز ونجد، صاروا يشكلون أغلبية من
بين أفراد هذه الحملة، واستخدم إبراهيم باشا المال على
نطاق واسع لإغراء بعض القبائل النجدية، حتى أنه استهوى
فروعاً من قبيلة عنزة ذات القرابة بالأسرة السعودية)41.
ومما ساعد ابراهيم على استمالة القبائل، أنه استعمل
الشدة مع الجند، وعاقب كل من يعتدي على العربان او يسلب
منهم شيئاً، ولذا كان يدفع ثمن كل ما يأخذه جنوده من العربان
وكان لهذا العمل تأثير كبير على نفوس البدو الذين أعلن
معظمهم الولاء له42.
وفي الوقت نفسه (اختلفت معاملة ابراهيم باشا لأهالي
هذه البلدان، عن الأساليب الشائعة بين الجيوش العثمانية،
التي كانت تتكل بأهالي وحاميات البلدان التي تضطر الى
الاستسلام)43. ولكن ذلك لم يمنعه من استخدام العنف والقسوة
في مواقع عديدة خصوصاً حين شارفت حملته على تحقيق أهدافها،
وبعد أن نجحت فعلاً قبل ذلك.
وقبل أن يتوجه ابراهيم من الحناكية نحو الرس، أول بلدة
أمامه، ومفتاح الطريق نحو الدرعية، دارت معركة بين قوات
عبد الله سعود وبين قواته فانتصر ابراهيم بسبب رجحان كفته
على كفة السعوديين، حيث انضم فيصل الدويش44 بعربانه الى
الجانب المصري.. فتراجع عبد الله نحو الرس ثم الى عنيزة،
وكان ذلك في رجب 1232هـ وتقدمت قوات الحملة وحاصرت الرس
في 25 شعبان 1232 هـ، واستمر الحصار الى أواخر ذي الحجة،
ولم تستسلم رغم الضغوطات العسكرية الهائلة، وأرسل أهل
الرس الى عبد الله بن سعود الذي كان معسكراً في عنيزة
بعد أن تراجع من الرس ورفض المصادمة مع ابراهيم باشا،
وطلبوا منه إما أن يرحل الىالترك ويناجزهم.. وإما يأذن
لهم بالمصالحة45 فلم يجبهم ولم يحرك ساكناً، لأن الخوف
والهلع والجبن قد تملكه، وبسبب هذا الموقف اضطر الأهالي
الى الصلح، وكانت شروطهم التي فرضوها أفضل شروط توحي بالقوة
والعزة، فقد كانت الشروط كالتالي:
أولاً: رفع الحصار عن الرس.
ثانياً: يضع أهالي الرس السلاح ويقيمون على الحياد.
ثالثاً: لا يجوز لجنود ابراهيم باشا وضباطه دخول الرس.
رابعاً: عدم إجبار أهل الرس على تقديم شيء من المؤونة
والميرة للجيش ولا يدفعون غرامة او ضريبة.
خامساً: في حالة استيلاء الجيش المصري على عنيزة بدون
قتال تسلّم الرس له، واذا لم ينجح في ذلك يعتبر القتال
متجدداً بين الطرفين46.
بعد هذا تقدّم ابراهيم نحو بلدة الخبرا في طريقه الى
عنيزة التي يعسكر فيها عبد الله بن سعود، فاحتلها بسهولة،
وهنا.. ولضعف الأمير السعودي وعدم تقدّمه لمقارعة ابراهيم..
افتلّت قواته عنه، وكما يقول ابن بشر:
( فلما نزلوها ـ أي لما نزل ابراهيم الخبرا ـ وقع الرعب
في قلوب المسلمين وتفرقت البوادي، فعيد عبد الله في عنيزة
عيد النحر، وأدخل في قصر الصفا المعروف في عنيزة مرابطة
من بلدان نجد، واستعمل عليها اميراً محمد بن حسن بن مشاري
بن سعود.. فلما رتب عبد الله البلد رحل منها وقصد بلد
بريدة ونزلها..)47، أليس هذا فراراً من المعركة؟!.. ففي
الوقت الذي تتقدم فيه قوات الحملة نحو عنيزة، يهرب عبد
الله منها الى بريدة ويتجنب الاصطدام.. فكانت أن سقطت
البلاد الواحدة تلو الاخرى..
فما هي الا ستة أيام لا غير دامت من الحصار، حتى استسلمت
الحامية السعودية بقيادة محمد بن حسن بن مشاري بن سعود،
بشرط عدم أسرها(!!).. والسماح لها بالفرار أنّى شاءت،
ويشترط أن تسلم الحامية ما لديها من الأسلحة والذخائر
والمؤن لقوات ابراهيم48. وبعد سقوط عنيزة، أرسل ابراهيم
لبلدة الرس من يستلمها طبقا لشروط الصلح، فقد كانوا يتوقعون
عدم سقوطها لأنه الأمير فيها، فإذا به يهرب ويسلّم البلد
لقمة سائغة للغزاة ويذكر ابن بشر إن أهالي عنيزة سلّموا
أمرهم للقوات الغازية منذ بداية الأمر، ويفسر ذلك بسبب
انسحاب عبد الله بن سعود، وتأثير ذلك عليهم.
والطريف أن عبد الله حين سمع بسقوط عنيزة، رحل من بريدة
وقصد الدرعية، وأذن لقواته بأن ترجع الى أوطانها، وهذا
العمل يعتبر قمة الانهزامية والتراجع والفرار، ولهذا استغل
ابراهيم الموقف كالعادة، ورتب حاله في عنيزة ثم تقدّم
نحو بريدة واحتلها بسهولة، رغم أن أميرها حجيلان من أكبر
معاوني عبد الله بن سعود، وتلمّس سهولة احتلالها من قول
ابن بشر: (فلما أخذ القصر ـ قصر الصفا في عنيزة ـ وضبطه
بالعساكر.. ارتحل منها وقصد بلد بريدة، وأميرها يومئذ
مع ناحية القصيم حجيلان بن حمد، ونازل أهلها فأعطوا له..)49.
وكان احتلال بريدة في الاشهر الاولى من عام 1232هـ.
ويضيف ابن بشر: (ثم أنه نزل بلد المذنب فأطاعوا له،
ثم رحل من المذنب وقصد الوشم ونزل بلد أشيقر والفرعة،
فاستأمنوه ودخلوا في طاعته).
هوامش
1 ـ يسمي بعض المؤرخين الحملة بـ (التركية) والقوات
بـ (الروم) لأن أغلبهم لم يكونوا من المصريين العرب وإنما
كانوا من عناصر اخرى
2 ـ مجلة دراسات الخليج والجزيرة العربية عدد 6/1976 مقال
لصلاح العقاد بعنوان (الحملة المصرية في شبه الجزيرة العربية)
ص 109.
3 ـ المصدر السابق ص 110
4 ـ المصدر السابق ص 11
5 ـ المصدر السابق ص 113
6 ـ كشك السعوديون والحل الاسلامي، مصدر سابق ص ص 190
، 192
7 ـ مجلة دراسات الخليج العربية عدد 6 عام 1976 ص 114
8 ـ ليس صحيحاً تماماً، ذلك أن الملك عبد العزيز حكم ما
يزيد عن 53 سنة، فلم يحل ذلك دون التصارع بين إبنيه سعود
وفيصل على الحكم فلم تسهل بذلك عملية انتقال السلطة، رغم
أن أباهما جمعهما قبل موته وأوصاهما بعدم الاختلاف!!
9 ـ لم يستطع سعود إبن الملك عبد العزيز ولي العهد والده
تصفية أخيه فيصل المزاحم، بل العكس
10 ـ الطموحات: لفظة مهذبة بدل أن يقول نزعة التسلط وشهوة
الكرسي والحكم
11 ـ في التاريخ السعودي الحديث رغم توضيح من هو الملك
القادم، فإن الاختلافات والتناحرات جارية على قدم وساق
وذلك يرجع الى طبيعة الحكم المخالف للدين، وهي الملكية
البغيضة المخالفة للشورى
12 ـ كشك، مصدر سابق ص ص 190، 192
13 ـ عبد الرحيم عبد الرحمن، الدولة السعودية الاولى،
مصدر سابق ص 243
14 ـ المصدر السابق
15 ـ مديحة درويش، مصدر سابق ص 55
16 ـ ابن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد، ص 199
17 ـ مجلة دراسات الخليج والجزيرة العربية عدد 6/1976
ص 110
18 ـ عبد الرحيم عبد الرحمن، مصدر سابق ص ص 291، 293
19 ـ مجلة دراسات الخليج عدد 6/1976 ص 111
20 ـ لمع الشهاب، مصدر سابق ص ص 115، 116
21 - لمع الشهاب ، ص 115ـ 116
22 - عبد الرحيم عبد الرحمن، الدولة السعودية الاولى،
ص 296
23 - ابن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد، ص 160
24 - عبد الرحيم بن عبد الرحمن، الدولة السعودية الاولى،
ص 297
25 - ابن بشر المصدر السابق ص 165، وانظر مجلة دراسات
الخليج عدد 1 عام 1976 ص 112
26 -عبد الرحيم عبد الرحمن، مصدر سابق ص 297ـ 298
27 - ابن بشر، المصدر السابق ص 162/163
28 - عبد الرحيم عبد الرحمن، مصدر سابق ص 299
29 - ابن بشر، مصدر سابق ص 166
30 - المصدر السابق، ص 173، صلاح المختار،مصدر سابق ص
138
31 - مجلة دراسات الخليج عدد 6/1976 ص 116
32 - ابن بشر ص 185
33 - مجلة دراسات الخليج، مصدر سابق ص 116
34 - ابن بشر ص 186/187، وأنظر عبد الرحيمعبد الرحمن،
المصدر السابق ص 137
35 - النسخ التي بين يدي من كتاب عنوان المجد لابن بشر
تختلف عن النسخ السابقة التي يعتمد عليها كثير من المؤلفين،
وهي في هذا الموقع لا تحتوي ما ذكره من اسراف في اعمال
القتل وتأثير ذلك ولا شك ان هذه الطبعة لكتاب ابن بشر
قد مرت على مقص الرقابة السعودية فاقتطعت الكثير من الاخبار
والمواضيع العامة والاحداث لذا اقتضى التنويه.
36 - العقاد، مجلة دراسات الخليج عدد 6 عام 1976 ص 117
37 - ابن بشر، المصدر السابق ص 187
38 - كشك المصدر السابق ص 194
39 - المصدر السابق
40 - مجلة دراسات الخليج عدد 6 ص 117
41 ـ عبد الرحيم عبد الرحمن، مصدر سابق ص 319
42 - مجلة دراسات الخليج عدد 6 عام 1976 وانظر ايضاً ابن
بشر ص 187
43 - عبد الرحيم عبد الرحمن، مصدر سابق، ص 319
44 - مجلة دراسات الخليج عدد 6 عام 1976
45 - هو ليس فيصل الدويش قائد جيش الاخوان الذي ظهر في
القرن العشرين وحارب مع الملك عبد العزيز الى أن فتح له
معظم بلدان الجزيرة العربية ثم قتله في معركة السبلة المعروفة.
46 ـ ابن بشر، مصدر سابق ص 189
47 - عبد الرحيم عبد الرحمن، مصدر سابق ص 322
48 - ابن بشر مصدر سابق ص 190
49 - عبد الرحيم عبد الرحمن مصدر سابق ص 223
|