تاريخ المكتبات في مكة المكرمة
مكة المكرمة، مهبط الوحي، ومنبع العلم ومنطلق رسالة السماء الى
سكان المعمورة، كانت ومازالت مستودعاً لمختلف المعارف الاسلامية. هذه
المعارف بدأت بتتابع نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم في
كل من مكة والمدينة، وكانت بداية التدوين قد جرت بعد رحيل المصطفى،
حيث جمع القرآن الكريم في مصحف واحد في عهد الخليفة عثمان بن عفان
فكان أول كتاب تضمه المكتبة الاسلامية في الحجاز، ثم تلى ذلك تدوين
الحديث النبوي والسيرة النبوية وبقية العلوم الشرعية وعلم اللغة
العربية والتي تكونت منها منظومةالعلوم التي تضمها المكتبة
الاسلامية. وتنافس الخلفاء والعلماء على تأسيس مكتبات خاصة بهم
وتزويد مكتبات المساجد بما تحتاجه من نسخ للقرآن الكريم، وكتب
الحديث، والفقه الاسلامي والسيرة النبوية. كما إتسعت فيما بعد دائرة
التأليف والتدوين ونسخ الكتب واتسع تبعاً لها حجم المكتبة الاسلامية
وما تحتوي عليه من كتب قيّمة في مختلف المعارف الاسلامية، وتأسست على
أثر ذلك المكتبات الخاصة في المساجد وبيوت الخلفاء والعلماء. وقد
أسهم بعض خلفاء الدولة الاسلامية على مختلف العصور التاريخية في
تأسيس مكتبات عامة مثل: دار الحكمة، وبيت الحكمة، وكانت ترقد بداخلها
آلاف الكتب المخطوطة بيراع الرعيل الأول من علماء المسلمين في شتى
صنوف المعرفة.
لقد كانت مكة المكرمة ولازالت منبعاً للعلم وملتقى العلماء،
فالمسجد الحرام هو أول مراكز الاشعاع العلمي والمعرفي الذي منه انطلق
في الآفاق ليزيح ديجور الجهل، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم
يعلّم الناس فيه ما ينفعهم من أمور دينهم ودنياهم، وإستمر المسجد
الحرام كذلك على مر العصور الاسلامية يؤدي رسالته التعليمية في حلقات
الدرس في مختلف العلوم الاسلامية على يد علماء أعلام ضالعون في علوم
الدين، وكانت لديهم مؤلفاتهم ومكتباتهم الخاصة.
تطور المكتبة الاسلامية
يتفق كثير من المؤرخين والباحثين في شؤون المكتبات الاسلامية على
أن نشأة المكتبة في الاسلام كانت وليدة المسجد وملتحمة به بصورة
وثيقة. ففي المسجد تأسست المكتبة الاسلامية، وكانت تعقد فيه حلقات
الدرس في مختلف العلوم الاسلامية وذلك منذ ظهور الاسلام، فكان المسجد
الحرام بمكة المكرمة والمسجد النبوي بالمدينة المنورة وكذلك المساجد
الأخرى في البلدان المفتوحة، مراكز علم يفد اليها الأفراد والجماعات
لمعرفة الدين الاسلامي وقيم الرسالة، ويتعلمون تلاوة القرآن الكريم
وعلومه وهكذا السنة النبوية المطهّرة والفقه الاسلامي. فكان العالم
يجلس في المسجد الحرام بمكة المكرمة، أو المسجد النبوي الشريف
بالمدينة المنورة، او المسجد الأموي بدمشق وغيرها من المساجد في
مختلف البقاع الاسلامية المفتوحة، ويتحلقون من حوله تلاميذه فيقوم
بتدريسهم علوم الشريعة الاسلامية، وأحياناً يملي عليهم ما وقر في
صدره من علوم الدين والدنيا، وهم يكتبون عنه بالطريقة وحسب المواد
الكتابية المتوفرة لهم في ذلك العصر، ثم يجمعون تلك الآمالي فتصير
كتباً ومؤلفات. ولذلك إنتشرت حلقات الدرس ومجالس الآمالي في جميع
المساجد، وكان من ثمار تلك المجالس ظهور كتب كثيرة بإسم الآمالي، وقد
أفرد لها بعضهم مثل حاجي خليفة فصلاً خاصاً بها في كتابه (كشف
الظنون). ومن أشهر تلك الكتب كتب الأمالي للقالي، وثعلب والزجاج،
وإبن دريد، وبديع الزمان الهمداني.
وفي بداية القرن الثاني الهجري نشطت حركة التدوين التي إهتمت
بالدرجة الأولى بتدوين الأحاديث النبوية، ثم تدوين المغازي والسير،
كونها تعضد بشكل كبير الدراسات القرآنية والأحاديث النبوية. ومن بعد
ذلك، تتابع التأليف في مختلف فروع الدراسات الاسلامية والعربية،
فانتشرت الكتب وتضاعف عددها. وقد إعتاد الكتّاب في معظم الأحيان على
ذكرون الخبر مشفوعاً بسلسلة الأسانيد التي تكشف مدى الثقة به
والإطمئنان له.
وكذلك شهد بداية القرن الثاني الهجري إهتماماً كبيراً بترجمة
الكتب من اللغات الاخرى غير العربية. فإبن جلجل يروي في طبقاته، أن
كتاب أهرن بن أعين في الطب قد ترجم الى اللغة العربية في عهد مروان
بن الحكم، فيما أمر الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه بإخراجه
الى الناس للإنتفاع به. وقد أدى كل ذلك الى إنتشار الكتاب في مختلف
فروع المعرفة الاسلامية. وكما نشأ الكتاب في قاعات الدرس بالمسجد،
كذلك ولدت المكتبة أيضاً في المسجد، فهو مركز العبادة ومنطلق الدعوة
ومنبع الفكر والمعرفة.
ويظهر أن مكتبات المساجد كانت أول المكتبات نشوءا في الاسلام.
فلقد جرت العادة في العصور الاسلامية أن يودع الناس في المساجد عدداً
من نسخ القرآن الكريم وغيره من كتب التفسير والحديث والفقه والعقيدة
التي كتبها أو ألفها الرعيل الأول من علماء الاسلام، كيما تكون تلك
الكتب في متناول المتطلعين للمعرفة الدينية من مصلّين ومطالعين
ودارسين. فإضافة الى كونه مكاناً للعبادة، فقد كان المسجد مكاناً
للدراسة على مختلف مراحلها وفروعها، ولم يبدأ إنفصال التدريس عن
المسجد إلا في عصور متأخرة، أي مع بداية نشأة المدارس النظامية منذ
منتصف القرن الخامس الهجري. على أنه بالرغم من إنشاء هذه المدارس،
الا أن المسجد أخذ في أداء رسالته العلمية، كما كان يحدث في المسجد
الحرام بمكة المكرمة والمسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة،
والمسجد الأقصى بالقدس، والمساجد الأخرى في الأقطار الإسلامية ذات
المراكز العلمية، كالأزهر بالقاهرة والمسجد الأموي بدمشق، ومساجد
بغداد وتونس والمغرب والأندلس واليمن وغيرها.
وكانت توجد في معظم المساجد الكبرى مجموعات ضخمة مهمة من الكتب
الخطيّة تشمل مختلف فروع المعرفة الاسلامية من دراسات قرآنية وكتب
الحديث والفقه الاسلامي والعقيدة والسيرة النبوية واللغة العربية
وآدابها والتاريخ الاسلامي، أمدّها علماء المسلمين بدراساتهم
وإنتاجهم الفكري على مر العصور.
وقد إعتاد كثير من العلماء على أن يوصوا ببعض الكتب أو بمكتباتهم
جميعها كوقف في مسجد قريتهم أو مدينتهم. ويذكر إبن خلكان أن أبا نصر
أحمد بن يوسف السليكي المنازي (توفي سنة 437هـ) جمع كتباً كثيرة ثم
أوقفها على جامع ميافدقين، وجامع آمد، وحتى أيامه كانت تلك الكتب لا
تزال موجودة بخزائن الجامعين ومعروفة بكتب المنازي. كما أن بعض
الخلفاء والأمراء على طول تاريخ المسلمين إعتادوا أن يوقفوا أشياء
كثيرة على المساجد، إبتغاء الأجر، ومن جملة هذه الأشياء ''الكتب
الخطية''.
وعندما نقرأ في تاريخ المكتبات في مكة المكرمة فإننا نجد أن
كثيراً من الكتب كانت موضوعة في دواليب في دائرة حائط المسجد الحرام
بمكة المكرمة وغيره من المساجد في هذه المدينة المقدّسة. كما كانت
نسخ منها محفوظة عند الأهالي في مكتباتهم الخاصة، وفي مكتبات الأربطة
أو قصور الحكام والأمراء. ولم يكن لهذه الكتب والمصاحف المنتشرة في
المسجد الحرام والمساجد المحيطة به في العصور الاسلامية أماكن مخصصة
لحفظها أو فهارس تدوّن فيها أسماءها وأسماء مؤلفيها ليسهل الرجوع
إليها والاستفادة منها كما هو الحال في العصر الحاضر، مما عرّض
الكثير منها للضياع والتلف وعبث العابثين، وعوارض الزمان كالسيول.
ويظهر أن الإهتمام والمحافظة على تلك الكتب يختلف من عصر الى آخر،
خاصة إذا ما تعرضت البلاد الى أزمة سياسية أو إقتصادية، تجعلها تعيش
فترة من الاضطرابات وعدم الاستقرار السياسي، مما يعرض الكثير من هذه
الكتب للسرقة والضياع. وكذلك فإن السيول التي كانت تتعرض لها مكة
المكرمة بين حين وآخر وخاصة تلك السيول التي كانت تدخل المسجد الحرام
لعدم وجود شبكة تصريف لمياه السيول في تلك الأزمنة، ولوقوع المسجد
الحرام في بطن وادي إبراهيم عليه السلام، كل ذلك أدى في غالب الأحيان
الى تعرض تلك الكتب الخطية النادرة الى التلف، وبسبب السيول فقدت مكة
المكرمة كنوزاً ثمينة من المعرفة.
ولذلك يواجه الباحث بصدمة ندرة المعلومات حول كثير من المكتبات
التي إندثرت مع أن المؤرخين ذكروا في مؤلفاتهم الكثير عن المدارس
وبيوت العلم التي كانت منتشرة في مكة المكرمة، كما أنهم كتبوا عن سير
العلماء وحلقات الدرس في مختلف العلوم الاسلامية والتي كان يعقدها
العلماء في المسجد الحرام، ولكن ما هو ساقط عن قصور أو تقصير في
تورختهم هو المكتبات الخاصة بتلك المدارس وبيوت العلم أو تلك
المكتبات الخاصة التي يقتنيها علماء مكة، هل لأن ذلك نابع من إحساسهم
بأن وجود المدارس أو العلماء يوجب بالتأكيد وجود الكتب؟ ربما، ولكن
هذا الاعتقاد يستند على حقيقة تاريخية وهي العلاقة الوثيقة بين
المسجد وحلقات الدرس والمكتبات، لأنها هي المنهل الذي يستمدون منه
معلوماتهم في مختلف فروع المعرفة وفيها يضعون خلاصة عمرهم وعصارة
فكرهم. كما أنه يمكننا الاستدلال على وجود الكتب والمكتبات من خلال
ما دوّنه بعض مؤرخي مكة المكرمة عن السيول التي دخلت المسجد الحرام،
وكان من جملة ما أتلفته خزائن الكتب الموجودة في داخل المسجد الحرام
وفي المدارس المحيطة به.
وبتتبع كتب التاريخ التي تحدثت عن مكة المكرمة من قريب أو بعيد
نجد أن أقدم المكتبات الخاصة في مكة المكرمة هي مكتبة الأمير شرف
الدين والتي تأسست في عام 367هـ الموافق 977م. وكانت هذه المكتبة
جزءا تابعاً للمدرسة التي أسسها في أحد البيوت المطلّة على الحرم
المكي الشريف قرب باب السلام، وقد جلب لها مؤسسها كتباً خطيّة كثيرة
في مختلف العلوم الاسلامية.
كما أن الملك الأفضل علي بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب
صاحب دمشق أمر ربيع بن عبد الله بن محمود المارواني بإنشاء رباط في
محلة أجياد بمكة المكرمة في عام 594هـ/1197م، جعل فيه مكتبة صغيرة،
ووضع فيها نفائس من الكتب الخطية مثل ''المجمل'' لإبن فارس، وكتاب
''الإستيعاب'' لإبن عبد البر. وكان هذا الرباط من أزخر أربطة مكة
وأحفلها بالكتب في تلك الفترة وقد عرف هذا الرباط برباط ربيع، نسبة
الى ربيع المارواني.
وعندما أسس السلطان شرف الدين إقبال الشرابي العباسي المدرسة
الشرابية بمكة عام 631هـ الموافق 1233م، بالقرب من المسجد الحرام
والمطلة عليه، على يمين الداخل الى المسجد الحرام من باب السلام، جعل
بها في عام 641هـ مكتبة كبيرة أهدى لها عدداً كبيراً من الكتب
الخطيّة القيمة ليفيد منها طلاب العلم والعلماء في هذه المدينة.
ويظهر أن الكتب في هذه المدرسة ضاع معظمها مع الزمن نتيجة السطو،
ولم تبق منها الا المدرسة دون مكتبتها القيمة، حيث يذكر قطب الدين
الحنفي النهروالي، المتوفي في حدود سنة 990هـ أن كتب هذه المكتبة لا
زالت موجودة في عصره، ولكن كتبها ''قد ذهبت شذر مذر والمدرسة صارت
رباطاً'' كما يقول النهروالي في كتابه (الإعلام بأعلام بيت الله
الحرام).
ويظهر أن الكتب في هذه المدرسة ضاع معظمها مع الزمن نتيجة السطو،
ولم تبق منها الا المدرسة دون مكتبتها القيمة، حيث يذكر قطب الدين
الحنفي النهروالي، المتوفي في حدود سنة 990هـ أن كتب هذه المكتبة لا
زالت موجودة في عصره، ولكن كتبها ''قد ذهبت شذر مذر والمدرسة صارت
رباطاً'' كما يقول النهروالي في كتابه (الإعلام بأعلام بيت الله
الحرام).
وأوقف الشيخ أحمد بن سليمان التروجي المتوفي سنة 812هـ الموافق
1409م قبل وفاته كتباً كثيرة لرباط الخوزي بمكة. وكذلك قام الشيخ علي
بن محمد بن سند المتوفي سنة 827هـ/1423م بإهداء بعض الكتب القيمة
للرباط نفسه.
وفي أوائل العقد الثالث من القرن التاسع الهجري أمر ملك بلاد فارس
السلطان شاه شجاع بإنشاء مبنى واسع عام 827هـ تجاه باب الصفا وجعله
رباطاً لسكن المجاورين أوقف فيه كتباً كثيرة في مختلف العلوم
الاسلامية، كيما يستفيد منه سكان الرباط من المجاورين وطلاب العلم.
وخلال النصف الأول من القرن التاسع الهجري كانت توجد بمكة المكرمة
مكتبة قيمة وهي مكتبة العالم تقي الدين الفاسي المؤرخ المكي المعروف،
وكان بها عدد كبير من نفائس الكتب. وعندما توفي في سنة 832هـ/1428م
تولى أخوه لأمه الخطيب أبي اليمن النويري الوصاية على المكتبة. على
أن ما يؤلم حقاً أن هذه المكتبة حين وقعت تحت يد الأخير الذي كان
جاهلاً بالكتب، فضاع أكثرها بسبب الاعارة، ثم صارت هذه المكتبة بعد
مدة قصيرة نسياً منسياً.
وفي عام 882هـ/1477م أسس السلطان قايتباي سلطان مصر المملوكي
الجركسي مدرسة بمكة المكرمة سميت بإسمه، وأمر أن يدرس بها الفقه على
المذاهب الأربعة السنية، وكانت هذه المدرسة مطلّة على المسجد الحرام،
على يمين الداخل الى المسجد الحرام من باب السلام، وجعل بها مكتبة
كبيرة ضمن مجموعة كبيرة من الكتب الخطيّة القديمة، وقد جعل لها
مؤسسها خازناً ليشرف على تنظيمها وحفظها، وأعد لها سجلاً دونت فيه
أسماء الكتب الموجودة في المكتبة، وكادت أن تلقى هذه المكتبة نفس
مصير ما سبقها من مكتبات، خاصة وقد تسللت اليها أيدي المستعيرين،
فضيعوا منها جانباً كبيراً ولم يبق سوى ثلاثمائة مجلد، لولا أن
تداركها قطب الدين الحنفي النهروالي صاحب كتاب ''الإعلام بأعلام بيت
الله الحرام'' حيث قام بصيانة هذه الكتب، وأكمل ما نقص منها، وجلد ما
يحتاج منها الى تجليد، ثم أعادها الى الوقف.
وخلال النصف الثاني من القرن التاسع وطوال القرن العاشر الهجريين
وجدت بمكة المكرمة مكتبات أخرى أسسها علماء المسجد الحرام، ومن هذه
المكتبات على سبيل المثال لا الحصر مكتبة أسرة آل فهد، وهي من أشهر
الأسر المكيّة التي أشتهرت بكثرة العلماء.
فقد كانت للشيخ عبد العزيز بن عمر (850 ـ922هـ) مؤلف كتاب ''بلوغ
القرى''، مكتبة كبيرة ورثها عن والده وحصل على كتب أخرى عن طريق
الشراء أو الإرث. كما كان للشيخ جار الله بن العز بن نجم بن فهد
المكي (891ـ954هـ) مكتبة كبيرة ورثها عن والده النجم بن فهد، وكانت
تجمع الكتب التي ألفها آل فهد عن مكة المكرمة والتي تتحدث عن تاريخ
مكة المكرمة، والمسجد الحرام وعلمائه ورجال مكة وأوديتها وسكانها،
وكل ما يتعلق بذلك من حياة إجتماعية وسياسية وعمرانية. وبذلك يمكن
القول بأن أفراد أسرة آل فهد قد جمعوا أعداداً كبيرة من الكتب،
وكانوا يتوارثونها جيلاً بعد جيل، وقد أشاد المؤرخ السخاوي المصري
الذي كانت تربطه صلة قوية بهذه الأسرة، بمكتباتها والاشادة بما تحويه
هذه المكتبات من مخطوطات والتي كان السخاوي نفسه قد أفاد منها.
وكان للشيخ قطب الدين بن محمد بن أحمد النهروالي المكي
(917ـ990هـ) مكتبة كبيرة في مكة المكرمة. وكتب وصفاً حادث احتراق
المكتبة مع بيته بما نصه:''مما وقع من افتقاد الله تعالى لي، انني
توجهت ليلة الثلاثاء تاسع عشر ربيع الأول سنة تسع وخمسين وتسعمائة
الى بركة ماجد مع بعض الأصحاب للتنزه، فوقع الحريق في داري بمكة، لا
أدري كيف وقع، غير أنه إبتدأ من القاعة التي بها أسبابي ومكتبي،
وكانت زهاء ألف وخمسمائة مجلد من نفائس الكتب التي ملكتها، وورثت
بعضها عن أبي ـ رحمه الله ـ فذهبت كلها، وذهب جميع ما في البيت من
جليل وحقير، ولم يسلم لي غير الثياب التي على بدني، ولم يتمكن العيال
والأولاد ـ وقد كانوا في السطوح ـ أن ينزلوا من الدرج، بل تسلقوا الى
سطح الجيران وتوجهوا الى الباسطية، وسلم جميع أولادنا وعيالنا
وخدمنا، ولله الحمد والمنة، فعزمت على السفر الى المدينة، وقد جبر
الله تعالى علي وعوضني خيراً مما أخذ من الكتب والأسباب وغير ذلك.
وقد وصفه الشوكاني في كتابه ''البدر الطالع'' قائلاً ''وكانوا ـ
أي الأتراك ـ يعطونه العطاء الواسع، وكان يشتري بما يحصل منهم نفائس
الكتب، ويبذلها لمن يحتاجها من العلماء وطلال العلم للاستفادة بما
تحمله من علوم مفيدة، واجتمع عنده من هذه الكتب الخطية القيّمة ما لم
يجتمع عند غيره''.
يضاف الى هذا أن الشيخ القطبي بحكم مقامه الاجتماعي، تسنمه وظائف
كبيرة في مكة، كان على صلة بالمكتبات الموجودة في الحرمين الشريفين،
وكان يستنسخ منها ما يريده من كتب ويضمها الى مجموعة كتبه. ومن تلك
المكتبات، مكتبتان كان أنشأهما السلطان قايتباي سنة 882هـ في كل من
مكة المكرمة والمدينة المنورة. وكانتا تضم عدداً من كبيراً من الكتب
الخطيّة القيّمة في شتى المعارف الاسلامية واللغة العربية، والسيرة
النبوية، والتاريخ الاسلامي. وقد تحدث القطبي نفسه عنهما فقال عن
إستمرار مكتبة مكة التي أنشأها قايتباي:''وقد استولت عليها أيدي
المستعيرين وضيعوا منها جانباً كبيراً وبقي منها ثلاثمائة مجلد،
وجلدت منها ما يحتاج الى تجليد، واستخلصت بعض ما وجدته، وأعدته الى
الوقف صانه الله''. وقد انتقلت مكتبة القطبي الى أخيه الشيخ عبد
الكريم الذي ضمها الى مكتبة والده، ويقال أنه كان فيها آنذاك حوالي
أربعة عشر ألف مجلد.
على أن المعلومات عن هذه المكتبة غير متوفرة، الا أن من المؤكد
أنها كانت تحتوي على مجموعات طيبة من نفائس الكتب في مختلف العلوم
الاسلامية. وربما نقل بعضها الى خارج الحجاز، ومما يؤكد ذلك قيام بعض
سلاطين الدولة العثمانية في الفترة الأخيرة من حكمهم بجمع الكتب
الموجودة في أروقة المسجد الحرام بمكة المكرمة أو المساجد الأخرى، أو
في المكتبات الخاصة ووضعها في مكتبة عامة هي التي عرفت أخيراً بمكتبة
الحرم المكي الشريف.
وتعتبر مكتبة الحرم المكي الشريف المكتبة الأم للمكتبات الاسلامي،
ويذكر أنها كان توجد بها خزائن تحتوي على أعداد كبيرة من المصاحف
والكتب الخطية وضعت حول محيط أروقة المسجد الحرام، وأن سيلاً عظيماً
ضرب المسجد الحرام عام 417هـ/1026م ووصل الى هذه الخزائن فأتلف
كثيراً من تلك الكتب الخطية النادرة. وهذا يدل على أن وجود الكتب في
المسجد الحرام كان موجوداً منذ القرن الخامس الهجري (الحادي عشر
الميلادي). وكان العلماء وأئمة الفقه يوقفون كتباً على هذه المكتبة
كما فعل الامام المالكي الشيخ أبا عبد الله محمد بن عبد الله بن فتوح
المكناس أوقف في عام 488هـ/1095م على هذه المكتبة كتاب (المقرب) في
ستة مجلدات لمؤلفه محمد بن عبد الله بن أبي زمنين المالكي، ليقوم
علماء المذاهب الأربعة بدراسته على طلابهم في حلقات المسجد الحرام.
وكان هذا مسلك غالبية علماء المسلمين والخلفاء والأمراء في مختلف
أقطار الدولة الاسلامية، وذلك حتى يستفيد منها العلماء في دروسهم.
وقد إهتم سلاطين الدولة العثمانية بإثراء هذه المكتبة ورعايتها
فقد أمر السلطان عبد المجيد العثماني عام 1256هـ/1841م بالاهتمام
بالمصاحف والكتب الموجودة داخل المسجد الحرام وفي مكتبات المدارس
والأربطة المحيطة به وتجميعها في مكتبة (كتبخانة) في داخل المسجد
الحرام، فكانت تجمع فيها جميع الكتب الموجودة في المسجد الحرام وبعض
مكتبات المدارس المحيطة به مثل المدرسة الشرابية. وذلك من أجل أن
تكون مرجعاً علمياً يرجع الى كتبها العلماء وطلبة العلم، كما أرسل
السلطان عبد المجيد مجموعة مختارة من الكتب الخطيّة والمطبوعة بلغ
عددها (3653) كتاباً مجلداً تجليداً فاخراً، فوضعت جميع الكتب التي
أرسلها من أسطنبول أو التي جعت من داخل المسجد الحرام ومن خارجه في
القبة التي كانت في الساحة (الحصوة).
ومن بين السلاطين العثمانيين الذين أولوا إهتماماً خاصاً بمكتبة
الحرم المكي السلطان عبد الحميد الثاني (1293ـ1327هـ/1876ـ1909م)،
والذي أعطى مكتبة الحرم جزءاً خاصاً من إهتمامه الشخصي في سياق رغبته
في إحكام قبضته على منطقة الحجاز وبخاصة بعد سقوط مصر في يد
الاستعمار البريطاني عام 1882.
وهكذا نجد أن مكتبة الحرم المكي ورغم السيول والاهمال وضياع بعض
مقتنياتها ونفائسها الثمينة بسبب الاعارة، فإنها إستطاعت أن تصمد في
وجه الزمن وأن تبقى حافظة أمينة لمعارف وعلوم الاسلام وأعلام الأمة. |