أوقاف الحرمين الشريفين: أهميتها ودورها
مها اليزيدي
للحرمين الشريفين أهمية تاريخية ودينية، وقد كان المسجد
الحرام ومازال مقصد الناس منذ مئات السنين. وأكدت الآيات
القرآنية والأحاديث النبوية فضل الحرمين الشريفين؛ ومن
هنا أصبحا مهوى أفئدة المسلمين. ولذلك حظيا باهتمام المسلمين
الذين وقفوا عليهما أوقافاً كثيرة في مختلف العصور الإسلامية.
الوقف لغة: مصدر وقف يقف. وله معان عديدة، حقيقة ومجازية،
منها: المنع، والقطع، والحبس. وفعله لازم ومتعد حسب الأحوال.
والوقف شرعاً: حبس العين الموقوفة على مل لله تعالى،
وصرف منفعتها على من أحبه الواقف. وقد ثبتت مشروعيته،
واستحبابه، وترغيب الشارع فيه، بأدلة كثيرة من الكتاب
والسنة الصحيحة من قوله صلى الله عليه وسلم وفعله وتقريره.
ويعود الوقف في الإسلام الى أصول أربعة: أولها، فكرة
الصدقة الجارية الواردة في الحديث عن النبي صلى الله عليه
وسلم. والثاني، ما أثر عنه صلى الله عليه وسلم من صدقات
قبض عنها. والثالث، الحديث الذي رواه البخاري ومسلم، عن
نافع بن عبدالله بن عمر، بشأن وقف عمر بن الخطاب رضي الله
عنه، في سنة 7هـ/ 628م، وهو أول من وقف من الصحابة رضي
الله عنهم. والرابع، ما ثبت من أن الصحابة قد وقفوا، ومنهم
عثمان وعلي رضي الله عنهما.
يمكن تقسيم الوقف الى نوعين: خيري وأهلي. وهذا التقسيم
لم يكن موجوداً في صدر الإسلام، بل كان الوقف يسمى صدقة،
إلا أن مفهوم هذين النوعين كان موجوداً، وإن لم يطلق عليهما
الأهلي والخيري. ولما كان الوقف باعتباره صدقة موصولا
أثرها في حياة صاحبها، وبعد المات، وقربة يتقرب بها المسلم
الى الله تعالى، واقتداء بفعل رسول الله صلى الله عليه
وسلم، حرص كثير من المسلمين على فعل الخير، حكاماً وأفراداً،
وأغنياء وفقراء. فكانوا يحبسون الأوقاف ويخصصون ريعها
في تأمين الدعم المادي لسكان مكة المكرمة والمدينة المنورة،
ومصالح المسجد الحرام، والمسجد النبوي الشريف.
بدأ الإهتمام بالحرمين الشريفين منذ عهد الخليفة عمر
بن الخطاب رضي الله عنه (ت 23هـ/ 643) الذي وقف الكثير
من الأراضي التي فتحت بالقوة، وأصبحت تعامل معاملة الوقف
تماماً، وخصص ريعها لعموم منفعة المسلمين، ووفق ما يجتهد
حاكم الدولة الإسلامية.
وقد استمر خلفاء بني أمية بالوقف على الحرمين الشريفين،
وتوفير المياه الصالحة للشرب والإستعمالات البشرية، ابتداءً
من عهد الخليفة معاوية بن أبي سفيان (ت 60هـ/ 679م) وطوال
العصر الأموي؛ إذ إن عامة المقتدرين من الصحابة قد باشروا
وقف أموالهم، أو جزء منها على الحرمين الشريفين. كما أبدى
خلفاء بني العباس اهتماماً كبيراً بالأوقاف وتنميتها وتنوعها.
فأبو العباس السفاح (ت 136هـ/ 753م)، افتتح أعماله في
نطاق البر والأوقاف، بأن أمر بضرب المنار على طريق الحج
الذي يربط الكوفة بمكة المكرمة والمدينة المنورة. كما
يُذكر أن أبا جعفر المنصور (ت 158هـ/ 774) كان قد وقف
الأوقاف على أهل المدينة المنورة؛ وسار على نهجه بقية
الخلفاء العباسيين. وكانت هناك منافسة حادّة بينهم وبين
الأمراء من الأسرة العباسية في أعمال البر وإشاعة الأوقاف
على الحرمين الشريفين، حيث لم يقتصر أثرها على الحج والحجاج
وسكان الحرمين الشريفين، بل شمل التعليم، في مراحله المختلفة،
وأهدافه المتعددة، والصحة العامة، وما الى ذلك.
في العصرين الأيوبي والمملوكي، تجلى هذا الإهتمام فيما
يرسل مع قافلة الحج المصرية لصيانة وتجميل الحرمين وإدارتها،
وما كان يرسل اليهما في صورة مخصصات للأهالي والمجاورين،
وغير ذلك من النفقات، مثل كسوة الكعبة، وكسوة الحجرة النبوية
المشرفة، وخدمة الحرمين، وما إلى ذلك.
ازدهرت الأوقاف بصورة كبيرة في العصر المملوكي، لازدياد
قوة المشاعر الدينية، ولأن الطابع الديني قد غلب على حياة
ذلك العصر، فوجدت هذه الرغبة في فعل الخير والتصدق متنفساً
لها في نظام الأوقاف، فبادر الخيرون الى وقف الأوقاف من
مبان وأراض وغيرها على مختلف الأغراض الخيرية التي تعود
على المجتمع بالخير العميم، تقرّباً الى الله تعالى.
إن مما ساعد على انتشار الأوقاف في العصر المملوكي،
المنافسة بين السلاطين والأمراء وغيرهم من الشخصيات الكبرى
على تشييد المساجد والأسبلة والمدارس وغيرها، ورصد الأوقاف
عليها، ويدل على قوة هذا الشعور الخير، كثرة الأوقاف على
مصالح الحرمين الشريفين وأهاليهما، وإنشاء المساجد والأسبلة
والمدارس بهما، وتسهيل تأدية فريضة الحج، ولاسيما لغير
القادرين.
من أبرز تلك الأوقاف وقف السلطان برسباي (ت 841هـ/
1427م)، ووقف الدشيشة الكبرى، الذي يعد من أكبر الأوقاف
المخصصة لأهالي الحرمين الشريفين في مصر. ويقصد بالدشيشة،
القمح الذي يرسل سنوياً الى الحرمين فيعمل طعاماً للفقراء،
يجرش ويدش ويطبخ ويفرق عليهم.
واستمر الإهتمام بهذه الأوقاف في العصر العثماني حيث
أبقى السلطان سليم الأول (ت 926هـ/ 1519م) أوقاف الجراكسة
عموماً، وأضاف الى وقف الدشيشة العديد من القرى والضياع،
وسار على نهجه السلطان سليمان القانوني (ت 974هـ/ 1566م)
الذي ضم الى هذا الوقف بعض الأوقاف الأخرى. كما أن السلطان
مراد الثالث (ت 1003هـ/ 1594م) أضاف في عام 991 هـ/ 1583م
الى هذا الوقف عدداً من الضياع والأراضي المزروعة.
بعض الأمراء والأعيان، في العصر العثماني، أضافوا للدشيشة
الكبرى أيعاناً موقوفة. ومن أمثلة ذلك أن الأمير فرحان
آغا وزوجته السيدة زليخا، وقفاً بالقاهرة عقاراً يبلغ
ريعه مائتين وسبعين نصف فضة سنوياً. كذلك خصصت السيدة
خاتون بنت عبدالله وقفاً آخر بلغ ريعه مثل ذلك. وهناك
الكثير من الوثائق التي تشير الى اتساع وقف الدشيشة الكبرى
في العصر العثماني.
من أبرز أوقاف السلاطين المماليك وقف السلطان قايتباي
(ت 901هـ/ 1495م) كان في شكل وكالة وحوانيت بباب النصر،
يصرف ريعها في مصالح الحرمين الشريفين، ولعمل الدشيشة
لأهالي المدينة المنورة.
ويعود تاريخ أوقاف هذا السلطان الى ما بعد رجوعه من
حجة عام 884هـ/ 1479م، حيث شرع في شراء عدة أماكن، ووقفها
ليحمل ريعها الى المدينة المنورة. ذكر السمهودي أن (متحصلها
سبعة آلاف أردب وخمسمائة أردب من الحب في كل سنة)، كما
كان لقايتباي عدة منشآت بمكة، مثل الرباط الذي خصصه للفقراء
الأعراب والطلبة. بالإضافة الى درسة وميضأة، وسبيل، ومكتب
للأيتام. ووقف على مجموعته تلك أوقافاً هي ربوع ودور بمكة
المكرمة بلغ ريعها سنوياً نحو ألفي دينار، فضلاً عن ضياع
وربوع وحوانيت وقفها بمصر، وكان يرسل ريعها جميعاً حبوباً
أو نقداً الى مصالح المنشآت المذكورة، وعمل الدشيشة لمن
يسكنها.
لم يقتصر الأمر على السلاطين في اهتمامهم بالحرمين
الشريفين، بل سار الأمراء على سيرة سلاطينهم وحرصهم على
ذلك. ومن أمثلة ذلك وقف الأمير صارم الدين إبراهيم ابن
الأمير شمس الدين علي الخزعلي، الذي وقف عام 880هـ/ 1475م،
بعض الأوقاف وجعل ريعها وقفاً على فقراء الحرمين الشريفين
والمسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف بالسوية بينهما.
وكذلك الأمير يشبك بن مهدي الدوادار الذي وقف عام 885هـ/
1480م وقفاً خصصه لفقراء ومساكين المدينة المنورة.
ونتيجة لازدهار الأوقاف في العصر المملوكي تنوعت الأعيان
الموقوفة، وكذلك الفئات الموقوفة عليهم. وكان من أهم ما
وقف في هذا العصر الأراضي الزراعية، والعقارات، التي شملت:
المدارس، والقصور، والدور، والفنادق، والعقارات، والربط،
والخانات، والسبل، وأحواض الدواب، ومعاصر الزيت، والحمامات،
والطواحين، والأفران، ومخازن الغلال، وغيرها مما ورد في
وثائق الواقفين في ذلك العصر. فلم تنته حقبة المماليك،
إلا كان ما يقارب نصف أراضي مصر أوقافاً، بحيث كان نسبتها
عند دخول العثمانيين اليها، حوالي عشرة قراريط من 24 قيراطاً،
الى جانب مباني القاهرةة والفسطاط التي كان أكثرها أوقافاً.
اتسع نطاق الوقف في عصر الدولة العثمانية، وذلك لإقبال
السلاطين والأمراء والأعيان عليه، وأصبحت له تنظيمات خاصة
به، وصدرت تعليمات متعددة لتنظيم شؤونه، وبيان أنواعه،
وكيفية إدراته.
ولشدة اهتمامهم بالحرمين الشريفين والوقف عليهما، أنشأت
الدولة في عام 995 هـ/ 1586م إدارة خاصة بالحرمين الشريفين،
عرفت باسم (نظارة الحرمين)، مهمتهما ادارة الأوقاف الخاصة
بهما. وقد ازدادت أهميتها بعد ازدياد اوقاف السلاطين العثمانيين
وزوجاتهم، وما وقفه أغوات دار السعادة، والشخصيات المهمة
في الدولة، على الحرمين الشريفين.
الدولة العثمانية عندما طبقت نظام الأوقاف، أقرت بعض
الأوقاف المملوكية في بعض البلدان مثل مصر والحجاز، وأضافت
اليها بعض العقارات الأخرى. من أبرز أوقاف العثمانيين
على الحرمين الشريفين، وقف السلطان محمد بن مراد الثالث
(ت 1012هـ/ 1608م) الذي عرف وقفه بالمحمدية، تشريفاً لمؤسسه
ولابنه السلطان أحمد الأول (ت 1026هـ/ 1617م) اللذين خصصا
وقفهما في الإنفاق على الحرمين الشريفين وسكان مكة المكرمة
والمدينة المنورة.
وكان للسلطان مصطفى (ت 1032هـ/ 1622م) وقف كبير على
الحرمين الشريفين، وكان يرسل من ريعه كل عام مبلغ 15 ألفاً
نصف فضة.
يعلق محمد أمين المكي على ضخامة تلك الأوقاف بقوله:
(ليس هناك أحد من الملوك المسلمة باستثناء الخلفاء الراشدين
وعمر بن عبدالعزيز إلا السلاطين العثمانيين من أسس أوقافاً
ضخمة للحرمين الشريفين).
بالإضافة الى ذلك فإن الأمراء والأعيان اتبعوا سلاطينهم،
فوقفوا الكثير من الأراضي الزراعية والعقارات المبنية،
وخصصوا ريعها لأهالي الحرمين الشريفين. من أبرزها وقف
علي باشا السبكي (ت 967هـ/ 1559م)، الذي خصص في ريع وقفه
7500 نصف فضة لأهل مكة المكرمة، و12500 على أهل المدينة
المنورة. الأمير عبدالرحمن كتخذا (ت 1190هـ/ 1776م) الذي
يعد من أهم الأمراء الذين اهتموا بالمقدسات الإسلامية،
كان يرسل سنويا الى مكة المكرمة والمدينة المنورة 20698
نصف فضة، مع أمير الحاج المصري.
من خلال وثائق الوقف، يتضح أن أغلب الأقاليم التي اشتهرت
بأوقاف حكام الدولة الإسلامية، على مر العصور، هي مصر
والشام وتركيا والحجاز؛ بالإضافة الى أوقاف دول اخرى في
مناطق مختلفة من العالم الإسلامي، منها اوقاف الحرمين
الشريفين في اليمن، حيث لا توجد منطقة من مناطق اليمن
إلا وفيها أوقاف للحرمين. وأكثر هذه الأوقاف في لواء تهامة
ولواء إب. وكان لها إدارة مستقلة عن سائر الأوقاف في ألوية
اليمن وأقضيته ونواحيه، يجمعون أثمان حاصلات تلك الأوقاف،
ثم يرسلونها الى ناظر أوقاف الحرمين في صنعاء، وترسل سنوياً
الى الحرمين. وقيل: إن الوالي العثماني، حسين باشا اعتنى
بتلك الأوقاف، وأصبحت ترسل مع قافلة الحاج اليمني.
في الشام خصصت أوقاف عرفت بالأوقاف الشامية، والأوقاف
الحلبية، كان ريعها مخصصاً لأهل الحرمين الشريفين. ففي
عام 925هـ/ 1519م، فرق القاضي الشافعي النوري ابن ناصر
مبلغاً وصل من نائب طرابلس، وهو 500 دينار، يقال: إنها
بدل وقف جعله لأهل مكة يصل اليهم في كل موسم، لكل قاض
خمسة دنانير أشرفية، وغالب الناس وأرباب الشعائر وغيرهم
من أهل البيت، لكل واحد ديناران أو نصفهما وبعض الناس
نصف دينار.
قام كاتب أوقاف الحرمين الشريفين في الشام، محمد جلبي
القرماني، بتخصيص أوقاف لأهل الحرمين، كان ريعها في كل
عام نحو الفي دينار.
وفي مدينة صيدا أوقاف مخصصة للحرمين الشريفين، مثل
وقف أحمد باشا الذي تضمن مجموعة من الأراضي والساحات والمخازن.
وكذلك وقف مصطفى بك، ووقف أحمد آغا رستم، وأوقاف أخرى
متنوعة.
عدد من سلاطين المغرب وأعيانها وقفوا أوقافاً على الحرمين
الشريفين، منها ما قام به السلطان اسماعيل (ت 1139هـ/
1726م)، بحبس نصف مستفاد غلّة زيتون غابة حمريّة بمكناس
على مكة المكرمة والمدينة المنورة، بنسبة الثلث لمكّة،
والثلثين للمدينة المنورة. كذلك حبس السلطان محمد بن عبدالله
(ت 1204هـ/ 1789م) مبلغاً قدره ألفا دينار ذهباً، من مستفاد
مرسى تطوان، يصرف على كل من له وظيفة بالمسجد الحرام أو
المسجد النبوي، من أعوان، وأئمة، ومدرسين، ومؤذنين، وفراشين،
وغيرهم. كما حبس مبلغاً قدره ستة آلاف ريال فضّة لأهل
الحرمين من مستفاد بعض الثغور.
حُبست أعيان مختلف للصرف على فئات معينة من المجاورين.
فالمؤرخ عبدالرحمن السعدي يذكر أن الأسكيا محمد بن أبي
بكر الطوري، حجّ في السنة 902هـ/ 1496م، واشترى جناناً
حبسها على أهل التكرور. واستفاد الكثير من الشناقطة من
الأوقاف الحجازية، وبما أنهم غرباء عن وطنهم، فهم كانوا
في حاجة ماسّة الى موارد الأوقاف التي يصبح يعوّل عليها
المهاجرون من سكان الحرمين، خصوصاً وأن مؤسسة الأوقاف
لم تكن معروفة عند الشناقطة في بلادهم.
في سجلات أرشيف الجزائر، وما ورد فيها تحت عنوان (مداخيل
الحرمين الشريفين أو شركة الحرمين الشريفين) قدّر قنصل
فرنسا، في عام 1252هـ/ 1836م، عدد أحباس هذه المؤسسة بحوالي
1558 عقاراً، وهي بذلك تعادل ثلاثة أرباع مجموع العقارات
المحبسة في الجزائر المدينة، والتي قدّرت مداخيلها في
ذلك العام بقيمة 43223 فرنكاً فرنسياً.
أما في تونس فتتعدد الأوقاف، وتتفاوت من جهة الى أخرى.
فكان تشتمل على رباع وعقارات حبسها أصحابها على مكة المكرمة
والمدينة المنورة، ويتولى وكيل الحرمين كرائها بمقتضى
عقود. وكانت أغلبة منحصرة بحاضرة تونس، الى جانب رباع
محدودة ببعض المدن الأخرى كسوسة وبنزرت والمنستير.
المساعدات الناتجة عن الأوقاف بصورة عامة أخذت أشكالاً
وأنواعاً مختلفة، فمن ذلك توزيع المساعدات النقدية، وقد
ذكرت أمثلة على ذلك. ومن هذه المساعدات ما كان عينياً
كأنواع معيّنة من الأقمشة والأغذية. ومن أبرز الأمثلة
على ذلك، صدقة الحبّ، التي يعود تاريخها الى السلطان سليم
الأول (ت 926هـ/ 1519م)، ففي عام 924هـ/ 1518م، وصلت الى
جدة سفن من السويس تحمل سبعة آلاف أردب من القمح منها
خمسة آلاف لأهل مكة المكرمة، والباقي لأهل المدينة المنورة.
وكانت مصر ترسل من الأوقاف الخيرية الموقوفة على اهالي
الحرمين الشريفين من الغلال لوقف المحمدية، ما مقداره
20789 اردب من القمح، ولوقف المرادية 3840 اردباً، ولوقف
الدشيشة الكبرى 33333 اردباً وثلث اردب، وكانت جميعها
تحت اسم قرى الدشيشة.
ويذكر ابراهيم رفعت باشا أن ما كانت ترسله مصر الى
الحرمين الشريفين كان يبلغ 20235 اردباً من القمح، منها
8519 اردباً لأهالي المدينة المنورة، والباقي لمجاوري
مكة المكرمة وأهاليها.
هذه مساعدات كانت ترسل وفق تنظيم معيّن عرف في العهد
العثماني بالصرّة، إذ أنها عرفت في مصر وتونس وعموم المغرب
العربي، بأنها الأموال التي تجمع من مختلف الأحباس الموقوفة
في البلاد على الحرمين الشريفين، وتوضع أموال كل وقف في
صرّة ويُكتب محضرٌ عن محتويات هذه الصرّة وعليه الأختام
والشهود، وترسل سنوياً الى أهل الحرمين الشريفين من أهل
الحكام، والسادة، والأشراف، والأعيان، والعلماء، والفقراء.
إلا أن المساعدات العثمانية كانت من أكثر المساعدات
تدفقاً على الحرمين الشريفين، وكانت تتزايد سنوياً. ففي
عهد السلطان بايزيد الثاني (ت 918هـ/ 1512م) بلغت 14000
دينار، صُرف نصفها على فقراء مكة المكرمة، ونصفها الآخر
على فقراء المدينة المنورة. ثم أخذت في التزايد في عهد
خلفائه. فلما آل أمرها الى السلطان سليم الأول أرسل أضعاف
ما كان يرسله الخلفاء من قبله، وجعل لها دفتراً تسجل فيه
العطايا، وقرّر لجماعة من المجاورين مائة دينار لكل شخص.
يعلّق الحموي على تلك الأموال بقوله: (إن النقود الواصلة
الى هذه الأمكنة من جهة السلطان والأوقاف في كل سنة كانت
فوق المائة ألف دينار، بحيث لو فرّقت على وجهها لاستغنى
الفقراء بتلك الأماكن).
من مصر المملوكية كانت ترسل سنوياً صرّة السلطان برسباي
(ت 841هـ/ 1437م) من حاصل أوقافه على الحرمين، وكانت تبلغ
30000 فضة، وهناك الكثير من الوثائق التي تشير الى استمرارها
في العصر العثماني، وكذلك صرّة مال الذخيرة التي تعود
الى ملوك الجراكسة، فأبقاها السلطان الأول على حالها،
وأجراها في كل عام من خزينة مصر. وخصصت لجماعة من المجاورين
بالحرمين مخصصات كانت مائة دينار لكل شخص منهم. وتؤكد
المصادر استمرارها، فبلغت في النصف الأول من القرن العاشر
الهجري/ السادس عشر الميلادي، 32 كيساً مصرياً.
عرفت تونس بإرسالها للصرة منذ قرون، فمنذ ذلك مثلاً
ما أرسله أبو فارس عبدالعزيز الحفصي (ت 1067هـ/ 1656م)
والسلطان محمد باي في عام 1272هـ/ 1855م. وعلى الرغم من
الصعوبات التي كانت تواجهها الدولة، إلا أنها كانت حريصة
على إرسال الصرّة، بالرغم من انقطاعها عدّة سنوات. فحين
تتحسن الظروف، كانت تبادر بتسديد ما بذمّتها، فمن ذلك
أنه في عام 1232هـ/ 1816م، قامت بارسال الصرّة عن خمس
سنوات وبلغ اجمالي ذلك 748 محبوباً.
يشير اليوسي (ت 1102هـ/ 1690م)، الذي زار الحجاز قبل
وفاته، الى أن الصرّة المغربية المرصودة الى الحرمين الشريفين،
كانت تعني ميزانية ضخمة تستفيد منها جميع المؤسسات في
الحجاز، وكانت تصل في كل عام وبانتظام الى كل أسرة وفرد
في مكة المكرمة والمدينة المنورة.
تعددت مصارف أوقاف الحرمين الشريفين، لكنها كانت تجتمع
في ثلاث جهات رئيسية كالتالي: 1/ أوقاف يستغل ريعها للصرف
المباشر على الحرمين الشريفين وعمارتها وموظفيها والعاملين
بها. 2/ أوقاف يستغل ريعها في الخدمات العامة بالمدينتين
المقدستين مثل اصلاح الطرق التي كان يسلكها الحجاج، وتأمينها
من اللصوص وقطاع الطرق، وتوفير المياه وإنشاء المدارس،
والرباطات والبيمارستانات. 3/ أوقاف يستغل ريعها للأهالي
والمجاورين بالحرمين الشريفين.
إن الإهتمام بشؤون الحرمين الشريفين كان في مقدمة أوجه
الصرف من اوقاف الحرمين الشريفين. ومن أهم وثائق السلاطين
في ذلك، حجّة وقف السلطان الأشرف شعبان (ت 778هـ/ 1376م)
على الحرمين الشريفين ورعاية شؤونهما من عمارة وسقاية،
ونشر علم وتعيين أئمة ومؤذنين وخدم في المسجد الحرام،
حتى أنه اهتم بتعيين من يقوم بتطييب الحجرة الشريفية بالمسجد
النبوي، ومن يقوم بحراسة نعال المصلّين على كل باب من
أبواب مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومما أوقف على الحرمين الشريفين، وقف الأمير أحمد ابن
السيفي أرغون شاه، من مجموعة اراض زراعية كان يصرف ريعها
لصالح الحرمين الشريفين، في كل سنة 500 درهم.
أسهمت الأوقاف إسهاماً فعالاً في تدعيم الحرمين إصلاحاً
وتعميراً، كما أسهمت تعليماً، حيث ساعدت في إيجاد جيل
من العلماء والأئمة والخطباء والمحدثين والمؤذنين. وقد
وفرت الأوقاف جل احتياجاتهم بما خصص من ريعها. وتوافر
وسائل المعيشة في المدينتين المقدستين كان سبباً رئيسياً
في أن تزدهر الحركة العلمية فيهما، تؤكد ذلك الكثير من
الوثائق.
من الأغراض التي شملها الوقف، الصرف على الخدمات العامة
في الحرمين الشريفين. فقد أحاط سلاطين وحكام الدول الاسلامية
الخدمات العامة بالحرمين الشريفين بعظيم العناية وتعددت
الأوقاف التي تعود بالخير على النواحي العامة للمقيمين
والوافدين الى الحرمين. من ذلك، الوقف على البيمارستانات،
والرعاية الصحية، والرباطات، والمدارس، والمدرسين، وطلاب
العلم، والمنقطعين، في اجرة حملهم وإطعامهم وكسوتهم، وعلى
تكفين الموتى. ولم يغفلوا توفير المياه، فوقفوا على اصلاح
العيون، وعلى اجرائها، وعلى الأسبلة، وغيرها من الخدمات
العامة.
وبعد وقف السلطان الأشرف شعبان، الذي وقفه عام 777هـ/
1375م، خير مثال على وقف الخدمات العامة، إذ أنه تناول
الصرف على الخدمات العامة بالمدينتين المقدستين، وشمل
الكثير من المناشط العلمية والصحية وغيرها.
تلك الأوقاف قامت بدور كبير في تأمين معيشة الأسر بالحرمين
الشريفين، ووفرت لهم حياة كريمة، بما فيهم المجاورون،
حيث تشير إحصاءات الدفاتر أن هنالك فئات من السكان بمكة
المكرمة والمدينة المنورة كانوا يستفيدون من تلك الأوقاف.
وقعد التصنيف وحصر أسماء هؤلاء، وجد أن أغلبهم كانوا من
المجاورين القادمين من بعض الأقطار الإسلامية، كالهند
وموريتانيا وبلدان شمال إفريقيا، كالمغرب الأقصى وتونسى
ومصر، وهي كلها فئات قدمت مكة المكرمة والمدينة المنورة
للمجاورة، ثم مكنتها تلك الأوقاف من الإقامة والإستقرار
بهاتين المدينتين.
بالإضافة الى ذلك، كان هناك ما ينفق منها على الأشراف،
أمراء مكة المكرمة والمدينة المنورة، حيث شكلت الأوقاف
مورداً مهماً في الإنفاق عليهم ولتصريف شؤون امارتهم.
يضاف الى هذا ما نالوه من الهبات والأموال في صورة إعانات
مالية، أو عينية، فالأموال التي كانت تصل اليهم من السلاطين
والملوك والأمراء وكبار رجال الدولة من مصر ومن سائر البلاد
الإسلامية كانت كبيرة.
أدت الأوقاف رسالتها، وحققت الهدف منها، في كل نواحي
الحياة، إذ عملت على رفع مستوى المعيشة في المدينتين المقدستين،
ووفرت وظائف كثيرة، وأنعشت الأسواق، وخفضت الأسعار، وعم
الخير أهالي الحرمين والمجاورين بهما والوافدين إليهما،
وخاصة الفقراء، والعاجزين، والمنقطعين، والأرامل واليتامى
والمساكين.
إضافة الى ذلك، ساهمت الأوقاف في إثراء الحياة العلمية
في المدينتين المقدستين، حيث أن العلماء والطلاب كانوا
يجدون في الأموال والمؤن وصدقات أهل الخير والأوقاف الدائمة
والمرصودة التي كانت محبوسة عليهم، ما يلبي مطالب حياتهم
ويساعدهم على التفرغ العلمي. وقد اجتذب الحرمان الشريفان
الكثير من العلماء، لا سيما من عصفت بهم المفتن في بلادهم،
ولم يجدوا ملاذاً يؤويهم سوى مكة المكرمة، او المدينة
المنورة، ينشدون فيهما الأمن والإطمئنان، بعيداً عن الفتن
والإضطرابات. وبهؤلاء العلماء حدثت نهضة علمية واسعة،
ما كان لها أن تتم إلا بالأوقاف والأموال التي كان الإنفاق
فيها على التعليم مطلباً رئيسياً.
|