المطبخ المكّي ودوره في استعلان الهوية والثقافة والمكانة
الإجتماعية في الحجاز
د. مي يماني*
مكة المكرمة، المدينة المقدسة في الاسلام وقبلة المسلمين في ارجاء
العالم، استقطبت طوال التاريخ جماعات من الحجيج من بلدان مختلفة،
وبعضها قرر لأسباب مختلفة الاستقرار في هذه المدينة بعد الفراغ من
مناسك الحج. وقد جلبت هذه الجماعات التي تنتمي الى اصول اثنية
وثقاقية متنوعة منظومة عادات وتقاليد بما في ذلك المتعلق منها
بالطبخ، وقد جرى تكييف هذه العادات مع الذوق المحلي، وتدريجياً جرت
اضافتها الى مجموعة ما يمكن تعريفه بـ ''المطبخ المكي''. ولذلك لم
يعد هناك أطباق هندية، اندونيسية، مصرية او تركية فجميع الاطباق
الغنية بالمأكولات باتت تعرّف بصورة تدعو للاعتزاز بأنها مأكولات
مكية.
الدكتورة مي يماني، كتبت بحثاً حول علاقة الأكلات الحجازية بصناعة
الهوية والثقافة.
كانت مكة وعلى مر التاريخ مركزاً محورياً للعالم الإسلامي أجمع،
وربما كانت هذه المحورية أشد ظهوراً خلال الثمانينيات من القرن
الماضي، حيث تصاعد مدّ البعث الإسلامي، وتصاعد الوعي بالهوية
الإسلامية. وفي نفس السياق كان المكيون واعين للجذور الأثنية
المتنوعة والثقافة غير المتجانسة وخصوصاً حين تقارن مع الثقافة
الصحراوية البدوية المعزولة المتجانسة في وسط الجزيرة العربية (نجد).
إن خلفيات الحجازيين الأثنية المتنوعة تعكس نفسها في الموسيقى
والهندسة المعمارية، وأنماط الألبسة والأطعمة حيث يمكن تمييز الأطعمة
من خلال طرق إعدادها والتي هي معقدة نسبياً مقارنة مع الأكلات
الصحراوية الكلاسيكية.
اتخذت الخلفية الإجتماعية والتعليمية ومظهر الحجازيين الخارجي
شكلاً مدنيّاً، كما أن طريقة الحياة لديهم كانت تخضع دائماً لتأثيرات
الثقافات الأخرى التي لا يمكن حصرها في ما جاء به الحجاج من مختلف
البلدان الإسلامية ولكن أيضاً نتيجة سفر الحجازيين (وخصوصاً المكيين)
المتكرر الى بلدان العالم منذ القرن التاسع عشر، حيث كانوا يرسلون
أبناءهم للدراسة في الدول الإسلامية الأخرى. هذه الطبيعة المدنية
المنفتحة جعلت المطبخ المكي متميزاً عن غيره (النجدي ـ القبلي). ومما
يجدر ذكره، بأنه منذ أواخر الثلاثينيات الميلادية من القرن الماضي،
وبخاصة منذ بداية الخمسينيات، بدأ الحجازيون بتطوير الاتصال بثقافات
غير إسلامية نتيجة اكتشاف البترول والتطور اللاحق للإقتصاد السعودي
والذي أدى بدوره الى تصاعد وتيرة سفر المواطنين الى البلدان الغربية
وكذلك الى تدفق أعداد كبيرة من الغربيين للعمل في داخل السعودية.
ولكن تلك الروابط مع الثقافات الغربية جاءت خارج النطاق المكاني لمكة
المكرمة، التي لا يستطيع غير المسلم دخولها.
ومن الناحية الإقتصادية، فلأن مكة المكرمة الى جانب المدن
المجاورة لها (جدة والمدينة) كانت مركزاً تجارياً يفيد في موسم الحج،
فقد تميزت برخائها أكثر من المدن والمناطق الأخرى التي تتشكل منها
المملكة السعودية، حتى ظهور النفط في المنطقة الشرقية في الثلاثينيات
الميلادية. قبل اكتشاف النفط، حصلت منطقة الحجاز على مداخيل عالية
نسبياً من الضرائب المدفوعة من قبل الحجاج، ومن مداخيل الحجاج
الأخرى، ومن التجارة الدولية المتمركزة على موانئ البحر الأحمر. كانت
مكة وجدة المدن الأغنى في الجزيرة العربية، وكانت منطقة الحجاز سوقاً
عالمية كأحد مراكز التجارة العالمية التقليدية. ومنذ بداية القرن
الماضي، وحتى الثلاثينيات كانت التجارة قائمة بصورة شبه كاملة على
الإستيراد من الهند فيما تأتي الواردات الأخرى، من سنغافورة
وأندونيسيا واثيوبيا (القهوة) ، في حين تأتي التمور من موانئ الخليج
كالبصرة.
في أعقاب توحيد السعودية وتأسيس الدولة الحديثة عام 1932، كان
يفترض إزالة الحواجز بين المناطق التي تتشكل منها المملكة، ولكن
التمايز بين السكان على أساس المنطقة والجذور الأثنية والثقافية بقيت
على حالها. أن تكون حجازياً اليوم، فإن ذلك يرمز الى هوية مجموعة
سكانية تنظر الى نفسها كجماعة متميزة عن غيرها من الجماعات الأخرى.
ويعتبر المكيون ممثلين عن الهوية الحجازية ثقافياً واجتماعياً: كيف
ينظرون الى أنفسهم، وكيف يتحدثون عن أنفسهم، وكيف يجب أن يفهموا من
قبل (الآخر)؟
وبالنسبة للأطعمة الحجازية، فإنها نشأت أو ظهرت في أكثرها من مكة
المكرمة، وهي تمثل التعبير الرمزي عن الإحساس بالهوية والإنتماء. ان
الطريقة التي يتم بها إعداد الطعام، وكذلك طريقة تقديمه واستهلاكه
يساعدان في تمييز وتعريف جماعة من الناس يمتلكون الوعي للعوامل التي
تجعلهم مختلفين عن الآخرين. وبصورة وثيقة لمفهوم (التجمّل) من جهة
(تبييض وجه) العائلة وإعطاء مكانة وتشريف لها، فإن إقامة المآدب تمثل
طريقاً الى ذلك.
هناك أساليب وطرق متألقة في تقديم الطعام، فعلى سبيل المثال تقطع
اللحوم والخضار الى قطع صغيرة ولا يقدم أي طعام على شكل قطع كبيرة
إلا في حالة واحدة حينما يقدم الضأن كاملاً في المناسبات الخاصة.
وهذا أحد الفوارق الرئيسية بين المطبخ (المدني) والمطبخ (البدوي) حيث
يقدم البدو ذبائحهم على شكل قطع كبيرة.
المناسبات الدينية تمثل مجالاً خصباً للتمييز بين بعضها البعض من
خلال تقديم أطباق خاصة بكل مناسبة. بعض المناسبات الإجتماعية اختفت
خلال العقود الأربعة الأخيرة، أو أعيد احياؤها، وفي بعض الأحيان في
أشكال معدّلة. فعلى سبيل المثال هناك مناسبة الحنّة (الغمرة) في ليلة
الزواج أو الإحتفال بتسمية الطفل المولود حديثاً في يومه السابع
(السابوع)، او الذكرى السنوية لوفاة الميت (حول). في مثل هذه
المناسبات يعتبر الطعام مادة مركزية في الطقوس. في احتفال حفل
الحنّاء، تقدم الحلويات المكية (اللدو واللبنية والحلوى الطحينية
والهريسة والمحجمية والخبز المكي التقليدي: شريك أو كعك، إضافة الى
جبنة الغنم المكي والزيتون) يقدم كل ذلك في صواني فضيّة خاصة، وتعرض
في مكان بارز. هذا المزيج من الحلويات والخبز والجبن هو طعام اعتيادي
بالنسبة للسكان الحجازيين... ولكن خلال مناسبة الحنّاء، يتطلّب الأمر
بعداً رمزياً الى الماضي حينما كانت هذه الأكلات فاخرة لا يتناولها
كل السكان.
وكما قلنا سابقاً فإن الطعام يميّز كل مناسبة بعينها، بالنسبة
لأهالي مكة والحجاز، وعادة ما تكون الأطباق المكيّة متميّزة فيها.
نوعية الطعام والمناسبة يساهمان أثناء إقامة الموائد في تعزيز
الهويّة المشتركة للضيوف او المحتفلين بالمناسبة. وبهذا تتميز
المناسبة ويتميّز الحضور الذين يعتبرون أنفسهم حجازيين مكيين مثلاً.
وبإعادة التشديد وتقوية الممارسات الدينية والإجتماعية فإن أحداثاً
وتجمعات دينية جرى إحياؤها فأصبحت متميزة بنوعية الطعام الذي يقدم
فيها.
في نهاية الإحتفال بالمولد النبوي الشريف، يقدم الضأن المشوي
كاملاً، بالإضافة الى الأرز كطبق رئيسي، إضافة الى أطباق أخرى. في
عاشوراء، أي يوم العاشر من المحرم، تقدم حلوى خاصة بالمناسبة إسمها
(عاشورية) تتكون من عشرة أنواع من الطحين. وخلال شهر رمضان هناك طعام
خاص يعد أثناءه، يتكون من الحساء والفول المدمس والجبنة والسمبوسة
وفطائر اللحم والفتة. وهناك ايضاً اطباق حلويات خاصة برمضان مثل
القطايف المحشوة بالمكسرات.
في الإحتفال ببداية العام الهجري، يقدم الحليب والفواكه وجبنة
الضأن المحلية، وهذه الأطعمة تمثل الصفاء الذي يمكن أن يبدأ المرء
بها عامه الجديد. وأخيراً هناك طبقاً خاصاً يقدم في أواخر رمضان
ويرمز الى عيد الفطر المبارك وهو طبق حلويات (دُبيازه) المعمولة من
التمور المجففة وقمر الدين والتين المجفف والزبيب واللوز. يضاف الى
ذلك طبق (المنزلة) ويتكون من لحم ضأن يقطع قبل الطبخ.
يتميز عيد الأضحى المبارك بأنواع مختلفة من القطايف المحشوة
بالتمور أو اللوز (المعمول) إضافة الى (الغريّبة) وهي عبارة عن قطع
من الخبز بنكهة اللوز. وفي الغالب فإن التمور تأتي من المدينة
المنورة، فيما تنتج الطائف اللوز. وفي مناسبة الخامس عشر من شعبان،
يعد الحجازيون طبقاً من العجّة يدعى (المشبّك). وفي منى أيام الحج
يتم تحضير الزلابيا من قبل المكيين الذين لم يحجوا في ذلك العام.
أيضاً حين يموت أحدهم، فإن وجبة خاصة تعدّ وتقدم في نهاية العزاء
(قطع عزا) وهو اليوم الثالث. الطبق المركزي في هذه المناسبة هو الأرز
بحبات الحمص، إضافة الى الكبدة والطحال المقطعة، وفي بعض الأحيان
السكواش وهو طبق حساء من الخضروات.. إضافة الى اللحم والبازلاء.
وتقدم وجبة (المندي) التي تتكون من اللحم والأرز إضافة الى سلطة
الطحينية في الذكرى السنوية للمتوفين (حول). وبالمثل هناك طعام خاص
يعد لمناسبات الولادة والزواج وفي اليوم الغائم (الغيم السكري) وهذه
الوجبة الأخيرة تتألف من الأرز والعدس وسلطة (حُما) إضافة الى السمك
المقلي الذي يؤتى به من البحر الأحمر. من المفيد ملاحظة أنه خلال
المناسبات التقليدية الدينية مثل الإحتفال بالمولد النبوي والشريف
وذكرى الوفاة (الحول) فإن الوجبة تقدم دائماً على الأرض حيث يوضع
القماش الرقيق الأبيض ومن فوقه الصحون. لم يستخدم السماط البلاستيكي
إلا مؤخراً في حين كان المستخدم سابقاً هو (المسفّه) التي تصنع من
خوص النخيل قطرها نحو متر مربع.
ويحي أهل الحجاز ما يعرف بالليالي المكيّة بالأحاديث عن الماضي
والتراث والطعام والذي يعاد انتاجه من الماضي. هناك خلطات خاصة
للأطباق المكية، مثل (المبشور) وهي كرات من اللحم مشوية ومغمورة في
الثوم، وفطائر اللحم المفروم (المنتو)، و(المطبق) وهو طبقات من
العجين المحشوة بالبيض واللحم المفروم وغيره. وهناك المطبق الحلو
الذي يستخدم فيه العسل والموز أو العسل والجبن المحلي، ويقدمه عادة
رجال يلبسون الزي الحجازي القديم، فيما يجلس الضيوف على التكايا
المكية الرفيعة.
إن تنوع الاطباق ينعكس في طبيعة المناسبات والتقاليد الاجتماعية،
فالأكل يميّز مجريات الاحداث في حياة المجتمع في مكة المكرمة عنها في
المجتمعات الاخرى، فالولائم الإجتماعية مثلاً ترمز الى وحدة النسيج
الاجتماعي بين أفراد المجتمع المكي.
الا أن ثمة فصلاً ضرورياً بين الذكور والاناث تمليه العادات
والتقاليد، والتي تمثل ظاهرة واضحة في التعامل بين الجنسين. فالأكل
في حفلات النساء يكون يبالغ فيه عادة أكثر من حفلات الرجال. فعلى
سبيل المثال، يتميز حفل الزواج الخاص بالرجال بالبساطة والاختيار
التقليدي للأكلات المكّية والتي تتألف من: اللحم المحمّر (القوزي)،
اضافة الى طبق من الأرز، وسلطة طحينية معدّة من صلصة السمسم والخيار،
وقليلاً من أصابع الكعك المغمور في العسل (طرمبة). أما في حفل النساء
فالأمر يختلف كثيراً، فأطباق الأكل متنوعة جداً وتبدو عليها صفة
المبالغة. فلا يتوقف الأمر عند الأكل الحجازي (وتحديداً مكة والمدينة
وجدة) ولكن حتى الأطباق اللبنانية والمصرية والعربية الاخرى وحتى بعض
المقبلات أو الأكلات الخفيفة الغربية مثل الأفوكادو وسمك السلمون
المدخن تقدم أيضاً في هذه الحفلات، وليس بالضرورة أن يتم إستهلاكها
خلال هذه الحفلات. ويبقى الضأن المشوي الجزء المركزي من وجبة الطعام
في حفلات الزواج، ولكن بالنسبة للنساء فإن لحم الضأن يقدم بدون عظم
على شكل شرائح. والسبب في ذلك أن النساء لا يرغبن في بذل جهد لاقتطاع
شريحة من لحمة الضأن في تلك المناسبة ـ أي الزواج، فهذا ينظر اليه
باعتباره مخالفاً للأتيكيت والرزانة.
تقديم الضيافة وإبداء الكرم للضيف يعتبر إحدى الطرق المتبعة من
أجل تأسيس الوجاهة والاحترام أو الحفاظ عليهما. فالهدف من الضيافة
والكرم أن المضيف أو المضيفة يجب ان يبقيا واقفين منذ بداية الحفل
وحتى مغادرة آخر ضيف وإبداء المجاملة والتقدير للضيوف. فمباشرة الضيف
يوصف من قبل المكيين بأنه شرف، وأن (الكرم مروءة). في الاسلام، على
المضيف خدمة ضيفه ومباشرة الأكل بعد أن يبدأ حتى وإن كان الضيف يصغره
في العمر أو المقام الاجتماعي. لقد عبّر بعض من التقيتهم عن إعجابه
بهذا السلوك وردد الحديث الشريف ''من كان يحب الله ورسوله فليكرم
ضيفه''. فحتى مع فرضية وجود عدد كبير من طاقم الخدمة فإن أهل البيت
هم من يباشرون من الناحية العملية خدمة الضيوف. فطاقم الخدمة يحضرون
الطعام من المطبخ بينما يقوم المضيف وأفراد عائلته الممتدة بتقديمها
للضيوف بصورة صحيحة. فالضيوف لا يجب ان يتركون للحظة دون ان يقدّم
لهم الطعام: العصيرات والمكسرات والتمر والقهوة إضافة الى شاي
النعناع وشاي ليبتون، ثم طبق العشاء الذي يتم تأخيره لأطول مدة
ممكنة، حيث أن النظام يملي بأن ينصرف الضيف مباشرة بعد ذلك، ولذلك
فإن ما يتم هو إعادة تقديم الشاي والقهوة وخليط من أنواع المكسرات
الحارة والنعناع والزهورات (وخصوصاً الخلطة المكّية) وبعض الفواكه
المجففة.
تحرق (العوده/ البخور) ثم يتم تمريرها أمام الضيوف، لاسيما بعد
الإنتهاء من تناول الأكل وهي تمثل إشارة أخرى على حسن الضيافة، كذلك
يقدم عطر الصندل العطري، أو الورد والياسمين.
خلال المأدبة وتناول الطعام، يقوم المضيف أو المضيفة، وهكذا أفراد
العائلة بالإصرار على الضيوف أن يأكلوا، ومهما بلغت كمية ما يأكله
الضيف فسيظل المضيف يردد ''لم تأكل شيئاً..والله لم تأكل شيئاً''.
أما الضيف فيجيب بواحدة من إجابات المجاملة المعهودة والكثيرة
للاعتراف بكرم الضيافة، مثل: ''جعل الله بيتك عامراً دائماً''، فيرد
المضيف قائلاً ''فقط بوجودكم'' أو ''يجعلك الله أكرم'' ، فيجيب الضيف
''نحن نتعلم من كرمكم''.
بعض المسنين أخبروني بأن الضيافة والكرم كانا يبلغان ـ في أيامهم
السالفة ـ حد إيصال الطعام الى فم الضيف مباشرة، أي من يد المضيف الى
فم الضيف. إحدى الضيفات قالت أنها لم يسمح لها ذات مرة بتناول الطعام
بيدها: فمنذ لحظة جلوسها عند الطعام جرى إطعامها، وتضيف: ''اذا بلغ،
على سبيل المثال، عدد أفراد العائلة ثمانية فإن كل واحد منهم يقوم
بتقديم الطعام لها على الأقل لمرة واحدة''. وعلى أية حال فإن عادة
الاطعام المباشر قد إندثرت. وفي هذه الايام، فإن المضيف يساعد الضيف
على الأكل ربما عن طريق ازالة قشر الفستق او تقطيع اللحم أو الدجاج
الى قطع صغيرة، أو وضع الأكل في أطباق الضيوف، حتى وإن كانت الاطباق
مملوءة.
إن عادة خدمة الضيوف تعبر عن النظام الاجتماعي: فهذه الفئة
الاجتماعية من الضيوف تأكل مع من؟ وتُخدم من قبل من؟ كل ذلك محكوم
بالمكانة الاجتماعية والعمر. فعلى سبيل المثال، في حفلة العشاء يجلس
الضيوف ذوو المكانة الاجتماعية عند مقدمة الطاولة، ويقوم كبير
العائلة بخدمتهم، بينما يجلس الاقل سناً او أهمية في الجهة المقابلة
من طرف الطاولة وتلبّى طلباتهم ولكن من قبل أفراد العائلة الاقل
سناً.
ورغم أن الطعام يعتبر جزءاً أساسياً في كل مناسبة إجتماعية فقد
لحظتُ بأن ليس هناك من يذكر كلمة ''طعام''. فالتلفظ بها أمام الضيوف
يعتبر عادة سيئة. ولذلك، فإنه بالرغم من ان المضيفة وعائلتها قد
أنهكوا أنفسهم من أجل تحضير أكثر من ثلاثين طبقاً لملء الطاولة من
أجل ''حفل شاي''، فإنها حين تدعو ضيفاتها للتوجه ناحية الطاولة تقول:
من فضلكم استوجبونا، تعالوا شرّفونا.
يعبر عن الكرم ويقاس حجمه من خلال كمية الطعام المعروض للضيوف.
وهناك دائماً تقريباً كمية طعام على طاولة المناسبات الاجتماعية
التقليدية تفوق قدرة الضيوف والمضيفين على الإستهلاك. فما هو مصير
كميات الطعام المتبقية من هذه الولائم العامرة بمختلف الاصناف من
الأكل؟ يتم توزيع هذه الكميات على الأصدقاء والأقارب والعوائل
الفقيرة تحتى مسمى الصدقة. فلكل عائلة من العوائل ذات المكانة
الاقتصادية والمقام الاجتماعي الرفيع عوائل فقيرة تلتزم لها بأعمال
خيرية كالطعام والملابس والمال وغيره. وعليه، ففي نفس الليلة أو في
صباح اليوم التالي من عشاء كبير أو مناسبة دينية، فإن السائقين
الخاصين يقومون بالطواف من بيت لآخر لتوزيع الطعام. ومعظم الاقارب
يحصلون على حصتهم من المتبقي من طعام الحفل. فنوع الطعام يحفظ بصورة
جيدة، وفي حقيقة الأمر، يتحسن طعمه خلال الليل. وحسب تفسير الناس
لاحقا، فإن التوابل وأنواع المذاقات المختلفة المختلطة بصورة جيدة في
صحن واحد تصبح من الصعوبة بمكان التمييز بينها. فاللحم يمثل المادة
التقليدية للصدقة. إن أفراد المجموعة الذين يشكلون عينة من الدراسة
هذه يقومون بذبح الأغنام في حضائر خاصة بهم، ويحتفظون بجزء من اللحم
نيّاً للاستهلاك البيتي فيما يبعثون بالمتبقي الى العوائل المحتاجة.
ويتم ذبح الأغنام في بعض الأحيان لنوايا محددة، كشفاء أحد افراد
العائلة من مرض ما، ولكن غالباً ما يتم الذبح أملاً في حماية العائلة
وحفظ نعمتها وازدهارها. المكيون يأكلون لحم الغنم (الحري) المحلي من
منطقة تقع جنوب مكة، فهم لا يفضّلون اللحوم المستوردة، وهم يعتبرون
لحم البقر أقل شأناً. وعليه، فاضافة الى اللحم فإن الدجاج وأنواع
السمك من البحر الاحمر تمثل الوجبات اليومية.
فالطعام يقدّم تقليدياً الى الناس كهدايا، ومثال ذلك الـ (طُعمه)
والتي لازالت منتشرة حتى اليوم. في معظم الأيام، وعلى طاولة واحدة،
وفي وجبة واحدة يكون هناك صحن ''طعمه''، قد بعث به قريب أو صديق. ولا
يجوز لأحد أن يرد هذا الصحن لصاحبه فارغاً، بل يجب أن يكون مملوءاً
إما بالطعام أو بالسكر في الحد الأدنى. وعلى أية حال، فإن الطعام يجب
إرساله الى البيت على أن لا يعود الضيف مطلقاً بوعاء الطعام، وبهذا
يكون التقدير المباشر للطعام المُرسل. إعادة الوعاء مقبول فقط إن كان
المرسل إليه قريب مقرّب لعدم وجود شكليات أو إحراج بين أفراد
العوائل.
(الدخلة) هي ايضاً هدية على هيئة طعام، ولكن غالباً ما تأتي في
شكل وليمة على شرف شخص عائد من سفر. وفي بعض الاحيان ترسل هذه الهدية
من الطعام الى البيت. وأكثر من ذلك، فإن الطعام يقدّم الى العائلة
الممتدة المفجوعة بموت أحد أفرادها. أما الأقارب البعيدون والأصدقاء
القريبون فيرسلون طعاماً مطبوخاً، وبخاصة خلال الايام الثلاثة الاولى
من التعزية الرسمية، وهذه العادة تستند على حديث شريف.
وبالرغم من الاستهلاك الملحوظ بالنسبة للطعام، فهناك ثمة خوف ثابت
من العين الحسودة المثبّتة في رؤوس أصحابها. فالطعام كونه متصلاً
بالمعتقدات الأساسية والقيم، فإن الشعور بالهوية والانتماء والمقام
الاجتماعي، يجعل التعامل مع الطعام ـ رغم ما يمثله كشيء جوهري في
الحياة ـ حذراً خشية عين الحاسد. وبوعي أو بلا وعي، يستطيع المرء
الوقوع على تلك العين. ويتعاظم الخوف من عين الحسود حيال أنواع معينة
من الأكل، وخصوصاً اذا كان الذي يستهلك الطعام لديه القابلية لأن
يكون عرضة للحسد أو أن يكون في موقع مرغوب.
يستعمل الضيوف المؤدّبون دائماً عبارة ''ما شاء الله'' بأسلوب
هادىء ونبرة خفيفة حين ينظرون الى الطعام للتعبير عن نواياهم الحسنة
وإعجابهم. وبات مألوفاً بالنسبة للنساء أن يأكلن وجبة خفيفة ''تلبيبة
او تصبيرة'' في بيوتهن قبل الحضور الى حفل الشاي أو العشاء. والهدف
من ذلك جزئياً، على الأقل هو الحفاظ على أناقتهن وحشمتهن، حيث أن
إظهار الجوع امام الاخرين يعتبر مخلاّ بالشخصية، وجزئياً بسبب عين
الحسد، حيث أن الأكل بشراهة أمام مجموعة كبيرة من الناس يحمل معه خطر
الافتضاح حيال ذلك.
وهناك تدابير إحتياطية متنوعة للوقاية من العيون الشريرة، الى
جانب وضع أغطية من نوع ما على الطعام. واحدة من تلك التدابير هي
الحيلولة دون ذكر إسم طبق ما بعينه، كاللحم مثلاً، ولذلك يطلق عليه
بدلاً من ذلك ''كوكو'' أو ''هيله''. ويبلّغ ذلك للأطفال، سيما أولئك
المعرضين للعيون الحاسدة. وحين يرتاب المرء في شخص ما بكونه يملك
عيوناً شريرة خلال الأكل، فإن شخصّاً في مثل حالته إذا ما أصابته عين
الحسود فإن الناس يصفونه بالقول: ''جاتو ـ أتته ـ لقمة'' ولكي يتخلص
من ألم المعدة يلجأ الى سيد من آل الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقوم
هذا الأخير بوضع قطع من القطن المبلل بالماء على البطن ويقرأ بعض
الادعية والتراتيل القرآنية. قلة من الناس تتعاطى هذا النوع من
العلاج في الوقت الحاضر، وهناك تدابير أخرى ضد العين الحاسدة،
والعلاج المستعمل على نحو واسع والوحيد والمؤثر هو تلاوة سورة الفلق.
بات من المعتاد بالنسبة لمن هم في مكة إجلاس الضيوف عند مائدة
الطعام في وقت واحد. وعلى اية حال، فإن القاعدة تستوجب بأنه حين
ينتهي الضيف من من الأكل فعليه أو عليها مغادرة الطاولة وعدم انتظار
الآخرين الذين مازالوا يأكلون. وهذا عائد الى الآية الكريمة ''فإذا
طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث''. والناس يفسرون ذلك بأن من
العادات السيئة لأولئك الذين انتهوا من طعامهم الجلوس ''يعدون
اللقم''، وهذه العادة من شأنها أن تسبب الحسد. ورغم أن الناس تتبادل
بعض الكلمات على الطعام، فليس هناك تقليد حول أحاديث معينة على
الطاولة كما هو الحال في مجتمعات أخرى. أكثر من ذلك، فإن كل الأطباق
المقدّمة سويّة لا بد من تناولها في وقت واحد، فليس هناك تسلسل زمني
لإستهلاك الأطباق وبالتالي لا يبدأ الضيوف بتناول الطعام من طبق ما
قبل الانتهاء من طبق قبله حسب التسلسل المرسوم وحسب تقاليد تناول
الطعام. وعليه فإن الوقت المبذول عند الوجبة يعتمد على مقدار الكمية
والسرعة التي يبذلها الفرد في الأكل.
فيما يتعلق بالمكان الذي يتم فيه الطبخ ويقدّم فيه الطعام، هو في
البيت، فكل الابداع والتقاليد تقع هنا. وعليه فالبيت يساهم في خدمة
وتطوير الهوية الوطنية أو المحلية لأنماط الطبخ المختلفة. في الماضي
لم تكن هناك مطاعم في السعودية، باستثناء تلك المعروفة باسم
''القهاوي'' الشعبية حيث يأكل الرجال في أماكن مفتوحة وعلى تكايا
مرتفعة وعلى طاولات مستديرة يقدّم فيها الشاي والشيشة. ولا يمكن أن
تأكل النساء في أماكن عامة، وحتى بالنسبة للرجال المنتمين لهذه الفئة
الاجتماعية، فإن من العيب الأكل في الاسواق أو الاماكن العامة.
اما اليوم، فقد أفتتحت المطاعم على الطراز الغربي، ومعظم هذه
المطاعم جزء من سلاسل دولية من الفنادق والمطاعم التي تقدّم الوجبات
الصينية واليابانية ومختلف الأكلات الاوروبية والشرق أوسطية. وهذه
تقدّم للعمال الأجانب الذين يعيشون في السعودية، مع أن بعض السعوديين
من طبقات اجتماعية محددة بدأت في توطينها.
فالأكل المنزلي يطبخ عادة من قبل النساء، والرجال في مكة نادراً
ما يقومون بمهنة الطبخ. تنقل طرق الطبخ النظري والشفهي عادة من الأم
الى البنت. وفي السابق، كانت الجواري (الرقيق) اللاتي يعشن كجزء من
العائلة ـ بالنسبة للعوائل الغنية ـ يساعدن في إعداد الطعام، أما
اليوم فإنه يتم الإستعانة بطباخين أجانب، وفي الغالب فلبينيين
ولبنانيين وسودانيين ومصريين او مغاربة. يتم إعداد الطباخ المحترف
بتدريسه طرق إعداد الأكلات المكية من قبل سيدة البيت او من قبل سيدة
مطّلعة من داخل العائلة. وبالرغم من أن المرأة قد تشعر بالاعتزاز
بنفسها بكونها لا تزاول وظيفة الطبخ (كون امتلاك طبّاخ يعتبر مؤشراً
على الوجاهة الاجتماعية)، ولكن مع ذلك تفاخر بنفسها كونها تعرف
المطبخ المكاوي التقليدي.
لقد صدر أول كتاب عن الأكلات السعودية على المستوى الوطني عام
1984. وقد أعدته ست نساء سعوديات من العوائل المعروفة النسب والمقام
الاجتماعي من أجزاء مختلفة من البلاد، ويشتمل على طرق طبخ من مختلف
المدن والمناطق. وللأسف فإنه لا يشار أبداً الى حقيقة أن الأكلات
الحجازية هي الأغنى بين نظرائها، كما لا يشار في الغالب الى جذور ما
يسمى بالأكلات السعودية والبيئة التي خلقت فيها، وهي الجذور الثقافية
والحضارية للحجاز.. سواء كان في الكتب أو وسائل الإعلام الأخرى.
المصدر:
Mai Yamani, You Are What
You Cook: cuisine and class in Mecca, in ed. Sami Zubaida and
Richard Tapper, Culinary Cultures of the Middle East, (London
1994); pp. 173-184 |