رمضان في الحجاز
عندما يحل شهر رمضان المبارك يجري ترفيع ما تضمه مجالس الاستقبال
ووضعها فوق بعضها البعض كالمساند والطواويل والمخدات المزركشة
والجلايل الرومي بأنواعها لأنه ليس بوسع العوائل في شهر رمضان موالاة
تنظيفها وازالة الغبار الذي يحدث بفعل الهواء الذي يدخل البيوت من
الشبابيك أو الذي ينبعث من الأرض التي يعلوها (الخسف) لأن للصيام
حالاته التي لا تسمح بالانشغال في أمور كهذه لأن فيها شيئاً من
التعب، وفيها شيئاً من التعرض لهذا الغبار وما قد يسببه من مضار لا
تخفى على فطنة القارىء.. وقد كان أهل الحجاز يصنفون أيام شهر رمضان
المبارك على النحو التالي:
عشرة الجزارين: إذ فيها يقبل الناس على شراء اللحوم
بأنواعها..والطيور أيضاً، منها ما هو خاص بـ (الشوربة) التي تصنع
بالحب أو الشعيرية أو الترتر أو الفريك.. ومن اللحم أيضاً ما يؤخذ من
(الهبرة) لفرمها في المنزل ثم يضاف عليها البصل وقليلاً من البهارات
الخفيفة حتى ينضج، وبعد تبريده يضاف عليه البقدونس وبها تصنع
(السمبوسك) بأشكالها المعروفة.. وكذلك لا ننسى التزاحم العجيب على
الفوالين لأن هذا الثلاثي العجيب (الشوربة والسمبوسك والفول) هي قوام
المائدة الرئيسية في المغرب عند الافطار ثم لا تخلو المائدة من
الحلويات مثل: الكنافة أو الغربالية وهو عجين يحشّى بالفستق أو
اللوز، واللقيمات، والطرمبة (بلح الشام).. وكذلك يصنع (اللحوح) في
المنزل ويحشّى باللوز الحجازي أو المكسرات الأخرى وتضاف عليه الشيرة
قليلها أو كثيرها ومن أحلى مظاهر شهر رمضان المبارك الاجتماع العائلي
الذي يدخل البهجة والمسرة في النفوس.
أما السحور فمن الناس من يعتمد على الطبيخ المعتاد في أيام الفطور
وتطبخ الخضروات على أنواعها واللحوم في أشكالها المختلفة كالكباب
والمقلقل والمختوم الممزوج بعصير الباذنجان الأحمر..ومن الناس من
يتخفف في طعام السحور بحيث يضاف عليها طبخة الكشري بالأرز، أو (عصيدة
الخضار) وهي من الشعير ومن نوع خاص ويميل الى اللون الأخضر واللدونة
الطرية، أو المكرونة مضافاً اليها شيئاً من اللحم المفروم والبقدونس
الأخضر واللبن الممزوج بالنعناع الناشف.. وكذلك يضيفون على هذه
المائدة المهلبية ومسماها الاساسي هو (مهلاً.. بي) والمغزى من هذا
الاسم هو أن يترفق الناس في تناولها بحيث لا يأكل الواحد منها نصيبه
ونصيب إثنين أو ثلاثة.. وكذلك (خشاف الزبيب) الذي يغلى ثم يضاف اليه
قليل من النشا لإعطائه شيئاً من التماسك.. وبطبيعة الحال فإن كثيراً
من الذين ينحدرون من الأجناس الأخرى المقيمين في هذا البلد الآمن لهم
طبخاتهم الخاصة ولها لذتها ونكهتها الخامرة..ومن العادات المحببة الى
النفس في هذا الشهر الكريم تبادل العوائل فيما بينهم المأكولات التي
يتم طبخها في المنزل مما يسمى بـ (الطعمة).. (وأصبر يا واد لا تروح
بالصحن فارغ، خليني أحط فيه حاجة.. عيب أيش يقولوا علينا الناس).
ومن الأكلات الشعبية التي يدور بها بائعوها في الحارات والأزقة
رغم إظلامها: المنفوش (وقرمش يا المنفوش).. والبليلة عندما يقول
بائعها (يا بليلة بللوكي..سبع جواري طبخوكي).. والفول والترمس..
و(النافع الله يا حلبه)..وحلاوة غزل البنات في شكل شعر طويل..وحلاوة
المشبك.. وبسطات المقلية والسمبوسك.. و(الفلة) عجين مخلوط بالجبن..
و(اللقيمات) عجين مدور تضاف عليه (الشيرة).. ثم طرأ على الاسواق
(المنتو) عندما وفد من البلاد (البخارية) عندما إقتحمت الشيوعية
أراضيهم وممتلكاتهم وكذلك صناعة التميس التي وفدت.. (وسنو سكين..وسنو
مقص) وأشياء عديدة لا يختص بها شهر رمضان المبارك بل تزداد مظاهرها
في هذا الشهر الكريم.. وكان الناس على مدى الأزمان يحرصون على أداء
صلاة التراويح في المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف والمساجد
الأخرى، ومنهم من كانوا يجتمعون في بيوت بعضهم بعضاً عندما يكون هناك
حفاظ للقرآن الكريم، فيؤدون الصلاة في بيوتهم أو في المساجد المنتشرة
في الحارات وبنفس الطريقة التي تؤدى بها في الحرمين الشريفين..وبعضهم
يؤدونها بتلاوة قصار السور يبدأونها بسورة (التكاثر) وفي الركعة
الثانية يقرأون سورة (الاخلاص) وهي سنّة محمودة سنها سيدنا عمر بن
الخطاب رضي الله عنه وأرضاه..ومازالت هذه السنّة مستمرة حتى الآن..
أما بالنسبة للدوام الوظيفي الرسمي في شهر رمضان..ففي أواخر
الخمسينات وبداية الستينات انخرطت في العمل الوظيفي..وكان العمل
ليلاً من بعد أداء صلاة التراويح حتى مدفع السحور الأول..وكانت
الأتاريك (الجلاسي) فوق مكتبنا، وقد تسببت لبعض الموظفين بالحساسيات
من الغاز عند الإطفاء المفاجىء للأتريك وصعود الأدخنة منه تلك التي
تدخل في جوف الإنسان وتجعله (يكح) بشكل غير طبيعي..ثم رؤى بعد كل
التجارب في العمل الليلي أن العمل في النهار هو الأفضل، فصدرت قرارات
مع بدايات تكوين مجلس الوزراء الذي أسس عام 1373هـ، بأن يكون العمل
في أيام شهر رمضان نهاراً من الساعة العاشرة صباحاً حتى الرابعة
عصراً ولا زال هذا التوقيت سارياً حتى الآن.
ومن أجل مظاهر رمضان الشعبية (المسحراتي) ونقره على طبلة لها
إيقاع خاص ولذيذ، خاصة عندما يقول: (إصح يا نايم وحّد الدائم)..
والهدف منها تنبيه الناس لتناول السحور قبل أذان الفجر.. لأنهم في
تلك الأزمنة كانوا ينامون مبكرين ومنهم من يفوتهم السحور بسبب النوم
أما الآن فالقوم سهارى نهارهم ليل وليلهم نهار على طول أيام السنة
ولم يعد للمسحراتي أي دور الا من حيث الشكليات هذا إن وجد.
عشرة القماشين: وهي العشرة الثانية من رمضان، وفي خلال هذه الأيام
المباركة تشترى الاقمشة للذكور والإناث والأطفال لتجهيزها للعيد
السعيد، مع التوابع الأخرى كالفنايل والسراويل والكوافي والإحرام
المطرز والمداس المزركش، والتاسوما وبعض العوائل تقوم بخياطتها..
عشرة الخياطين: وهي العشرة الأخيرة من رمضان وفي خلالها يشتد
التزاحم عليهم والرجاءات تلو الرجاءات في أن تكون الخياطة جيدة
وحلوة.. وأحياناً يتأخر بعض الخياطين في تسليم ما أوكل إليهم حياكته،
فإن كان للولد ثوبان لا يحصل الا على ثوب واحد (وهات يا ركض..ويارمح)
وترى الأولاد يزوغون من البيوت ذهاباً وإياباً للخياطين.. منهم
الفرحان، ومنهم الزعلان والدموع على الخدين تجري..
ولا تسل عن المهتمين بالعمائم وخياطة الجبب والشايات والصداري
يذهبون الى الخياطين لاستطلاع أخبار الفراغ منها وعن ملابس أولادهم
وبناتهم، وقد كان الناس في تلك الأيام يرتدون الملابس الحلوة الزاهية
الا في يوم العيد..
ولكن أليست هي الفرحة بالعيد؟.. وبالأجر والثواب الذي منحه الله
لعباده الصائمين وأن يجزيهم ثوابهم بأداء زكاة الصوم التي تسمى بـ
(الفطرة) وقد وزعوها على المحتاجين والمساكين الذين يتطلعون بشغف الى
هذا العون المادي أو العيني كما جاء في أحاديث رسول الله صلة الله
عليه وسلم ومنها ما رواه البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
قال رسول الله صلى عليه وسلم (زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو
والرفث، وطعمة للمسكين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن
أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات).
أما الحلاقون فإن الزحام عليهم يبدأ في الخمسة الأيام الأخيرة من
رمضان سواء للرجال أو الأطفال وكل عائلة لها حلاق مخصوص تعودوا
عليه.. ويكاد يكون شهر رمضان من المواسم الهامة للحلاقين لتحسين
مواردهم ورفع مستواها..
وقبل حلول عيد الفطر المبارك يؤتى بأناس مخصوصين لنفض الجلايل
بالعصي لإزالة ما علق بها من تراب، ثم يتم غسل الجدار والرواشين
بالمياه، وإذا إحتاج الأمر الى تجديد رخام الغرف فيؤتى بمن يضع
الرخام ـ صناعة محلية ـ على هذه الجدران، إذ لم تكن البويات الزيتية
والبلاستيكية والاستنمبر متوفرة في تلك الأيام.. والرخام حار جداً
يطفأ الماء فيغلى غلياناً عالياً، وحتى يبرد يضاف عليه الملح الحجري
أو البحري..
ويشعر الناس في تلك الأيام بفرحة العيد عندما يكون راعي البيت قد
أمَّن لأهله ولأولاده وبناته ملابس العيد الجديدة، تلك التي تجري
خياطتها في داخل المنزل أو عند الخياطين إذ كان الناس في تلك الأيام
يشترون كساوي أهلهم وأولادهم وبناتهم مع من يتفقدونهم من الأهل
والأقارب إن كانوا في حاجة الى هذا التفقد، أو الذين يعرفون أنهم في
حاجة الى تأمين كسوة العيد لهم ابتغاء مرضاة الله وكسب الأجر
والثواب..
نعود مرة أخرى الى البيوت وأهلها عندما يأخذون في الثلاثة أيام
الأخيرة من رمضان في إعادة فرش منازلهم لإستقبال المعايدين لهم من
الأهل والأقارب والأصهار والأحباب ومن أهل الحارة وخارجها..
وللإشارة الى حلاوة هذه الذكريات نقتبس من كتاب (مكة في القرن
الرابع عشر الهجري) لمؤلفه الأستاذ محمد عمر رفيع ما ورد عن
المفروشات ووسائل الإضاءة في تلك الأزمنة الخوالي:
(مفروشات البيوت والحجر تختلف باختلاف الاستطاعة، فمن كان في سعة
من الرزق نصب في حجرة أو حجرتين دكاكاً من الخشب يقولون عنها
(كرويتات) وواحدتها كرويتة توضع عليها أولاً (طواويل) من الطرف
وجرارات من القطن لإلانة الجلسة، تسبل على الدكاك وستائر من مختلف
الأقمشة، وتحلى الستائر المذكورة بزخرفة من صنع القطان، يقولون عن
الستارة (سجاني) واحدتها سجينة، ثم يضعون على الليانات القطنية غطاء
من الحرير أو القطن الناعم ويسمونه (بتيس) محلاة أطرافه (بالدنتيلة)
ويضعون بين جلسة الشخص والآخر مخدتين على بعض رصاً على الدكاك،
ويحيطون جدار الدكاك بمساند من الطرف ملبسة من نفس القماش الخاص
بالستائر الآنفة الذكر.. وتغطى المساند الى النصف بغطاء من جنس
الطوالات، وبعضهم يضع الطوالات مباشرة على الأرض في كثير من الأحيان
ومما كان يستعمل غطاء للطوالات حنابل من الصوف، يسمونها حنابل مقصص
من مصنوعات تركيا وتستعمل أحياناً غطاءً للشقدف أثناء السفر الى
المدينة المنورة أو الحج..
أما أراضي الحجر، ففي بيوت الأثرياء والوجهاء والأعيان يفرشونها
بالبسط الايرانية الصوفية، بل وكثير من متوسطي الحال يفرشون الحجر
بها على اختلاف في الجودة.. والفقراء ومن هم دون الوسط يفرشون غرفهم
بحنابل من القطن مخططة بالأسود والأحمر والأزرق تجلب من الهند أو
ببسط يسمونها (شمال) تصنع في جبال سراة الحجاز، أو في بيشة والطائف،
تصنعها نساء البادية بأيديهن..كل ذلك لازال متعارفاً استعماله الى
الآن وإن مازجه الكثير من مصنوعات أوروبا.
والحديث عن رمضان والسمر فيه يقودنا الى الحديث عن الإضاءة حيث
كانت قبل القرن الرابع عشر الهجري في مدن الحجاز سواء في البيوت أو
المساجد لا تعرف الا بالمسارج، والقناديل بالزيت، والشموع ولم تكن
إضاءة الشوارع معروفة اللهم الا على بعض أبواب دور الوجهاء والأعيان.
وأول ما عرف الإضاءة بالبترول: الغاز أو (الكاز) على لهجة المكيين
في عهد الأمير عبد الله باشا بن محمد بن عون، وضعت أول مسرجة (لمبة)
كانت من اللمبات الزجاج المعروفة (بنمرة أربعة) في دهليز بيت
الإمارة..وقد أخذ الناس يتقاطرون على مشاهدة هذا الضوء الوهاج الذي
لم يكن لهم به عهد.. ومنذ ذلك التاريخ أخذت الاضاءة بالغاز
تنتشر..وأخذ السماكرة يبدعون في أشكال الفوانيس التي توضع في جوفها
اللمبات وتحليتها بنقوش وأنواع من الزجاج الملوّن..ثم أخذت تتوارد
لمبات سميت (كشافات) بعضها للتعليق وبعضها للوضع على كراسي خاصة، وهي
عبارة عن لمبة ذات فتيل مدوَّر أقوى إضاءة وتوهجاً.. أما ما يتعلق
منها فله صينية من الصفيح المدهون تعكس الضوء الى أسفل محلاة أطراف
الصينية بإفريز مزخرف تتدلى منه شرابات من البلور والكريستال..
ثم توارت مسارج سميت (قمريات) لا حاجة معها الى ما يوضع على أعلى
المسرجة من زجاج لامتصاص الدخان، بل هي مزوّدة بآلة تملأ كما تملأ
الساعة، تدير مروحة صغيرة في جوفها تطرد الدخان، وجاء بعدها ما يسمى
(الأتاريك) ذات فتيل مخصوص وتركيب مخصوص منها ما يعلق ومنها ما يوضع
على كرسي، له ضوء الكهرباء، تمتاز في تركيبها بأنه يخالط الغاز من
الثقب الى جوف الفتيلة بعد أن تشتعل بالأسبيرتو (الكحول) تظل بعدها
مضيئة الى أن ينتهي الغاز أو يضعف ضغط الهواء.
أما الحرم المكي والمدني فقد ظلا في العهد العثماني والى آخر عهد
الحسين بقناديل الزيت والشموع، فينار الحجر وباب الكعبة المشرفة
بشمعدان من المعدن المموه بالفضة أو من النحاس الأصفر، وكانت الشموع
ضخمة، تصنع خصيصاً لذلك.. كان حول المطاف سياج من القناديل المضاءة
بها الأرواق.. وكان في الحصاوى أعمدة على شكل نخل مدلى من طرف كل
جريدة قنديل إذا أسرح كان منظره ظريفاً.
على أن الملك الحسين، في آخر عهده كان قد أضاء الحجر بالأتاريك،
وأخيراً جلب آلة صغيرة أضيء بها المطاف.. وكانت حلقات الدروس التي
تقام في المسجد الحرام يوضع بجوار المدرس فانوس يحوي شمعتين أو
ثلاث.. أما الطلبة فكان يصحب كل واحد منهم مصباحاً يسمونه (لاله)
وأظنها كلمة تركية.
الإحتفال بالعيد
نعود مرة أخرى للحديث عن الأطعمة اللذيذة التي تهيأ إستعداداً
لاستقبال عيد الفطر المبارك كـ (الدبيازة) وهي خليط من قمر الدين
واللوز الحجازي المحمر والمشمش والمجفف وحبات التمر المجفف بني اللون
ياتي متشابكاً في خيط وهو أهم عناصر هذه الدبيازة وتصنع من السمن
البري الممتاز. كما تزدحم الأفران بصواني (المعمول) وهو يصنع غالباً
في منازل العوائل وله قوالب مخصوصة يحشى باللوز والجوز والفستق..
وبعضه يحشى بالتمر بعد جعله كالعجين يضاف عليه شيء من مسحوق الزنجبيل
والقرفة والهيل..إلى آخر هذه التشكيلة الحلوة الزاهية، وكذلك أقراص
الغُرَيِّبة الموشاة بحبات اللوز والإكليل الأبيض، وكل عائلة تتباهى
بمعمولها.. كما يتهادونه في أطباق تضم بعض قطع المعمول مع قليل من
الديبازة.. كما تشتري العوائل أنواعاً من الجبن الأبيض والتركي أو
اليوناني مع أنواع من الزيتون وأنواع من المربيات يصنعونها في بيوتهم
كالسفرجل والدباء.. وكذلك الاقبال على شراء حلويات العيد التي كانت
تصنع محلياً وتلك التي تستورد من الخارج كالحلاوة الشوكولاته،
والحلاوة اللوزية التي كانت تستورد من بعض الأقطار العربية، والحلاوة
الليمونية أما المكسرات فكان بعضها جديداً، وبعضها قد دخله السوس..
وفي اليوم الأول من أيام عيد الفطر المبارك وقبل وبعد أداء صلاة
العيد في المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف والمساجد الأخرى
تتعالى الأصوات بذكر اله (الله أكبر..الله أكبر لا إله الا
الله..الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر كبيرا، والحمد لله
كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا..لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه
مخلصين له الدين ولو كره الكافرون.. لا إله الا الله، الله أكبر ولله
الحمد.. اللهم صلي على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد وعلى أصحاب
سيدنا محمد وعلى أزواج سيدنا محمد وعلى ذرية سيدنا محمد.. وسلم
تسليماً كثيرا).
وهذه من أحلى مباهج العيد ومظهره.. إن فيها ذكر الله وتعظيمه
وتوقيره على ما منَّ علينا من نعمائه وفضله، ثم تثنى بالصلاة والسلام
على رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ثم إن الضجيج بذكر الله والصلاة
والسلام على رسوله صلى الله عليه وسلم يعتبر بمثابة الدعاء لاستنزال
رحمة الله وبركاته علينا.. فالمسلمون يعيشون مظاهر وحقائق محن سياسية
واقتصادية لا تزال الا برحمة الله وبركاته.. ثم يذهب الناس الى بعضهم
البعض ويحرصون أن يكون اليوم الأول للأهل والأصهار.. أما في الأيام
التالية فتوزع على عدة حارات بحيث يذهب الأب الى أصدقاء معينين..
ويذهب أبناؤه الى آخرين، ثم يتبادلون الزيارات فيما بينهم بعد أن
تسجل أسماء بعضهم البعض.. وكم كنا نمشي على أقدامنا بلباس العيد
الزاهي ثم نعود وقد غرقنا في العرق وما علا وجوهنا من غبار وما
أصابنا من كبد طول المشاوير وعرضها ونحن ننتقل من بيت الى بيت نتناول
فيها القهوة والشاي أو العصير أو الماء البارد المبرد، وتقدم ثلاثة
صحون عليها بعض المكسرات والحلوى المشكّلة يتناول الضيوف ما يريدون
منها، ثم يقوم المباشر بتغطية الصحون بقطعة جميلة من القماش حواشيها
مطرزة بخيوط ذهبية وهذا ما يتم من الصباح الباكر حتى بعد صلاة الظهر
ثم نعود في العصاري نوالي الزيارات لمن زارنا ولمن لم يزرنا بعد..
وبرغم التعب الذي كنا نشعر به إلا أن مشاعر التواصل في هذه المناسبة
الكريمة تعتبر من أجمل المشاعر الزاخرة بالمحبة والمودة وبإزالة
الجفوة إن كان ثمة جفوة قد حدثت بين هذا وذاك.. ويتبادل الناس فيما
بينهم عبارات التهنئة (كل عام وأنتم بخير).. (من المقبولين إنشاء
الله).. (جعلكم الله من العائدين الفائزين).. ويكون الجواب في الغالب
إن شاء الله نحن وأنتم وجميع المسلمين.
أفلا يحمل معنى (العيد) هذه المعاني لغسل القلوب والنفوس مما ران
عليها من كدر تجعل الواحد منا يشعر بكثير من الفرحة والبهجة عندما
تصفو نفس صاحبه بزوال أسباب تلك الفجوة التي حدثت.. إن هذه المناسبات
تعتبر من أحلى المناسبات لتصفية القلوب مما ران عليها لأن الجفاء بين
الناس وتعكير صفو قلوبهم قد لا يجوز في الأعراف كما لا يجوز في سماحة
ديننا الحنيف الذي أوصانا وشدد في توصياته بأن نزيل الجفوة وأن نعود
الى بعضنا البعض بالصفاء والمحبة والوداد..
وهذه وتلك من أبرز ملامح الأعياد، وخاصة (العيدية) التي تحرك
تطلعات الأولاد والبنات وخاصة الصغار لشراء لعبة، أو أكلات العيد
الخفيفة المنتشرة في الأسواق أو الذهاب الى مواقع (المدارية) والتي
تسمى الآن بـ (المراجيح).. وممارسة الألعاب الأخرى كالمكبت والبرجوة
والكبوش مماسبق ذكره..
ناهيك عن الحفلات التي يقيمها سراة وأعيان القوم والقبائل احتفاء
بهذه الأعياد.. ولازالت هذه العادة قائمة على عهدنا بها في منطقة
الحجاز وفي نجد والمناطق الأخرى.. وإن كان بعض سراة القوم وأعيانهم
وأثرياهم يفضلون قضاء الأعياد: منهم من يقضيها في الخارج.. ومنهم من
يقضيها بين النوم والاسترخاء، أو على أحد الشواطىء أو في البراري
القريبة من المدن، غير أن بهجة العيد تظل مرتسمة دائماً على محيا
الناس وبالذات الأطفال في ذهابهم الى الملاهي البريئة من باب الشعور
بالفرحة والإبتهاج.. وإن كانت هذه الملاهي تستمر طيلة أيام السنة،
إلا أن الإقبال عليها في أيام العيد يزداد بشكل مكثف..
ولا ننسى الصلة البريدية أو البرقية أو الفاكس الذي فنَّ علينا
أخيراً لتبادل التهاني من باب التذكير والإهتمام بالإصدقاء، وهي لاشك
لطيفة ورقيقة إلا أن كثيراً من الناس لا يهتمون بها قدر إهتمامهم
بالزيارة المباشرة الشخصية.. (ربنا ما يقطع لنا عادة إن شاء
الله)..إذ هي مظهر من مظاهر التواصل بين أفراد المجتمع وهي أيضاً
بمثابة تعبير عن المودة وصفاء النفس والقلب والفؤاد..
وتنفرد مكة المكرمة في أيام عيد الأضحى المبارك بانشغال الجميع في
خدمة حجاج بيت الله الحرام فيما بين مكة المكرمة والمشاعر المقدسة
لأن ذلك هو الموسم الذي تزدحم به مكة المكرمة عندما يؤجرون بيوتهم
القريبة من الحرم، ولأن معظم السكان كانوا يستأجرون هذه البيوت وعند
قدوم الحجاج يؤجرونها عليهم ويكتفون بغرفتين أو ثلاث في الأدوار
العليا مما يسمى بـ (الدقيسي) و(الطيرمة) والأسطح التي حولها
للإستعانة بموارد هذا التأجير لدفعها لأصحاب المُلك أو الوقف كما
يستفيدون مما يفيض من هذا الأجر للتوسع في أعمالهم أو للتوسع في
إعطاء أهلهم وأولادهم وكسوتهم وسداد ما كان عليهم من ديوان للآخرين..
وللبيوت على كل حال أسرارها وأوضاعها التي لا تخفى على فطنة
القارىء.. وعندما يغادر الحاج المنزل عائداّ الى بلاده يتنفس أهل
البيت الصعداء فيعودون مرة أخرى إلى إعادة أثاث البيت الى مواقعه ثم
البدء في تبادل الزيارات بين العوائل والأرحام والأصهار. |