الإفتاء في مكة المكرمة والمدينة المنورة (ما قبل
الحكم السعودي)
د. عبدالوهاب ابو سليمان
|
د. عبدالوهاب ابو سليمان
|
انتظمت خطة الإفتاء في مكة المكرمة والمدينة المنورة
نهاية القرن الثالث عشر وفي النصف الأول من القرن الرابع
عشر الهجري/ العشرين الميلادي بصورة رسمية منظمة، واستقرت
حسب الهيكل التالي: رئيس الإفتاء ـ وكيل الرئيس ـ أمين
الفتوى ـ مساعدون من فقهاء ـ وكتبة، ومحررين.
كان لكل مذهب مفتون مختصون به، تتوجه اليهم استفتاءات
العامة حسب مذاهبهم. تزودنا مصادر التاريخ المكي بدراسة
مفصلة عن خطة الإفتاء في مكة، وتضن مصادر المدينة المنورة
بتزويد الباحث بالتفصيل المطلوب عن خطة الإفتاء بها، خصوصاً
في تلك الحقبة الزمنية. والواقع ان الباحث يتلمس حقائق
الإفتاء، وواقعه في المدينة المنورة من خلال التراجم المدونة،
ولعل الدراسات تكشف مستقبلاً عما يتطلبه البحث من تفصيلات
في هذا الجانب الإسلامي الحضاري.
مفتو الحنفية في مكة المكرمة
تناول الحديث عنهم بإطناب المؤرخ الشيخ عبدالله غازي،
فيذكر ان رئيس الفتوى مع بداية القرن الرابع عشر الهجري/
العشرين الميلادي كان العلامة الفقيه الشيخ عبدالرحمن
جمال بن عثمان جمال، وكان بارعاً في الفقه. أقرّ له قرناؤه
بل أعداؤه بذلك. وكان عظيم الهمّة مع عفّة النفس، وعدم
التنازل الى سفاسف الأمور. مكث هو المفتي الحقيقي بمكة
المكرمة، صاحب البراءة السلطانية، الى أن توفي سنة 1290هـ/
1873م، وإن تخلّى عنها أحياناً وقام بها غيره بغير أمر
سلطاني.
ولما صار الشريف عبدالمطلب بن غالب أمير مكة سنة 1297هـ/
1879م عزله، وولى بعده السيد أحمد بن عبدالله الميرغني،
وما لبث ان ضعف أمر الشريف عبدالمطلب، وتخلى السيد أحمد
عنها، فرجع لها الشيخ عبدالرحمن.
وكان للشيخ عبدالرحمن مع الوالي عثمان باشا من الإتحاد
ما غير عليه خاطر الشريف عون، وعزل عثمان باشا، فكدره
الشريف وعزله يوم قدومه من المدينة. وولي بدلا منه الشيخ
صالح كمال ابن الشيخ صديق كمال (ت 1332هـ/ 1913م) وبقي
الشيخ صالح يفتي الى أن كان على أخيه الشيخ علي كمال من
الشريف عون تحقير وإهانة ما حمله على الإستقالة من الفتوى،
فولى بدله الشيخ عباس ابن جعفر بن صديق (ت 1320هـ ـ 1902م)
وكان أمين فتواه الشيخ الفيض عبدالستار الصديقي الحنفي.
ذكر هذا في ثبته (نثر المآثر في من أدركت من الأكابر)
في ترجمة شيخه عباس بن جعفر قال: (وتولى الإفتاء بمكة
من طرف أميرها الشريف عون الرفيق، وقد جعلت حفظه الله
أمين الفتوى عنده).
ثم رضي الشريف عون عن الشيخ عبدالرحمن ورجع الفتوى
اليه وبقي بها مدة ثم عزله وولى الشيخ عبدالله بن الشيخ
عباس المذكور؛ ثم صدر الأمر على الشيخ عبدالرحمن بمبارحة
مكة، فسافر الى مصر، وتوفي عام 1314هـ/ 1896م، في رابع
شهر رمضان، وحزن أهل مكة عليه.
بقي الشيخ عبدالله بن عباس بن صديق مفتياً؛ وجاءت أوامر
السلطنة بإرسال وفد الى صنعاء اليمن، فأرسل الشريف جماعة،
منهم الشيخ عبدالله المفتي المذكور، فتوفي هناك في شهر
رمضان سنة 1325هـ/ اكتوبر 1907. وولاه امير مكة منصب الإفتاء
الحنفي في العام الحادي عشر بعد الثلاثمائة والأفف، وكان
وكيله في الإفتاء الشيخ عبدالله أبو الخير.
قال الشيخ جعفر: وبعد وفاة الشيخ عبدالله بن عباس وجه
الشريف علي الفتوى الى الشيخ عبدالله بن المرحوم الشيخ
عبدالرحمن سراج، ألبسه خلعتها صبيحة عيد الفطر بعد صلاة
العيد. وكان أمين الفتوى في عهده الشيخ درويش العجيمي،
فقد أصدر أمير مكة الشريف علي باشا أمراً بتعيينه في هذا
المنصب فتولى أمانة إفتاء الأحناف من عام 1325هـ الى عام
1343هـ/ 1907م الى عام 1924م.
أما بالنسبة لعدد المفتين الأحناف، فقد ذكر المؤرخ
الشيخ عبدالله غازي أن جملة من ذكروا من المفتين تسعة
وعشرون.
مفتو المالكية بمكة:
انحصرت فتوى المذهب المالكي في نهاية القرن الثالث
عشر وبداية القرن الرابع عشر الهجري/ التاسع عشر وبداية
القرن العشرين الميلادي في مكة المكرمة في بيت الشيخ حسين
ابراهيم المالكي. فقد تولى إفتاء المالكية بمكة الشيخ
حسين بن ابراهيم بن حسين بن محمد بن عامر المالكي سنة
1262هـ/ 1846م، كما (انعم عليه أمير مكة الشريف محمد بن
عون بوظيفتي الخطابة والإمامة بمقام المالكي، وكتب له
تقريراً بذلك، ورتب له مرتبات... وله جملة مؤلفات. توفي
رحمه الله في ليلة الأحد العاشر من شهر ربيع الآخر سنة
1293هـ).
وتولى افتاء المالكية بمكة المكرمة من أبنائه إثنان:
الشيخ محمد، وقد توفي بمكة في محرم 1309هـ، وتولاه بعده
الشيخ عابد ثم عزل عنها سنة 1310هـ، ليتولاها الشيخ محمد
المنصوري المصري المالكي، ثم اعيدت الى الشيخ عابد سنة
1323هـ في زمن أمير مكة الشريف علي بن الشريف عبدالله.
مفتو الشافعية بمكة:
تولى إفتاء الشافعية بمكة المكرمة أعلام كبار، كان
لهم تأثير كبير ليس على المجتمع المكي فحسب، بل تجاوزه
الى كثير من البلاد الإسلامية أيضاً، يأتي في مقدمتهم:
السيد أحمد بن زيني دحلان (ت 1304هـ/1887م). ثم عين السيد
حسين بن عيدروس الحبشي في منصب الإفتاء، ثم عزله الشريف
عون، وعين السيد محمد سعيد بابصيل (ت 1330هـ/ 1912م) في
الإفتاء. ولما توفي هذا، أسند منصب الإفتاء مرة ثانية
للسيد حسين الحبشي، ولم يزل في المنصب الى أن توفي في
نفس العام 1330هـ/ 1912م.
تولى الإفتاء بعد ذلك الفقيه الشيخ عمر بن أبي بكر
باجنيد المكي (1270-1354هـ/ 1854-1936م) وقد كان له ممارسة
سابقة بوظيفة الإفتاء، وثقة كبيرة به ممن سلفه. ففي أواخر
حياة شيخه محمد سعيد بابصيل، عين أميناً للفتوى معه، كما
أن الحبيب حسين الحبشي لم يقبل وظيفة الإفتاء إلا بشرط
أن يكون الشيخ عمر عوناً له فيها، وقد أجبره الشريف حسين
بن علي على تولي الإفتاء، فقبل لتعيين ذلك عليه، وكان
فيه محمود السيرة كثير الورع والمهابة.
ومن المفتين السيد بكري شطا الشافعي (1266-1310هـ/
1850-1893م) علامة ام القرى وابن عالمها، الجامع بين طارف
المجد وتالده) كما وصفه احدهم. اشتغل بالتصنيف والتأليف
حتى بلغت مؤلفاته من الإتقان الغاية، فمن مؤلفاته: رسالة
تتعلق بجواز العمل بالقول القديم للإمام الشافعي رحمه
الله في صحة الجمعة بأربعة، ومنها رسالة تتعلق بشرط الجمعة
وجواز تعددها بقدر الحاجة في بلدة واحدة. ومنها رسالة
بديعة اجاب فيها عن سؤال رفع له في هذه القضية؛ ومنها
عدة رسائل في فنون شتى وأجوبة عن أسئلة في الفقه رفعت
اليه.
ومنهم الحبيب السيد حسين حبشي، مفتي الشافعية بمكة
المكرمة وابن مفتيها السيد العلامة محمد بن حسين بن أحمد
الشافعي، أحد أكابر مكة العاملين. قدم مكة المعظمة ولازم
بها مفتيها السيد أحمد دحلان، فقرأ عليه كتباً عديدة في
فنون شتى، وبه تفقه وعليه تخرج وأجازه بجميع مروياته وسائر
مؤلفاته. ولما عزل والي الحجاز مفتي الشافعية بمكة السيد
أحمد دحلان سنة 1304هـ أقام حبشي مفتياً. وحين توفي الشيخ
المفتي محمد سعيد بابصيل أعاد امير مكة الشريف حسين بن
علي تنصيبه مفتياً. كان رحمه الله تعالى ظاهر الفضل باهر
العقل مع التواضع والذكاء العجيب والصلاح.
وآخر من تولى إفتاء الشافعية ببلد الله الحرام من الفقهاء
الشافعية بمكة المكرمة كان الفقيه السيد عبدالله بن محمد
صالح الزواوي (1266-1343هـ/ 1850-1925م).
مفتو الحنابلة بمكة:
لم يكن المذهب الحنبلي منتشراً بمكة المكرمة بخاصة
وبلاد الحجاز بعامة، فقد قل اتباعه، ومن ثم مرت بعض الأوقات
في تاريخ المذهب في مكة المكرمة التي شغر فيها منصب الفتيا
حيناً، أو يتولاه فقيه من فقهاء المذاهب الأخرى حيناً
آخر.
من هذا ما جاء في ترجمة الشيخ محمد بن يحي بن ظهيرة
المكي القرشي الحنفي (ت 1271هـ/ 1855م) أنه تولى إفتاء
الحنابلة، ونقل الشيخ عبدالله مرداد أبو الخير ان الشيخ
محمد ابن حميد ذكر في كتابه (السحب الوابلة): (أنه ـ أي
ابن ظهيره ـ مكث في الإفتاء فوق الثمانين سنة، وكان يكتب
له الفتوى الشيخ يوشع سنبل المكي، ثم من بعده شيخنا الهديبي،
ثم من بعده الحقير ـ ويعني الشيخ محمد بن حميد نفسه تواضعاً
ـ ولم أر أحداً مكث في الفتوى مثله، وحين توفي كان له
من العمر مائة وبضع عشرة سنة).
وفي ذكر التسلسل التاريخي لمفتي الحنابلة بمكة المكرمة
يذكر الشيخ عبدالله مراد ابو الخير قائلاً: (وكانت الفتوى
على مذهب الحنابلة بمكة متعطلة لسنين بعد موت مفتيها الشيخ
محمد بن ظهيرة في سنة 1217هـ الى أن وليها الشيخ محمد
بن عبدالله بن حميد العنزي ثم المكي الحنبلي المتوفى سنة
1295هـ).
وتولى الفتيا بعد وفاته ابن علي، وجلس عدة أشهر ثم
عزل عنها، ووليها الشيخ خلف بن ابراهيم الحنبلي، ومكث
فيها الى أن توفي بمكة، ثم وليها الشيخ أحمد بن عبدالله
فقيه المكي، وكان شافعي المذهب، فأمر الشريف عون الشيخ
أحمد المذكور بتقليد مذهب الإمام أحمد فقلده، ثم ولاه
إفتاءه، ومكث فيها الى سنة ابتداء الحرية سنة 1326هـ/
1908، ثم عزله منها الشريف، وولى الشيخ أبا بكر خوقير
إفتاء المذكور، ثم بعد نحو يومين عزله، وولى الشيخ عبدالله
بن علي ابن محمد بن عبدالله بن حميد مفتياً.
ثم يتم الشيخ عبدالله غازي تسلسل الإفتاء للمذهب الحنبلي
بعد ذلك بمكة فيقول: (ثم استعفى الشيخ عبدالله عن الإفتاء
فأقام سيدنا الشريف حسين مقامه في الإفتاء الشيخ عمر باجنيد
الشافعي، ومكث فيها الى انقلاب الدولة الهاشمية وتوفي
الشيخ عبدالله بن حميد المذكور في الطائف). وبه تنتهي
سلسلة المفتين الحنابلة مع نهاية النصف الأول من القرن
الرابع عشر الهجري/ العشرين الميلادي.
مفتو المدينة المنورة
وبالتنظيم نفسه لخطة الإفتاء في مكة المكرمة، سارت
خطة الإفتاء بالمدينة النبوية المشرفة؛ حيث كان يعين لأصحاب
كل مذهب المفتون المتخصصون في المذهب، فممن تولى فيها
الإفتاء:
مفتو الحنفية:
ـ تاج الدين بن جلال الدين إلياس زادة.
ـ أحمد ابراهيم بن الخطيب أحمد البري.
ـ السيد أسعد أفندي بن أبي بكر الإسكداري.
ـ عبدالكريم بن عبدالله الخليفتي العباسي.
ـ عبدالله عبدالكريم الخليفتي.
ـ محمد زين العابدين بن عبدالله الخليفتي.
ـ محيي الدين بن أبي الغيث مغلباي الحنفي.
ـ الشيخ عبدالله أفندي الإسكداري (1095-1154هـ/ 1684-1742م).
وممن تولى إفتاء المالكية:
ـ السيد أحمد الجزائري المدني بن أحمد عبدالقادر الجزائري،
المالكي. ولد بالمدينة وأخذ عن فضلائها، وتوفي سنة 1333هـ.
ـ الإمام الشهير بالخضر، محمد بن ما يأبى الشنقيطي،
المدني. جاء الى الحج وزار المدينة، وجاور بها، الى أن
صار مقرباً عند أشراف مكة وأمرائها، فولوه مشيخة المالكية
بالمدينة وناظر أوقافها.
وممن تولى إفتاء الشافعية:
ـ السيد علي السمهودي، والسيد عبدالرحمن بن السيد علي
السمهودي.
ـ محمد بن سليمان الكردي المدني، والسد علي بن السيد
حسن البرزنجي.
ـ السيد جعفر بن حسن بن عبدالكريم البرزنجي.
ـ زين العابدين بن سعد المنوفي الشافعي، المشيشي.
ـ إلياس بن عثمان الكردي الشافعي.
ـ محمد أبو الطاهر الملا إبراهيم الكوراني الشافعي.
ـ السيد إسماعيل بن السيد زين العابدين بن محمد البرزنجي.
ـ السيد جعفر بن إسماعيل البرزنجي (1250-1317هـ/ 1835-1900م).
ـ عثمان بن عبدالسلام بن أبي بكر بن عبدالسلام بن محمد
أمين بن شمس الدين الشرواني (1269-1325هـ/ 1853-1908م).
مفتو الحنابلة في المدينة:
لم تشر المصادر الى أسماء من تولى الإفتاء بها على
المذهب الحنبلي، وقد يكون هذا لعدم وجود من كان يتمذهب
بهذا المذهب، أو ندرة وجودهم، ويفترض وجود المفتي لإكمال
دائرة المذاهب الأربعة من حيث خطة الإفتاء المتبعة في
رصيفتها مكة المكرمة. ولعل البحث والدراسة في المستقبل
يشكفان عن هذا الجانب بما يخدم البحث في تلك الحقبة.
وممن تولى الإفتاء بالمدينة المنورة: ابراهيم بن عبدالقادر
بن عمر بري: فقيه حنفي... وكان مرجعاً للفتوى في العهد
العثماني، وعين قاضياً في العهد السعودي سنة 1344-1346هـ.
|