التكفير أساس الغزو
الحروب الوهابية على الحجاز
خالد شبكشي
كان جون فيلبي مستشاراً بريطانياً خاصاً لإبن سعود،
الذي طالما أطلعه على أسراره الخاصة، وأدخله قصره، وتبادل
معه أحاديث بالغة الحساسية. وقد دوّن فيلبي بعضاً منها
في مذكّراته، ومنها ما دار بينهما حول موقفه الديني من
النصارى وسكّان الحجاز. فقد سأل فيلبي عبد العزيز عن موقفه
من النصارى. فردّ عليه (إذا قدّمت أنت الإنجليزي إبنتك
لي كزوجة، سأتزوجها..ولكني لا أتزوج إبنة الشريف، ولا
بنات أهل مكّة ولا غيرهم من المسلمين الذين نعتبرهم مشركين)1.
وشأن مواقف عديدة تبناها عبد العزيز مستمدة من تراث
آبائه وأجداده، فإن موقفه من سكّان الحجاز ليس سوى إستدعاءً
لما درج عليه الأوائل من أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب،
في سياق التحضير لغزو الحجاز، وارتكاب أبشع الجرائم بحق
الأهالي الأبرياء، وتكرارها بعد نحو قرن ونصف على يد جيش
الإخوان بقيادة إبن سعود، والتي قد يقيّض الله سبحانه
وتعالى لذوي الضحايا من يدوّن مظلوميتهم، ولينتصر لهم
ممن ظلمهم.
وإذ لا يمكن غزو الحجاز دونما مبرر شرعي، فقد كان (تكفير)
أهله مسوّغاً للقوات السعودية الوهابية بأن ترتكب مجازر
متنقّلة في منطقة الحجاز، وتسلب الممتلكات، وتسبي النساء،
وتقتل الأطفال، وتخرّب الحقول والآبار..
فالحرب السعودية ـ الوهابية على منطقة الحجاز جاءت
على خلفية دينية، وبلغت جداً مرعباً، بهدف إحتلال الحجاز
وإجبار سكانه على إعتناق المذهب الوهابي، رغم أن المعارك
التي نشبت بين سعود الكبير والشريف غالب في مطلع القرن
الثالث عشر الهجري، إنتهى في مرحلة لاحقة الى خلاف بين
عبد العزيز والشريف حسين دون أن يحقق نتائج تذكر على صعيد
التحوّل المذهبي في الحجاز، رغم مساعي الوهابيين في إجبار
السكان بالإكراه على فعل ذلك، ورغم ما أثارته الغارات
الوهابية ـ السعودية من هلع بين سكّان الحجاز، بحيث باتوا
يمقتون الوهابيين وأفعالهم، وهو مايشرحه المبعوث الفرنسي
دمنغو باديا إي بينج (إن السكان والحجاج لا يستطيعون سماع
مجرد إسمهم دون أن تتملك قلوبهم الرجفة بل إنهم لا يتلفظون
بإسمهم إلا همساً).
وكان قاضي مكة أصدر حكماً ضد معتقدات الوهابيين عقب
محاججتهم، وصدّهم عن إحداث إضطرابات في المدينتين المقدّستين،
غير أنهم بدأوا بعمليات تسلل منتظمة منذ شهر أبريل 1803،
وذلك بعد إبرام إتفاقية ترسيم الحدود سنة 1797، والتي
شكّلت غطاءً لدخول الوهابيين لمنطقة الحجاز بعنوان أداء
مناسك الحج.
وكانت أولى الحملات العسكرية الوهابية على منطقة الحجاز
وقعت في شهر ذي القعدة سنة 1217هـ/1804 على مدينة الطائف.
ويصف السيد أحمد بن السيد زيني دحلان ماقام به الوهابيون
في هذه المدينة بالقول:
(ولما دخلوا الطائف قتلوا الناس قتلاً عاماً واستوعبوا
الكبير والصغير، والمأمور والأمير، والشريف والوضيع، وصاروا
يذبحون على صدر الأم الطفل الرضيع، وصاروا يصعدون البيوت
يخرجون من توارى فيها، فيقتلونهم. فوجدوا جماعة يتدارسون
القرآن فقتلوهم عن آخرهم حتى آبادوا من في البيوت جميعاً.
ثم خرجوا الى الحوانيت والمساجد وقتلوا من فيها، ويقتلون
الرجل في المسجد وهو راكع أو ساجد، حتى أفنوا هؤلاء المخلوقات..)2.
ويقول السيد إبراهيم الراوي الرفاعي أن عدداً من العلماء
قتل في غارات الوهابيين على الحجاز من بينهم السيد عبد
الله الزواوي مفتي الشافعية بمكة المكرمة، والشيخ عبد
الله أبو الخير قاضي مكة، والشيخ سليمان بن مراد قاضي
الطائف، والسيد يوسف الزواوي الذي ناهز الثمانين من العمر
والشيخ حسن الشيبي والشيخ جعفر الشيبي وغيرهم3.
وأحدثت القوات الوهابية السعودية مجازر جماعية في دقاق
اللوز ووادي وج ونهبوا النقود والعروض والأساس والفراش
أما الكتب (فإنهم نشروها في تلك البطاح وفي الأزقة والأسواق
تعصف بها الرياح. وكان فيها من المصاحف والرباع ألوفاً
مؤلّفة ومن نسخ البخاري ومسلم وبقية كتب الحديث والفقه
والنحو، وغير ذلك من بقية العلوم شيء كثير. ومكثت أياماً
يطؤونها بأرجلهم لا يستطيع أحد أن يرفع منها ورقة)4.
وصلت أنباء المجزرة الوهابية في الطائف إلى أسماع أهالي
مكة المكرمة، فالتمسوا من علمائها الذهاب الى سعود للحيولة
دون إستمرار مسلسل الدم في مناطق الحجاز، فاستجاب عدد
من العلماء منهم الشيخ محمد طاهر سنبل، والشيخ عبد الحفيظ
العجيمي والسيد محمد بن محسن العطاس والسيد محمد ميرغني،
والد السيد عبد الله ميرغني مفتي مكة، وتوجّهوا إلى سعود،
فقابلوه في وادي السيل، وطلبوا منه الأمان فكتب لهم أماناً
هذا نصه:(بسم الله الرحمن الرحيم، من سعود بن عبد العزيز
إلى كافة أهل مكة والعلماء والآغاوات وقاضي السلطان. السلام
على من اتبع الهدى. أما بعد: فأنتم جيران الله وسكّان
حرمه آمنون بأمنه، إنما ندعوكم لدين الله ورسوله (قل يا
أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد
إلاّ الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتّخذ بعضنا بعضاً أرباباً
من دون الله، فإن تولوا فقولوا: إشهدوا بأن مسلمون)، فأنتم
في وجه الله ووجه أمين المسلمين سعود بن عبد العزيز وأميركم
عبد المعين بن مساعد، فاسمعوا له وأطيعوا ما أطاع الله
والسلام).
وعلّق السيد أحمد دحلان على كتاب سعود بالقول: (كان
وصول هذا الكتاب الذي جعل أهل مكة فيه مثل اليهود يوم
الجمعة سابع شهر محرم الحرام عام ثمانية عشر بعد المائتين
والألف، فصعد به المنبر السيد حسين مفتي المالكية بعد
صلاة الجمعة والناس مجتمعة وقرأ هذا الكتاب على رؤوس الأشهاد،
فقالوا: حباً وكرامة وحمد الله تعالى على حصول السلامة)5.
وفي اليوم الثامن من محرم من نفس العام، دخل سعود مكة
وطلب من الناس الإجتماع بعد صلاة العصر بالمسجد الحرام
بين الركن والمقام لأخذ البيعة والتبشير بالدعوة الوهابية:
(فلما كان العصر إجتمعوا فجاء وصعد المقام الذي على ظهر
زمزم والمفاتي معهم، ففهمهم وبلّغهم وتشدّق وتكلم والناس
تحته ملأوا الحرم. وصار يعلمهم دين رعاة الغنم، وأجهل
أهل مكة من أكبرهم أعلم. ثم وقف يخاطب الملك عبد الملك
ويعلمه الدين، لا يتوقف في قوله ولا يرتبك كلما علّمه
مسألة يقول له: علموا الناس حتى يعرفها الجهلة. فكان أول
ما علمه من كلام لغة هو قوله إعلموا أيها الناس إن الأمير
سعوداً يقول لكم: إن الخمر حرام، والزنا حرام إلى آخر
الكلام الذي يعلمه البهائم والأنعام)6.
وفي اليوم الرابع عشر من المحرم، أي اليوم السادس من
دخول سعود مكة، أبطل الوهابيون صلاة الجماعة في المسجد
الحرام بالطريقة التي كانت جارية وبقيت صلاة الجمعة فقط،
بعد أن (كان يصلي الصبح الشافعي والظهر المالكي والعصر
الحنبلي والمغرب الحنفي والعشاء يصليه كل راكع وساجد،
وأمر أن يصلي بالناس الجمعة المفتي عبد الملك القلعي)7.
وأمر سعود علماء مكة بدراسة المذهب الوهابي، ولاسيما كتاب
(كشف الشبهات) للشيخ محمد بن عبد الوهاب.
وشهدت الأوضاع الإقتصادية تدهوراً خطيراً سنة 1219هـ،
بجانب التدهور السياسي، الأمر الذي أدى الى نقص حاد في
المواد الغذائية، فساءت الأحوال المعيشية لأهالي مكة ما
اضطرهم الى إرسال مكاتيب لسعود والإلتماس منه في الحصول
على الغذاء درءً لكارثة إقتصادية وإجتماعية. واستغل سعود
تدهور الأوضاع المعيشية لتنفيذ خطة تدميرية متسلسلة. كتب
أحمد أمين (فلما دخلوا مكة، هدموا كثيراً من القباب الأثرية
كقبة السيدة خديجة، وقبة مولد النبي (ص) ومولد أبي بكر
وعلي)8. وكتب إليكسي فاسيلييف (بعد أداء مراسيم الحج أخذوا
يدمّرون كل الأضرحة والمزارات ذات القباب والتي أنشئت
تكريماً لأبطال فجر الإسلام، ومسحوا من وجه الأرض كل المباني
التي لا تناسب معتقداتهم)9. أما السيد دحلان فيقول (بادر
الوهابيون ومعهم كثير من الناس لهدم المساجد ومآثر الصالحين
فهدموا أولاً مافي المعلى من القبب فكانت كثيرة، ثم هدموا
قبة مولد النبي (ص) ومولد أبي بكر ومولد سيدنا علي وقبة
السيد خديجة وتتبعوا جميع المواضع التي فيها آثار الصالحين
وهم عند الهدم يرتجزون ويضربون الطبل ويغنون. وبالغوا
في شتم القبور التي هدموها وقالوا إن هي إلا أسماء سميتموها،
حتى قيل بأن بعض الناس بال على قبر السيد المحجوب)10.
وبعد ثلاثة أيام من عمليات التدمير المنظّمة، محيت
آثار إسلامية في مكة المكرمة، ثم سار سعود بجيشه الى المدينة
بعد أن أحكم سيطرته على مكة المكرمة، وبعث خبره إلى أهالي
المدينة طالباً منهم تقديم البيعة له، فامتنعوا عن ذلك،
فاقتحم المدينة وخاض قتالاً شرساً مع أهلها طالت نحو شهر،
سقط خلاله عدد من أبنائها، ثم استباحتها قواته، فيما توجّه
سعود إلى الحجرة النبوية. يقول حسن الركي مؤلف كتاب (لمع
الشهاب): (فطلب ـ أي سعود ـ الخدم السودان الذين يخدمون
حرم النبي، فقال: أريد منكم الدلالة على خزائن النبي،
فقالوا بأجمعهم..نحن لا نوليك عليها، ولا نسلطك، فأمر
بضربهم وحبسهم، حتى اضطروا إلى الإجابة، فدلوه على بعض
من ذلك، فأخذ كل ما فيها، وكان فيها من النقود ما لا يحصى،
وفيها تاج كسرى أنوشروان، الذي حصل عند المسلمين، لما
فتحت المدائن، وفيها سيف هارون الرشيد وعقد كانت لزبيدة
بنت مروان زوجته، وفيها تحف غريبة من جملة ما أرسله سلاطين
الهند بحضرته (ص)، تزيناً لقبّته (ص). وأخذ قناديل الذهب
وجواهر عديدة..)11.
ويضيف السيد دحلان (أخذ الوهابي كل ماكان في الحجرة
النبوية من الأموال والجواهر وطرد قاضي مكة وقاضي المدينة
الواصلين لمباشرة القضاء سنة إحدى وعشرين، وأقاموا الشيخ
عبد الحفيظ العجيمي من علماء مكة لمباشرة بمكة وأقاموا
لقضاء المدينة بعض علماء المدينة ومنعوا الناس من زيارة
النبي (ص)12.
وقد أثارت أعمال الوهابيين غضب كثير من الناس وجرحت
عواطفهم، (فمنهم من حزن على ضياع معالم التاريخ، ومنهم
من حزن على الفن الإسلامي، ومنهم من حزن لأن مقبرة الرسول
(ص)، وفخامتها مظهر للعاطفة الإسلامية وقوة الدولة، وهكذا
اختلفت الإسباب واشتركوا في الغضب)13.
منع الحجيج عن بيت الله الحرام
أعطى عدد من الباحثين، بمن فيهم المقرّبين من آل سعود
والوهابيين، تفسيرات متباينة لقرار منع المسلمين من القدوم
الى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج، حيث قدّم بعضهم تبريراً
سياسياً لقرار المنع،على قاعدة النزاع بين الأشراف والوهابيين،
فيما اعتبر المقرّبون من الوهابيين قرار المنع بداية مرحلة
التصحيح الوهابي للمعتقدات الدينية لدى المسلمين. في المقابل،
رفض علماء الحجاز مثل هذا التفسير، في ضوء ما كشفت عنه
الممارسات الوهابية ـ السعودية من نهب وسلب وقتل بالجملة،
إضافة الى نمط السياسة الوهابية القائمة على أساس فرض
الوصاية الدينية على المسلمين والتعامل معهم كمشركين.
مهما يكن التفسير، فإن قرار منع الحجيج من القدوم إلى
مكة المكرمة الصادر سنة 1221هـ، قد سبقه إنقطاع الحج العراقي
بعد مجزرة كربلاء، وأعقبه الحج الشامي في العام التالي،
حيث (كان أمير الحاج الشامي عبد الله باشا، فلما وصل هديه،
جاءته مكاتيب بن سعود: لا تأت إلاّ على الشرط الذي شرطناه
عليك في العام الماضي. فلما قرأوا تلك المكاتيب رجعوا
من هديه من غير حج)14. وكان عبد الله باشا قد وصل الى
حدود المدينة المنورة. ويعود سبب المنع الى اشتراط سعود
على أمير الحج الشامي اعتناق المعتقدات الوهابية، وكان
بين الحجاج الشاميين بعض الدعاة الوهابيين والذين اعتنقوا
المذهب الوهابي بعد غزو سعود لمنطقة الشام.
أما موكب الحج المصري، فإن سعود أمر بإحراقه فور وصوله
(وأمر بعد الحج أن ينادى ألاّ يأتي إلى الحرمين بعد هذا
العام من يكون حليق الذقن. وتلا المنادي في المناداة (يا
أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربون المسجد
الحرام بعد عامهم هذا).15.
وعلى إثر قرار الحظر:(إنقطع وصول قوافل الحج من مصر
والشام والعراق واستانبول، لأن السعوديين كانوا يرون فيما
يصاحب هذه القوافل من المظاهر، ما يخالف قواعد الدين،
ولا يتّفق مع مبادىء الدعوة السلفية، بالإضافة إلى أن
هذه المحامل كان يصحبها قوة عسكرية خشي منها آل سعود،
ولذلك لم يسمح السعوديون لهذه القوافل بأن تصل الى الأماكن
المقدسة)16.
ثم بدأ سعود بتصفية حساباته السياسية مع العثمانيين،
فقدم إلى مكة المكرمة، وأصدر أوامره بإخراج الجنود الأتراك
من مكة لتكون له السيادة الكاملة عليها، وفعل الشيء ذاته
في المدينة، حيث تم استبدال الحاميات التركية بحاميات
سعودية ـ وهابية، وقرر بأن يلزم كل مسلم ينوي الحج التخلي
عن محمله، بعد أن يخضع لفحص عقدي من قبل الوهابيين.
يسجّل السيد أحمد زيني دحلان تفاصيل دقيقة عن هذه المرحلة
بما نصه: (وفي سنة سبع عشرة بعد المائتين والألف ساروا
ـ أي الوهابيين ـ بجيوش كثيرة حتى نازلوا الطائف وحاصروا
أهله في شهر ذي القعدة من السنة المذكورة، ثم تملّكوه
وقتلوا أهله رجالاً ونساءً وأطفالاً ولا نجا منهم إلا
القليل، ونهبوا جميع أموالهم ثم أرادوا المسير إلى مكة
فعلموا أن مكة في ذلك الوقت فيها كثير من الحجاج ويقدم
إليها الحاج الشامي والمصري فخرج الجميع لقتالهم فمكثوا
في الطائف إلى أن انقضى شهر الحج وتوجه الحجاج إلى بلادهم
وساروا بجيوشهم يريدون مكة ولم يكن للشريف غالب قدرة على
قتال جيوشهم فنزل إلى جدة فخاف أهل مكة أن يفعل الوهابية
معهم مثل ما فعلوا مع أهل الطائف فأرسلوا إليهم وطلبوا
منهم الأمان لأهل مكة فأعطوهم الأمان ودخلوا مكة ثامن
محرم من السنة الثامنة عشرة بعد المائتين والألف ومكثوا
أربعة عشر يوما يستتيبون الناس ويجددون لهم الإسلام على
زعمهم ويمنعونهم من فعل ما يعتقدون أنه شرك كالتوسل وزيارة
القبور، ثم ساروا بجيوشهم إلى جدة لقتال الشريف غالب فلما
أحاطوا بجدة رمى عليهم بالمدافع والقلل فقتل كثيراً منهم
ولم يقدروا على تملّك جدة فارتحلوا بعد ثمانية أيام ورجعوا
إلى بلادهم وجعلوا لهم عسكراً بمكة وأقاموا لهم أميراً
فيها وهو الشريف عبد المعين أخو الشريف غالب وإنما قبل
أمرهم ليرفق بأهل مكة ويدفع ضرر أولئك الأشرار عنهم، وفي
شهر ربيع الأول من السنة المذكورة سار الشريف غالب من
جدة ومعه والي جدة من طرف السلطنة العلية وهو شريف باشا
ومعهما العساكر فوصلوا إلى مكة وأخرجوا من كان بها من
عساكر الوهابية ورجعت إمارة مكة للشريف غالب ثم بعد ذلك
تركوا مكة واشتغلوا بقتال كثير من القبائل وصار الطائف
بأيديهم وجعلوا عليه أميراً (عثمان المضيافي) فصار هو
وبعض جنودهم يقاتلون القبائل التي في أطراف مكة والمدينة
ويدخلونهم في طاعتهم حتى استولوا عليهم وعلى جميع الممالك
التي كانت تحت طاعة أمير مكة فتوجه قصدهم بعد ذلك للإستيلاء
على مكة فساروا بجيوشهم سنة عشرين وحاصروا مكة وأحاطوا
بها من جميع الجهات وشددوا الحصار عليها وقطعوا الطرق
ومنعوا الميرة عن مكة فاشتد الحصار على أهل مكة حتى أكلوا
الكلاب لشدة الغلاء وعدم وجود القوت فاضطر الشريف غالب
إلى الصلح معهم وتأمين أهل مكة فوسط أناساً بينه وبينهم
فعقدوا الصلح على شروط فيها رفق بأهل مكة فمن تلك الشروط
أن إمارة مكة تكون له فتمّ الصلح ودخلوا مكة في أواخر
ذي القعدة سنة عشرين وتملّكوا المدينة المنورة على ساكنها
أفضل الصلاة والسلام وانتهبوا الحجرة وأخذوا ما فيها من
الأموال، وفعلوا أفعالا شنيعة، وجعلوا على المدينة أميراً
منهم (مبارك بن مضيان)، واستمر حكمهم في الحرمين سبع سنين
ومنعوا دخول الحج الشامي والمصري مع المحامل مكة، وصاروا
يصنعون للكعبة المعظّمة ثوباً من العباء القيلان الأسود،
وأكرهوا الناس على الدخول في دينهم ومنعوهم من شرب التنباك
ومن فعل ذلك وأطلعوا عليه عزروه بأقبح التعزير، وهدموا
القبب التي على قبور الأولياء. وكانت الدولة العثمانية
في تلك السنين في ارتباك كثير وشدة قتال مع النصارى وفي
اختلاف في خلع السلاطين وقتلهم..ثم صدر الأمر السلطاني
(من خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم سلطان محمود خان
ثاني بن عبد الحميد خان أول سلطان أحمد) لصاحب مصر محمد
علي باشا بالتجهيز لقتال الوهابية وكان ذلك في سنة 1226
فجهّز محمد علي باشا جيشا فيه عساكر كثيرة جعل عليهم بفرمان
سلطان ولده طوسون باشا فخرجوا من مصر في رمضان من السنة
المذكورة ولم يزالوا سائرين براً وبحراً حتى وصلوا إلى
ينبع فملكوه من الوهابية، ثم لما وصلت العساكر إلى الصفرا
والحديدة وقع بينهم وبين العرب الذين في الحربية قتال
شديد بين الصفرا والحديدة وكانت تلك القبائل كلها في طاعة
الوهابي وانضم إليها قبائل كثيرة فهزموا ذلك الجيش وقتلوا
كثيرا منهم وانتهبوا جميع ما كان معهم وكان ذلك في شهر
ذي الحجة سنة 1226 ولم يرجع من ذلك الجيش إلى مصر إلا
القليل فجهّز جيشاً غيره سنة سبع وعشرين وعزم محمد علي
باشا على التوجه إلى الحجاز بنفسه وتوجهت العساكر قبله
في شعبان في غاية القوة والإستعداد وكان معهم من المدافع
ثمانية عشر مدفعا وثلاثة قنابل فاستولت العساكر على ما
كان بيد الوهابية وملكوا الصفراء والحديدة وغيرهما في
رمضان بلا قتال بل بالمخادعة ومصانعة العرب بإعطاء الدراهم
الكثيرة حتى أنهم أعطوا شيخ مشايخ حرب مائة ألف ريال وأعطوا
شيخا من صغار مشايخ حرب أيضا ثمانية عشر ألف ريال ورتبوا
لهم علائف تصرف لهم كل شهر، وكان ذلك كله بتدبير شريف
مكة الشريف غالب وهو في الظاهر تحت طاعة الوهابي، وأما
المرة الأولى التي هزموا فيها فلم يكونوا كاتبوا الشريف
غالب في ذلك حتى يكون الأمر بتدبيره ودخلت العساكر المدينة
المنورة في أواخر ذي القعدة)17.
وقد ضمّت الحملة المصرية عدداً من علماء الدين لمقاومة
الفكر الوهابي، وإضفاء شرعية على الحملة، التي نجحت في
استقطاب زخم شعبي واسع، كما حظيت بدعم المسلمين عامة.
احتدمت المعارك بين القوات الوهابية والجيش المصري
بقيادة طوسون بن محمد علي باشا ودامت سبع سنوات (1811
ـ 1818)، ووقف الأشراف إلى جانب الحملة المصرية. وكان
خروج المدينة المنورة من سيطرة الوهابيين عاملاً أساسياً
في استقطاب الشريف غالب الذي كان يحتفظ بميناء جدة، ومال
إلى جبهة المصريين والأتراك وسلّم الميناء إليهم بهدف
الإفادة منه في إسقاط سلطة الوهابيين في مكة المكرمة،
ونتج عن ذلك دخول القوات المصرية إليها بدون قتال، بعد
استمالة قبائل البدو، وحاكم الحجاز. وحاول عبد الله بن
سعود إستعادة بعض المواقع التي خسرها، فغزا ينبع لقتال
بعض القبائل المتحالفة مع القوات المصرية، ولجأ إلى أساليب
إنتقامية ضد هذه القبائل، مثل القتل الجماعي، والسبي والنهب
وهدم البيوت وإحراق المزروعات، إلا أن القبائل حافظت على
ولائها للقوات المصرية.
حظيت القوات المصرية بتأييد داخلي، سيما من أهالي الحجاز،
وبتأييد خارجي، وخصوصاً من في مصر والعراق وتركيا وبلاد
الشام. وبعد تصفية الوجود الوهابي في الحجاز، إستقر طوسون
باشا في مكة المكرمة فيما سار أحد قادة الحملة المصرية
الى الطائف، فدخلها وكان معه بعض أقارب الشريف غالب، وطالبوا
الأهالي تجديد البيعة لهم.
لم يقبل الوهابيون الهزيمة، وأبقوا على التعبئة العسكرية
في صفوفهم، ونظّموا حملة عسكرية سنة 1228هـ، على منطقة
الحناكية بالقرب من المدينة المنورة، ولما علم البدو بخبر
الحملة هربوا مصطحبين معهم بعض متاعهم. وإقتحم الوهابيون
المنازل ونهبوها، ويقول إبن بشر (فدهم المسلمون ـ أي الوهابيين
ـ وأخذوا ما وجدوا فيها من الآثاث والأمتاع..)18. ثم قام
سعود بعمليات مداهمة واسعة للمناطق لضرب القبائل التي
كانت مستوطنة في منطقة الحناكية. إلا أن إنهياراً دراماتيكياً
أصاب القوات الوهابية السعودية إثر موت أمير الدرعية سعود
سنة 1229هـ، إيذاناً بنهاية فصل من تاريخ الوهابية السعودية
كان حافلاً بالمعارك والغارات، كما تهاوت عقدة الوهابية
وسط القبائل، الأمر الذي إضطر عبد الله بن سعود الى ترجيح
خيار المصالحة على قائد القوات المصرية طوسون باشا، الذي
عاد الى مصر كيما يعرض شروط الصلح على أبيه، فاستغل عبد
الله بن سعود فرصة غياب طوسون عن الجزيرة العربية، فسار
بجيوشه عام 1231هـ ناحية القصيم. يقول ابن بشر: (ونزل
على بلد الخبرا وهدم سورها وسور البكيرية عقوبة لهم عن
ما قدم منهم من إستدعائهم الترك ـ بما في ذلك المصريين
ـ وإدخالهم، وخوفاً أن يحدثوا مثلها فيما بعد..فأقام عبد
الله على الخبرا أياماً وقتل شاعراً من الخبرا إسمه عميان،
قتله عبد الله بن حجيلان، ثم رحل منها وسار في وادي الرمه
مسنداً إلى جهة الحجاز، وقد ذكر له عربان من حرب ومطير
في أمواه الحجاز فأنذروا عنه وانهزموا)19.
دفعت شراسة الإنتقام الوهابيين من قبائل القصيم ونجد،
إلى طلب النجدة من حاكم مصر، الذي تلقى رسائل منهم تحرّضه
على الحرب ضد السعوديين. وبالفعل فشل الصلح، وكان التحريض
حافزاً إضافياً للعثمانيين من أجل القضاء على الوجود السعودي
الوهابي. وسلّم محمد علي باشا زمام القيادة لإبنه إبراهيم
باشا، بعد موت طوسون، ونزل بقوات عسكرية إضافية في ينبع
في سبتمبر 1816هـ/ذي القعدة 1233هـ، وتوجّه إلى المدينة
المنورة، ودعا الى التعبئة العامة، وأكمل استعدادته العسكرية
ثم خاض معركة واسعة النطاق للقضاء التام على الوهابيين،
فيما التحقت أعداد غفيرة من القبائل بصفوف القوات المصرية
إستعداداً للهجوم ضد معقل السعوديين في الدرعية. وأنزلت
القوات المصرية والقبائل المتحالفة معها هزيمة ساحقة بالقوات
السعودية الوهابية، فكانت تسقط المناطق الواحدة تلو الأخرى،
وفور وصولها إلى الدرعية ضربت طوقاً محكماً حولها دام
قرابة سبعة أشهر، أدى الى تدهور الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية،
واضطر الأهالي إلى الهروب خارج الدرعية بعد أن أفشوا معلومات
هامة لإبراهيم باشا حول منافذ الدرعية ومواقعها الإستراتيجية،
ما مهّد الطريق أمام إبراهيم باشا لشن هجوم شامل عليها،
فسقطت عسكرياً، ووقع عبد الله بن سعود في الأسر، وأرسله
إبراهيم باشا إلى مصر في نوفمير سنة 1818 ـ محرم 1234هـ،
وتم إحضاره أمام محمد علي باشا، فقدّم عبد الله بن سعود
ما سرقه أبوه من الحجرة النبوية، وبعد يومين رحّله إلى
الآستانة لمقابلة السلطان العثماني كي ينظر في أمره، فنفّذ
الأتراك فيه حكماً بالإعدام، فيما تم نفي أفراد أسرته
الى مصر.
وفيما كانت نجد والمنطقة الشرقية من الجزيرة العربية
مسرحاً لمناوشات عسكرية بين القبائل المتصارعة من جهة
وبين الوهابيين ـ السعوديين والأتراك والمصريين من جهة
ثانية، استغرقت مجمل الحقبة السعودية الثانية، كانت الحجاز
حينذاك تعيش وضعاً سياسياً مستقراً تحت حكم الأشراف والإدارة
العثمانية.
وبعد ظهور عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود على المسرح
السياسي بعد إحتلاله الرياض سنة 1902، بدأت حقبة جديدة
بلغت ذورتها بتشكيل دولة لآل سعود بدعم من علماء الدين
من المذهب الوهابي. فبعد أن وطّد عبد العزيز أركان إمارته
في منطقة نجد، قاد جيشاً من الأخوان وسار بهم الى الأحساء
سنة 1913 في ظل انشغال الدولة العثمانية بمواجهة الاستعمار
الإيطالي على ليبيا في نفس العام، حيث استغل عبد العزيز
الفرصة وهجم على الأحساء بعد أن أطلع الضابط الإنجليزي
ليتشمان على خطته لترتيب أوضاع المنطقة بين الطرفين بعد
السيطرة عليها، فدخل ابن سعود الأحساء وثبّت أقدامه فيها.
وكان احتلال الإحساء بمثابة الفاتح لشهية الغزو، بعد
أن نجح في الحصول على دعم الإنجليز، أو على الأقل صمتهم
من أجل عدم إثارة العثمانيين الذين عقدوا معهم إتفاق جنتلمان
في المنطقة. وفيما لم يجرؤ أباؤه على الإقتراب من الحجاز،
إبان الدولة السعودية الثانية، فإن عبد العزيز اعتبر دعم
الإنجليز له في الأحساء بمثابة ضوء أخضر مفتوح لغزو المناطق
الأخرى، وربما أراد أن يثبت جدارته في الحصول على ثقة
ودعم الإنجليز ضد خصميه الأتراك والأشراف.
وقد دعا إبن سعود قادة الأخوان وكبار العلماء وشيوخ
القبائل وأعيان الحواضر إلى مؤتمر عقد في الرياض في الخامس
من يونيو 1924 شرح فيه إبن سعود المسألة الحجازية، ورغبة
الإخوان في أداء فريضة الحج، في ضوء قرار الشريف حسين
بمنع الإخوان من زيارة العتبات المقدّسة، وكان إبن سعود
يهدف من وراء المؤتمر الحصول على فتوى من العلماء بإعلان
الحرب ضد الشريف حسين، وتعبئة الإخوان ضمن إستراتيجية
عسكرية جديدة وهو ما حصل بالفعل، فاستعد الإخوان لتطبيق
فوري للفتوى، فتقدّم أربعة آلاف رجل من الإخوان، وإرتدوا
حرام الحج، وحملوا أسلحتهم، وتولى السلطان بن بجاد زعيم
الغطغط، وخالد بن نوى قيادة الإخوان، وأغاروا على الطائف
وقتلوا حاميتها. وخرج جيش الشريف من المدينة، فدخل الإخوان
الطائف وأوقعوا فيها مجازر مرعبة، وأعملوا السيف في رقاب
كل من يخالف العقيدة الوهابية، وقتلوا عدداً كبيراً من
وجهاء مكة، في مصايفهم ونهبوا ممتلكاتهم، كما قتلوا عدداً
من رجال الدين في الحجاز، ونجا الشيخ عبد القادر الشيبي
سادن الكعبة بعد أن تظاهر باعتناق الوهابية. ويقول عطار
في كتاب (صقر الجزيرة) الذي أملاه عبد العزيز عليه (وفي
اليوم التالي، أخرجوا الأهالي نساء وأطفالاً وشيوخاً من
المدينة وحبسوا في إحدى الحدائق ثلاثة أيام وكانت النساء
سافرات لأول مرة مع الرجال ومكثوا أياماً بدون طعام).
وزحف جيش إبن سعود من الطائف الى مكة المكرمة، بعد
أن تخلى الإنجليز عن دعم الشريف حسين، ونقضهم كل الوعود
التي أعطوها له بخصوص إقامة إمبراطورية عربية تحت قيادته،
بعد أن رفض القبول بدولة يهودية في فلسطين في ضوء وعد
بلفور الصادر سنة 1917. ودخل الجيش الوهابي ـ السعودي
مكة المكرمة، وهدم ما صادفه من آثار إسلامية وتاريخية،
فيما كان أشراف مكة يرددون (إن دعوة ابن سعود مذهبية،
لذلك لا تنجح خارج نجد. لا أمن في الجزيرة ولا راحة للعرب
ومطامع إبن سعود تزداد يومياً فيوماً..)20.
دخل الإخوان مكة المكرمة والمدينة المنورة كفاتحين،
لتطهير المدينتين من البدع، حسب زعمهم، فأزالوا المعالم
التاريخية وحطّموا الآثار الدينية وهجموا على المسجد النبوي،
الأمر الذي أثار غضب المسلمين في أرجاء العالم. وكتبت
جريدة (المصوّر) المصرية في 4 ديسمبر 1925 تقريراً بعنوان
(إهتمام العالم الإسلامي بتخريب الآثار المقدّسة) جاء
فيه: (إهتم العالم الإسلامي بما تناقلته الصحف عن تخريب
الوهابيين بعض الآثار المقدّسة في الحجاز، فأوفدت حكومة
إيران لجنة لتحقيق ما حدث برياسة السفير جعفر خان جلال.
وقد تكرّم بمقابلة مندوب 'المصوّرب في فندق الكونتيننتال
وقال: كان أهم ما خربوه مقابر آل البيت وأخصها قبر السيدة
خديجة والسيدة آمنة. قال السلطان ـ أي عبد العزيز ـ بلغني
خبر ما حدث، حزنت لتأكدي أن لهذه الآثار حرمة وكرامة عند
الكثيرين من المسلمين في أنحاء العالم لذلك سأبذل جهدي
في إعادة هذه إلى ما كانت عليه).
وبسقوط الحجاز تحت سيطرة إبن سعود، بقيت عسير آخر معاقل
الأتراك، ونتيجة للظروف الإقليمية والدولية نجح إبن سعود
في تصفية الوجود التركي فيها، وصولاً الى إقامة الدولة
السعودية سنة 1932، التي قامت بمحو منظّم لمعالم الحجاز
وهويته التاريخية وتراثه الثقافي.
المصادر
1 جلال كشك، السعوديون والحل الإسلامي، أميركا، 1982،
ص 607
2 السيد أحمد بن زيني دحلان، خلاصة الكلام في بيان
أمراء البلد الحرام، القاهرة 1305هـ، ص 297
3 السيد إبراهيم الراوي الرفاعي، رسالة الأوراق البغدادية
في الحوادث النجدية، تركيا 1976، ص 3
4 السيد دحلان، خلاصة الكلام، مصدر سابق ص 298
5 المصدر السابق ص 301
6 المصدر السابق ص 302
7 المصدر السابق ص 303
8 أحمد أمين، زعماء الإصلاح في العصر الحديث، ص 20
9 اليكسي فاسيليف، تاريخ العربية السعودية، ص 120
10 السيد دحلان، أمراء البلد الحرام، ص 302 ـ 303
11 حسن الركي، لمع الشهاب في سيرة محمد بن عبد الوهاب،
ص 108
12 السيد دحلان، أمراء البلد الحرام، ص 326
13 أحمد أمين، زعماء الإصلاح في العصر الحديث، ص 20
14 السيد دحلان، أمراء البلد الحرام، ص 326
15 المصدر السابق ص 326
16 عبد الرحيم عبد الرحمن عبد الرحيم، الدولة السعودية
الأولى، ص 139
17 السيد أحمد زيني دحلان، فتنة الوهابية، ص ص 11 ـ
15
18 ابن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد، ص 163
19 المصدر السابق ص 185
20 أمين الريحاني، ملوك العرب، ص 507
|