مسجد البيعة
حافظت الأمة على هذا المكان المبارك قروناً طويلة بعد
أن شهدت البيعات الثلاث (الرضوان/ بيعتا العقبة)، ووثقت
موقعها منذ وقت مبكر جداً في القرن الثاني الهجري (الثامن
الميلادي)، عصر التابعين، حسب التدوين المتواتر، وربما
في وقت متقدم على هذا، وذلك بمشهد من بعض حضور البيعة
من الصحابة أنفسهم رضي الله عنهم، فبني في مكانها مسجد
تتويجاً لجهاد النبي صلى الله عليه وسلم، بالنصر والمؤازرة،
ومن ثم اعتنى به الخلفاء عمارة وتشييداً؛ تحقيقاً لقول
الله عز وجل: (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم
الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى
أولئك أن يكونوا من المهتدين).
|
صورة قديمة لمسجد البيعة
|
|
صورة أخرى لمسجد البيعة قبل
هدم ما حوله
|
|
نقش لمسجد البيعة غير مؤرخ
|
|
نقش آخر مؤرخ بعام 144هـ
|
|
مسجد البيعة عام 2007
|
وقد تم توثيق مشهد هذا الحدث التاريخي ببناء مسجد البيعة
في المكان الذي تمت فيه مبايعة الأنصار لرسول الله (ص)؛
وقد تابع المؤرخون والفقهاء الأعمال الإنشائية لهذا الموقع،
إذ أصبح رمزاً خالداً من رموز التاريخ الإسلامي، وأحد
مساجد الإسلام القديمة المأثورة المتواترة. وقد تناوله
المحدثون والفقهاء والمؤرخون بالسرد التاريخي لبدايته
والتحليل العلمي لنتائج البيعة بين رسول الله (ص) والأنصار،
رضي الله عنهم. كانت المعاهدة بين رسول الله (ص) والأنصار
النواة الأولى للدولة الاسلامية في التاريخ، وقد تم تشييد
مسجد البيعة تخليداً لتلك الذكرى. ويسمى مسجد البيعة بمسجد
العقبة ايضاً.
الموقع الجغرافي
في دراسة مستقلة عن مسجد البيعة جاء: (إن الذين اهتموا
بتاريخ مكة وما حولها لم يختلفوا في تحديد الموقع الجغرافي
لمسجد البيعة في القديم والحديث. ومن هؤلاء: الأزرقي والفاكهي؛
والفاسي؛ والزوواي؛ والقطبي، رحمهم الله... ومن جاء بعدهم
اعتمد على رواياتهم... ويقع بناء مسجد العقبة على يسار
الذاهب الى منى وراء جمرة العقبة الكبرى بيسير باتجاه
مكة المكرمة، وفي شعب من شعاب جبل ثبير على يسار الداخل
الى منى).
يبعد مسجد البيعة عن جمرة العقبة في الاتجاه الى مكة
المكرمة نحو حي الششه، ما يزيد على خمسمائة متر تقريباً،
في شعب خلف جبل العقبة الضخم، وقد توارى المسجد من خلفه،
بحيث لا يبدو للمار في طريق منى سواء اتجه اليها شمالا
الى مكة، او جنوباً الى منى... إن مكان المسجد الطبيعي،
بما يحيط به من جبال وتواريه عن ناظر المارين، ينطق بصحة
المكان، حسب وصف المحدثين والفقهاء والمؤرخين؛ حيث اختفى
فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوته، وفي مكانه بايعه
الأنصار دون علم قريش، وهو الإختيار المناسب للتواري عن
الأنظار. يتمثل موقع المكان ومنظره من خلال سرد قصة بيعة
العقبة الثانية.
هذا هو وصف موقع مسجد البيعة وواقعه قبل تطوير مشعر
الجمرات، وقبل ازالة جبل العقبة الضخم عام 2007م والذي
استمر مدة عامين.
مسجد البيعة واهتمام الخلفاء المسلمين
شعر الخلفاء المسلمون منذ وقت مبكر في عصر التابعين
بأهمية مكان البيعة للمشهد الإسلامي حاضراً ومستقبلاً؛
ومن ثم خلّد التاريخ أسماء الخلفاء الذين عمّروه، وحافظوا
عليه حتى وصل الينا. ففي سرد تاريخي يذكر قاضي مكة وفقيهها،
الإمام المحدث الحافظ أبو الطيب تقي الدين محمد بن أحمد
بن علي الفاسي المكي المالكي (775-832هـ/ 1354ـ1429م)
أسماء الخلفاء الذين اهتموا بتشييد هذا المسجد المبارك
الى زمنه، واصفاً لموقعه قائلاً: (وهذا المسجد بقرب العقبة
التي هي حدّ منى من جهة مكة، وهو وراء العقبة بيسير الى
مكة، في شعب على يسار الداخل الى منى، وفيه حجران مكتوب
في أحدهما: أمر عبدالله أمير المؤمنين، أكرمه الله ببنيان
هذه المسجد، مسجد البيعة التي كانت أول بيعة بايع فيها
رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار بعقد عقده له العباس
بن عبدالمطلب رضي الله عنه. وفي الآخر: تعريفه بمسجد البيعة
وانه بني في سنة أربع وأربعين ومائة).
وأمير المؤمنين المشار اليه هو ابو جعفر المنصور العباسي.
و(عمّره ايضاً المستنصر العباسي على ما وجدته مكتوباً
في حجر ملقى حول هذا المسجد لتخربه، وفيه: ان ذلك سنة
تسع وعشرين وستمائة) كما يقول الفاسي. ويضيف الفاسي واصفاً
المسجد كالتالي: (رواقان كل منهما مسقوف بثلاث قبب على
أربعة عقود، وخلفهما رحبة، وله بابان في الجهة الشامية،
وبابان في الجهة اليمانية، وطول الرواق المتقدم من الجهة
الشامية الى الجهة اليمانية ثلاثة وعشرون ذراعاً، وعرضه
أربعة عشر ذراعاً. والرواق الثاني نحو ذلك، وطول الرحبة
من جدارها الشامي الى اليماني: أربعة وعشرون ذراعاً ونصف
ذراع، وعرضها: ثلاثون ذراعاً وسدس، الجميع بذراع الحديد،
وأبواب كل رواق التي يدخل منها الى الآخر ثلاثة، وأكثر
هذا المسجد الى الآن متخرّب، وكان تحرير ما ذكرنا بحضوري).
وفي زيارة بحثية لمسجد البيعة عام 1421هـ/ 2000م، قام
بها معرج نواب مرزا، وعبدالوهاب ابراهيم ابو سليمان، عثرا
على الحجر الثالث الذي ذكره تقي الدين الفاسي المكي في
قوله: (وعمّره أيضاً المستنصر العباسي على ما وجدته مكتوباً
في حجر ملقى... الخ). وفيه أن ذلك سنة 629هـ.
وجد الباحثان الحجر الثالث في خارج الحائط الغربي للمسجد،
مغطى بطبقة من الدهان الأبيض، فأزالا تلك الطبقة، وكشفا
الحجر الذي نحتت عليه الكتابة، وأبرزاه للعيان، فأصبح
اللوح الحجري الثالث واضحاً ظاهراً مشاهداً مدوناً عليه
العبارة التالية: (بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على
سيدنا محمد. أمر بعمارته سيدنا ومولانا المفترض الطاعة
على كافة الأنام أبو جعفر المنصور المستنصر بالله أمير
المؤمنين أعز الله أنصاره وضاعف أقداره. وذلك في سنة خمس
وعشرين وستمائة).
واستكمالاً لتاريخ عمارة هذه المسجد المبارك، ذكر علي
بن عبدالقادر الطبري (ت 1070هـ/ 1659م) أن (الباشا حسن
المعمار التفت اليه ـ أي الى مسجد البيعة ـ بالتعمير في
دولة السلطان أحمد بن محمد خان، ثم عمّره الوزير أحمد
بن يونس في حدود أربعة وعشرين بعد الألف).
مسجد البيعة: ما بعد التطوير
انتهي من تطوير مشعر الجمرات عام 2008 فبدا المسجد
بارزاً للغادي والرائح لمنى.. وبعد إزالة الجبال من حوله،
اصبح المسجد ببنائه القديم ظاهراً بارزاً للعيان، في الجانب
الأيمن من مسار النازل من الجمرات في طريق التوجه الى
مكة، بل اصبح المسجد معلما بارزاً يشاهده المارة. ومن
ناحية البنيان، بقي المسجد على وضعه السابق، فكل ما جرى
عليه هو أنه جدد دهانه، وأحيط بالسلك الشائك. وقد طُرح
موضوع ازالة المسجد نهائياً على بساط بحث هيئة كبار العلماء،
كما هي العادة، فقررت في 15/2/1431هـ (الموافق 31/1/2010)
بقاء المسجد ومنع ما قد يحدث عنده من مخالفات شرعية ـ
بنظر اعضائها ـ في موسم الحج، واشترطت ايجاد مركز للتوعية!
لتلافي وقوع تلك المخالفات!!
|